ريـما عبدالملك… نَعتَذِرُ إِليكِ

هنري زغيب *

كنتُ أُراقبُكِ، وأَنتِ تتسلَّمين حقيبة الثقافة من سالِفَتِكِ روزْلين باشْلُو، فسمعْتُ في عينيكِ بياضَ ثقةٍ وسوادَ تذكار: الثقةُ بِـما اختزنْتِ من خبرة ناضجة في الفعل الثقافي، والسوادُ من تذَكُّرِكِ وأَنتِ في العاشرة (1989) أَيامًا مرعبة وسْط ما توهَّـمْنا فترَتَئِذٍ أَنها “حرب تحرير” جعلت والدَكِ نبيل يقرِّر الانتقال إِلى فرنسا بزوجته ڤيوليت وأَولاده الثلاثة ريما ومايا وكمال وخمس حقائب على عجَل (هربًا من القصف “التحريري” يومَ سقطت قذيفةٌ على بيتكم مباشرةً في بلدة “الجمهور” (ضاحية ريفية من بيروت) فاستقرَّ بكُم والدُكِ في لِيُون ثم غادرْتِـها جامعيةً إِلى پاريس تتدرَّجين في الفعل الثقافي حتى تسلُّمكِ هذا الأُسبوع حقيبةَ الثقافة في وطن بودلير.

تُلاحظين أَنني، في هذا المقطع أَعلاه، كتبْتُ مرتين عبارة “الفعل الثقافي”. وإِنني أَقصدُها. فوزارة الثقافة ليست عملًا بل فعلٌ: العمل يقوم به مدير عام موظَّف يُسيِّر الأُمور وينفِّذها إِداريًّا. والفعل يقوم به وزير خلَّاق ابنُ الوسَط الثقافي، يَستنبط الأَفكار ويفعِّلها، ولا يكون “هابطًا” على الوزارة من قطاع آخر تفرضه عليها “كوتا” طائفية أَو حزبية أَو سياسية بما “يتبقَّى” من حقائب بعد محاصصة الحقائب “السيادية”.

معكِ أَنتِ: وزارةُ الثقافة فعلٌ ثقافي وسيادةٌ حكوميةٌ ملَكْتِها خصوصًا طيلةَ السنتَين الأَخيرتَين في الإِليزيه (منذ كانون الأَول/ديسمبر 2019) مستشارة الماكْرون المثقَّف، تُعِدِّين له لائحة كتبٍ يقرأُها في استراحاته أَو إِبَّان أَسفاره (شو حلو رئيس جمهورية يصطحب كتبًا ويعود من أَسفاره برُزمة كتب جديدة) وتتبادلين معه أَحيانًا أَبيات الشعر في رسائل نَصية قصيرة SMS (“النوفيل أُوبسرڤاتور”21 أَيار/مايو 2022).

بهذا مهَّدتِ لاستحقاقكِ حقيبةَ الثقافة، آلَت إِليكِ من قناعة الرئيس بــ”فعلِك” الثقافي ومسيرتكِ الثقافية المثْمرة في پاريس ونيويورك (مستشارة ثقافية لدى سفارة فرنسا فيها). وأَفهم اعتزاز أَبناء جذورك اللبنانية بكِ، أَحدَثُهُم ماتِّــيُو شديد حفيد الكاتبة أَندريه شديد ذات الجُذُور اللبنانية (“لو پاريزيان” 20 أَيار/مايو 2022).

طبعًا تعتزُّ بكِ جذوركِ اللبنانية. وهذه عادتُنا حيال مبدعينا اللبنانيين حين يسطعون في الـمَهَاجر: يفرح بهم الطيِّبون المخْلصُون، و”يهنِّئُهم” سياسيون كذَّابون كانوا سبَب تهجير الأَدمغة من لبنان، فإِذا فرنسا تستقبلُكِ وتحضنُكِ شابَّةً موهوبة. لم تسأَل عن بلدتكِ شيخان (بلاد جبيل) ولا عن طائفتكِ ومذهبكِ وانتمائكِ السياسي. ففي فرنسا مساحة واسعة للثقافة وفُرَص للمثقَّفين والمساحة الثقافية.

على أَننا، إِلى اعتزازنا بكِ، نعتذر إليكِ. لا لأَن “حرب التحرير” هجَّرَتْكِ فربحَتْكِ فرنسا وخسرناكِ، بل لأَننا لم نقدِّم لك فرصةَ أَن تتسلَّمي هنا في بلادكِ الأُمّ حقيبةَ الثقافة. ففي بلادكِ، يا ريما، لا مساحةَ رسميَّةً للثقافة في رئاسة الجمهورية ولا في رئاسة الحكومة ولا في البرلمان. لا مكانَ في حظيرة الرئاسات الثلاث إِلَّا للأَزلام المهرِّجين والمحاسيب الزحفَطُونيين والمصفِّقين الـمُهَوْبرين عميانيًّا والتهييصيين الببَّغاويين في الساحات والباصات.

بقَدْر فرحنا بكِ عن بُعد، نفرح لكِ عن قرب لأَنكِ هاجرتِ. فلو تخرَّجْتِ من جامعة في لبنان لكنْتِ في حاجة إِلى توصية من نائب حقير أَو وزير تافه كي تتوظَّفي في مؤَسسة براتب أَقلَّ من مخصصات سائق أُمِّيّ عند سياسي جاهل.

ويا ريما: لأَنك زرتِ لبنان مع الرئيس ماكرون يوم جاءَنا بعد انفجار نصف بيروت، ولأَنه بزيارته فيروز زار لبنان الوطن قبلما زار لبنان السلطة واجتَمَع بـــ”بيت بوسياسة”، ولأَنكِ مقرَّبة منه في قصره ثم في وزارتكِ اليوم: حدِّثيه عن التراث اللبناني بالفرنسية، وأَطْلِعِيه على إِرث لبنان الإِبداعي وأَعلامه الخالدين لعلَّه حين يفكِّر بلبنان يوقنُ أَنَّ لبنان الحقيقي هو وطن الثقافة والمبدعين وليس لبنان الدولة بأَشلاء سلطتها اليوضاسيين.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى