مقتل البغدادي لا يعني نهاية “داعش”

بقلم كابي طبراني

“رجلٌ فاسدٌ وخطير”، هذا ما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن زعيم “داعش” أبو بكر البغدادي الذي كانت نهايته أخيراً في نفقٍ تحت الأرض في شمال سوريا. الرجل الذي أرهب ملايين العراقيين والسوريين، وقام بقتل اليزيديين بوحشية وعددٍ لا يُحصى من الضحايا، واستعصى على العالم طوال تسع سنوات مات موت جبان، بعدما قادته قوات العمليات الخاصة الأميركية إلى طريق مسدود، واضطر إلى تفجير نفسه جنباً إلى جنب مع ثلاثة من أولاده. المهمة السرية للغاية، التي نُفّذت يوم السبت الفائت (26/10/2019) بالتعاون مع الأكراد السوريين وكذلك العراق وروسيا وتركيا، هي بلا شك لحظة مهمة. إنها تُمثّل نهاية الفصل الذي بدأ عندما أسس البغدادي تنظيم “داعش” لإرهاب العراقيين والسوريين، وتُوَّج بإعلانه عن خلافة مُزيَّفة من منبر مسجد النوري في الموصل في العام 2014. لكن فيما يُعتبَر مقتله أمراً مهماً لأولئك الذين عانوا على أيدي التنظيم الإرهابي ولأمن العالم بأسره، فإنه لا يعني نهاية التهديد العالمي الذي يُمثّله.

كان البغدادي شخصية غامضة يعيش في الظل، ويتنقل بين المواقع لتفادي اكتشافه. وعلى الرغم من أنه لم يظهر سوى عددٍ قليل من المرّات في الأماكن العامة بعد تأسيس “داعش” من جذور “تنظيم القاعدة في العراق” في العام 2010، إلّا أن مقاطع الفيديو وخطاباته الوعظية الرنانة، التي بُثّت عبر الإنترنت، كانت لديها القدرة على جذب أتباع من جميع أنحاء العالم وتحويلهم إلى التطرّف، حيث توافدوا بالآلاف للإنضمام إلى ما يُسمّى الخلافة. على الرغم من إنهيار “داعش”، لا يزال الكثيرون يؤمنون بإيديولوجيته المتطرفة. هناك مئات الآلاف من أتباعه المُغالين في التطرف الديني، كثيرون منهم من المقاتلين الأجانب، ينتشرون في معسكرات في المنطقة ويُمثّلون تهديداً من طريق إعادة التشكيل والتجمّع. قد يكون البغدادي قد رحل، لكن سيكون هناك بلا شك قاتلٌ شريرٌ ومُفسِدٌ آخر، ينتظر في الأجنحة ليحل مكانه. سيكون من الخطأ الإعتقاد بأن موته يشير إلى نهاية “الدولة الإسلامية”. مثلما وُلِد “داعش” من مجموعة مُتطرّفة أخرى، فإن الجمرة المُميتة ستشتعل بلا شك ويندلع منها تهديدٌ فتّاكٌ آخر، طالما لم يتم معالجة الأسباب الكامنة التي أدّت إلى صعوده.

في آذار (مارس) الفائت، أعلنت الولايات المتحدة النصر على “داعش”، بعدما قامت القوات الأميركية، بمساعدة “قوات سوريا الديموقراطية” التي يقودها الأكراد، بسحق الجماعة الإرهابية في معقلها الأخير في باغوز. لقد فقد المتطرفون بالفعل جميع المكاسب الإقليمية في العراق قبل عامين. ولكن على الرغم من أن الخلافة قد سُحِقت، إلّا أن “داعش” لا تزال لديه مجموعة من الخلايا النائمة تنتظر إعادة تنشيطها في جميع أنحاء العالم، ليس فقط في سوريا والعراق ولكن في مناطق بعيدة مثل الصومال وأفغانستان وبوركينا فاسو. من تفجيرات يوم الأحد القاتلة في سريلانكا، والتي أودت بحياة أكثر من 250 شخصاً، إلى هجمات عدة قاتلة في الفلبين وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ما زال “داعش” يُزهق الأرواح في جميع أنحاء العالم، ويُحرّف عقول المُجنّدين الجدد، حتى من دون معقل إقليمي.

والأكثر إثارة للقلق هي النتائج التي توصل إليها تقرير نُشر في تموز (يوليو) الفائت وأصدرته “عملية الحل المتأصّل” (Operation Inherent Resolve)، التي تقودها الولايات المتحدة لمقاتلة “داعش”. لقد وجد التقرير أن “داعش” قد “عزز قدراته المسلحة في العراق وكانت ترتفع في سوريا” خلال الأشهر الثلاثة السابقة.

على الرغم من هذه النتائج المُثيرة للقلق، قررت واشنطن سحب معظم قواتها من سوريا، تاركةً حليفها الكردي عرضةً لهجومٍ تركي. وتحتجز “قوات سوريا الديموقراطية” ما يصل إلى 30 ألف عضو من “داعش” ومتعاطفين معه في معسكر “الهول”، كما تسجن الآلاف في سجون ومخيمات في شمال سوريا، وهي منطقة تريد تركيا تطهيرها من المقاتلين الأكراد. ويستفيد “داعش” من الفوضى من أجل العودة. نتيجة لذلك، فقد فرّ أكثر من 100 عضو من “داعش” بالفعل من معسكر “الهول” في وقت سابق من هذا الشهر.

بالنظر إلى هذه الحقائق على الأرض، فإن مقتل البغدادي قد يُلمّع سمعة دونالد ترامب قبل الحملة الإنتخابية لعام 2020 ، لكنه يُعدّ فقط بمثابة “وسام شرف” أكثر منه إنهاء المعركة ضد الإرهاب. كانت هناك بلا شك أصداءٌ في إعلان ترامب عن انتصار سلفه باراك أوباما في الكشف عن أسامة بن لادن ومتابعته وقتله في العام 2011. لكن مقتل البغدادي يساعد في تأكيد المخاوف الجادة بشأن انسحاب الولايات المتحدة من سوريا، في وقت لا يزال التهديد الإرهابي في المنطقة حقيقياً جداً. والأهم من ذلك، أن موت البغدادي على أيدي قوة أميركية مُتراجِعة في سوريا يشير إلى نهاية حقبة تتّحد فيها الدول لمحاربة “داعش”. في العام 2014، عندما حققت المجموعة الإرهابية مكاسب هائلة، قادت أميركا تحالفاً دولياً لمحاربة التطرف مع دول عدة بينها الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وكندا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وتركيا. هناك خطرٌ من أن هذا الوقت من التعاون العالمي والجهد يمكن أن ينهار ويزول. يجب أن تبقى هذه الجهود حيّة لأن الأسباب الجذرية لصعود “داعش” وبروزه — الفقر والصراع وانعدام فرص العمل والحرمان من الحقوق– لا تزال تنتعش وتزدهر. مع استمرار القتال في سوريا وجوٌّ محمومٌ في لبنان والعراق، فإن احتمال عودة ظهور “داعش” من جديد يبدو كبيراً.

إن المجتمع الدولي يحتاج إلى مواصلة العمل سوياً في الكفاح ضد إيديولوجية مُسمِّمة تسعى إلى جذب الشباب، وتحريف عقولهم وغسلها وزرعها بالتطرف الأعمى للإنتشار مرة أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى