ليس لدى الولايات المتحدة ما تخشاه من الصين في الشرق الأوسط

بينما تستمتع بكين بلا شك برؤية الولايات المتحدة مضطرة إلى تكريس الوقت والموارد للشرق الأوسط، وبالتالي بعيدًا من منطقة المحيطين الهادئ الهندي، فإنَّ مصالح الصين في المنطقة ستتعرّض للخطر بالقدر نفسه بسبب التصعيد الخطير.

الرئيس الأميركي جو بايدن: “لن تبتعدَ وتتركَ فراغًا في الشرق الأوسط تملأه الصين أو روسيا أو إيران”.

عبد السلام فريد*

في الأسبوع الفائت، قدّمَ وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى مجلس الأمن الدولي خطةً غامضة من أربعِ نقاط لحلِّ الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني تضمّنت دعوةً إلى إقامة دولة فلسطينية. جاء ذلك في أعقابِ الإجتماع الذي عقده يي في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) في بكين، مع وفدٍ من وزراء الخارجية الذين يمثلّون الدول العربية والإسلامية حيث ناقش مع أعضائه الحرب الدائرة بين إسرائيل و”حماس”، والذين طالبوه بدعم بلاده لوقفٍ فوري لإطلاق النار. في ذلك التجمّع، أعلن يي أن الصين “صديقة جيدة وشقيقة للدول العربية والإسلامية”، مُضيفًا أن بكين “تدعمُ دائمًا بقوّة القضية العادلة للشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه ومصالحه الوطنية المشروعة”.

أدّى كلا التطورَين إلى تغذية وإثارة جوقة الأصوات المتنامية التي دقّت، في أعقاب الحرب في غزة، ناقوس الخطر بشأن رغبة الصين المزعومة في استغلال الصراع لتحدّي الدور الأميركي في الشرق الأوسط بشكلٍ أساسي. زَعَمَ البعض أن بكين تُحاوِلُ “تقويض الولايات المتحدة وتعزيز قيادتها العالمية”، بينما أشارَ آخرون إلى اجتماعِ بكين الأخير كدليلٍ على “الدور القيادي المُتنامي الذي تسعى الصين إلى لعبه في الشرق الأوسط”. بل إنَّ آخرين حاولوا الربط بشكل مباشر (وغريب) بين علاقةِ الصين بإيران وقرار “حماس” بشنِّ هجومها غير المسبوق ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).

مع ذلك، سيكونُ من الخطَإِ إعتبار الصين على أنّها أيُّ شيءٍ آخر غير كونها جهة فاعلة انتهازية في الشرق الأوسط. والحقيقة هي أن بكين ليست لديها القدرة ولا الرغبة في تأكيد نفسها باعتبارها وسيط القوة الرئيس في جميع أنحاء المنطقة. بدلًا من ذلك، تسعى الصين إلى الاستفادة من “الثمار المُنخَفضة” نسبيًا في أعقاب الحرب في غزة، وذلك في المقام الأول من خلال انتقاد الولايات المتحدة، مع الاستمرار في تجزئة سياساتها الإقليمية.

إن الأزمة الحالية تُجسّدُ التحدّيات والقيود المختلفة التي تواجه الصين في الشرق الأوسط، أو على وجه التحديد عدم قدرتها على تشكيل التطورات الإقليمية بالقوة.

بعد أن هاجمت “حماس” إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أصدرت وزارة الخارجية الصينية بيانًا عامًا يدعو كافة “الأطراف المَعنية إلى التزامِ الهدوء وضبط النفس وإنهاء الأعمال العدائية على الفور لحماية المدنيين وتجنّب المزيد من تدهور الوضع”. وأعقب ذلك بيانٌ آخر أكد أن الصين “صديقة لكلٍّ من إسرائيل وفلسطين”، مع التأكيد على أنَّ الطريقَ إلى السلام “يكمن في تحقيق حلِّ الدولتين وإقامة دولة فلسطين المستقلة”.

ومع تصاعد الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة وزيادة عدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين بشكلٍ كبير، أصبح خطابُ الصين أكثر انتقادًا لإسرائيل. وأدان يي إسرائيل “لتجاوزها الدفاع عن النفس” ودعا إلى إنهاء “العقاب الجماعي لشعب غزة”. وصرّحَ سفير الصين لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، بأنَّ “الصين ستواصل الوقوف إلى جانب العدالة والإنصاف الدوليين، وإلى جانب القانون الدولي، وإلى جانب التطلعات المشروعة للعالمَين العربي والإسلامي”. وبدوره، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار وشدّدَ على أهمية حلِّ الدولتين باعتباره “المخرج الأساسي” من الصراع.

يمكنُ النظر إلى التحوّل في موقف بكين باعتباره محاولة للاستفادة من الغضب المتزايد بين الدول غير المُنحازة تجاه ما يُنظَرُ إليه على أنه نفاقُ الغرب في إدانة روسيا بسبب قصفها العشوائي لأوكرانيا، في حين يتجاهل استخدام إسرائيل لتكتيكات مُماثلة في غزة.

ولكن هل يرقى هذا الموقف إلى حدِّ خروج الصين بشكل أساسي عن استراتيجيتها الإقليمية أم يُمثّلُ رغبةً مُتجَدِّدة من جانب بكين في وضع نفسها في طليعة سياسات الشرق الأوسط؟

ليس تمامًا.

من المؤكّد أنَّ الصين قامت بتوسيع نطاق وجودها السياسي والاقتصادي والأمني بشكلٍ كبير في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ومن الناحية الاقتصادية، أصبحت شريكًا رائدًا من حيث استهلاك الطاقة والتبادل التجاري والاستثمار في جميع أنحاء المنطقة. ومن الناحية السياسية، زادت الصين من مشاركتها الديبلوماسية في المنطقة، ولا سيما من خلال وساطتها الأخيرة في اتفاق التطبيع السعودي-الإيراني ودعوتها للعديد من دول الشرق الأوسط للانضمام إلى مجموعة “بريكس”. وفي ما يتعلق بالمشاركة الأمنية، قامت بكين بتوسيع مبيعات الأسلحة بشكلٍ كبير إلى دولٍ في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وهناك تقاريرُ تفيدُ عن استئناف البناء في منشأة عسكرية صينية مشتبه بها في الإمارات العربية المتحدة.

مع ذلك، على الرُغمِ من بصمتها المتوسّعة، فإنَّ الصين غير قادرة على تأسيسِ وجودٍ مُهَيمِن في المنطقة يُمكِن مقارنته بالوجود الأميركي، كما إنها لا ترغب في ذلك. في الواقع، إنَّ الصين دولةٌ انتهازية: فهي غير قادرة ولا راغبة في بناءِ أو دَعمِ نظامٍ سياسي وأمني جديد في الشرق الأوسط. وعلى الرُغم من زيادة المصالح الاقتصادية للصين في المنطقة بشكلٍ كبير، إلّا أنَّ بكين لا تستطيع إظهار قوتها في الشرق الأوسط حتى لو أرادت ذلك. والواقع أن العديد من التقدّم الذي حقّقته الصين يرجع إلى نهجها المحدود والمُجَزَّإِ في التعامل مع المنطقة ــ على وجه التحديد من خلال الامتناع عن الانحياز إلى أيِّ طرفٍ في الخصومات الجيوسياسية العديدة في الشرق الأوسط. وكما أكّدَ معظم الخبراء والمراقبين، تستفيد الصين من النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة، لأنه “وفّرَ المظلّة الأمنية لبكين لكي تُصبحَ أكثر انخراطًا في المنطقة من دون الاضطرار إلى تحمّل تكاليف حماية مصالحها المادية”.

على الرُغمِ من هذه القيود، أصبحت المنافسة مع الصين الآن أحد المُبرّرات الأكثر شيوعًا لبقاء واشنطن مُنخَرِطة بعمقٍ في الشرق الأوسط. وقد أكد الرئيس الأميركي جو بايدن نفسه على هذه النقطة خلال رحلته إلى المملكة العربية السعودية وإسرائيل في العام 2022، مُشيرًا إلى أنَّ واشنطن “لن تبتعدَ وتتركَ فراغًا في الشرق الأوسط تملأه الصين أو روسيا أو إيران”. ومع ذلك، من خلال الاستمرار في رؤية جميع التطورات الإقليمية من خلال عدسةِ المنافسة بين القوى العظمى، مع تجاهل القيود الكبيرة التي تواجهها بكين في الشرق الأوسط، فإنَّ الولايات المتحدة تُخاطر بالوقوع في “فخ الصين”، على حساب الاستقرار الإقليمي والمصالح الأميركية.

تنظر أميركا الآن إلى “الزحف” الصيني في الشرق الأوسط باعتباره تهديدًا خطيرًا للأمن القومي، وهو جُزءٌ من إطارٍ أوسع نطاقًا لـ”الحرب الباردة 2″ الذي بدأ يهيمن على السياسة الخارجية الأميركية بشكلٍ عام. ومع ذلك، لا تنظرُ الجهاتُ الفاعلة الإقليمية إلى عودة التعدّدية القطبية العالمية من خلال العدسة الصفرية عينها التي تنظر إليها الولايات المتحدة. وهي تُدرك تمام الإدراك القيود التي تعاني منها الصين وافتقارها إلى القدرة -والاهتمام- على تولي موقعٍ مُهيمن في المنطقة.

لذلك فإنَّ دول الشرق الأوسط تتبع استراتيجية ذات مستويين لتحقيق أفضل مصالحها في المديَين القصير والطويل. في المدى القصير، تأمل بعودة المنافسة بين القوى العظمى ليتسنّى لها التلاعب من خلال اللعب على مخاوف واشنطن من فقدان موقعها بالنسبة إلى روسيا أو الصين، خالقةً “نفوذًا عكسيًا” للضغط من أجل الحصول على تنازلات سياسية كبيرة. وفي المدى الطويل، تدرك الدول في جميع أنحاء الشرق الأوسط أن صعود القوى غير الغربية وعودة التعددية القطبية العالمية أصبح حقيقة واقعة، وبالتالي فإنها تُمَوضِعُ نفسها وفقًا لذلك.

حتى الآن، يبدو أن مثل هذه الاستراتيجيات ناجحة، لا سيما في ما يتعلق بـ “النفوذ العكسي”، مع تزايد هَوَسِ واشنطن بمواجهة ما تعتبره الصين الصاعدة في الشرق الأوسط. مثال هذه الديناميكية هو المفاوضات بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة حول ما إذا كانت الرياض ستنضم إلى ما يسمى باتفاقات أبراهام، والتي شهدت تطبيع إسرائيل علاقاتها مع البحرين والإمارات العربية المتحدة في العام 2020. منذ تقديم الاتفاقيات من قبل الرئيس السابق دونالد ترامب، أصبحت “النجم الهادي” الجديد للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، مع تصميم المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين على إضافة المملكة العربية السعودية إلى هذا المزيج.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، الهدف هو إنشاء تحالف أكثر رسمية تعتقد أنها قادرة من خلاله على الحفاظ على نفوذها الإقليمي وسط “التعدّي الصيني”، مع تخصيص المزيد من الاهتمام لمسارح عالمية أخرى، مثل أوروبا الشرقية ومنطقة المحيطَين الهادئ والهندي.

مع ذلك، ليست هذه هي الطريقة التي يُفسّرُ بها اللاعبون الإقليميون اتفاقيات أبراهام. هم ينظرون إليها كوسيلةٍ لإبقاء الولايات المتحدة مُنخرطة بعمقٍ في المنطقة. ويتجلّى هذا بشكل أوضح في مطالبة الرياض بأن تقدّمَ واشنطن للمملكة ضمانًا أمنيًا رسميًا ومساعدة لبرنامجها النووي المدني مقابل تطبيع السعودية علاقاتها مع إسرائيل.

وحتى وسط الحرب المستمرة في غزة، تبدو إدارة بايدن ملتزمة بهذه الخطة، بدعمٍ واسع من مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية. وقد ظهرت سلسلة من التعليقات منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تقول إن اتفاق التطبيع السعودي-الإسرائيلي يظل أفضل طريق للمضي قدمًا لمواجهة الطموحات الصينية في المنطقة. واستشهد آخرون بالحرب الدائرة في غزة كمثالٍ لما سيبدو عليه “الشرق الأوسط ما بعد أميركا”، على الرُغم من حقيقة أن هذا الصراع اندلعَ في ظلِّ سياسة الإنخراط الأميركي العميق في المنطقة.

مع ذلك، فإن الولايات المتحدة سوف تكسب القليل وستخسر الكثير من المضي قدمًا في مثل هذه الصفقة مع المملكة العربية السعودية، ولم تغير الحرب في غزة هذا الواقع.

من خلال النظر إلى كل تطورٍ في الشرق الأوسط من خلال إطار المنافسة الصفرية مع الصين، تعمل الولايات المتحدة على افتراضاتٍ خاطئة تؤدي إلى سياساتٍ غير منتجة وعكسية. ويهمل مثل هذا النهج أيضًا كيف يُمكنُ لعودة التعددية القطبية إلى الشرق الأوسط، إذا تمَّ التعاملُ معها بشكلٍ صحيح، أن تكون فائدة صافية للولايات المتحدة.

وعلى الرُغم من أجراس الإنذار التي تُقرَعُ في واشنطن، فإنَّ الصين سوف تستمر في الاضطلاع بدورٍ ثانوي، حتى لو اغتنمت هذه اللحظة لمهاجمة الولايات المتحدة خطابيًا في حين تُقدّم نفسها كوسيطٍ غير مُتَحَيِّز. ومع ذلك، فإن مثل هذه الاستراتيجية ليست خالية تمامًا من المخاطر بالنسبة إلى بكين. وقد عملت الصين بالفعل على تنفير إسرائيل من خلال دعواتها المُتكرّرة لإقامة دولة فلسطينية، فضلًا عن انتقاداتها الواضحة للحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة. وسوف يكون من الأصعب على الصين أن تحافظ على توازنها في الشرق الأوسط إذا استمرت الحرب في غزة في التفاقم، أو إذا تصاعد الصراع إلى حربٍ تشمل المنطقة بالكامل.

بينما تستمتع بكين بلا شك برؤية الولايات المتحدة مضطرة إلى تكريس الوقت والموارد للشرق الأوسط، وبالتالي بعيدًا من منطقة المحيطين الهادئ الهندي، فإنَّ مصالح الصين في المنطقة ستتعرّض للخطر بالقدر نفسه بسبب التصعيد الخطير. وفي غضون ذلك، ستظل استراتيجية بكين في الشرق الأوسط انتهازية بحتة.

  • عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.
  • شارك في هذا المقال مراسل “أسواق العرب” في واشنطن محمد زين الدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى