روسيا تُدَوزِنُ علاقاتها مع “حزب الله” على إيقاعِ التصعيدِ على الحدودِ اللبنانية-الإسرائيلية
نظرًا لأنَّ العديدَ من المُحلّلين الروس يعتقدون أنَّ الحربَ المطوَّلة في لبنان ستُحوِّلُ المواردَ العسكرية الغربية بعيدًا من أوكرانيا، فقد يُوفّرُ الكرملين شحنات أسلحة كافية ل”حزب الله” لإطالة أمد الصراع.
صمويل راماني*
في 26 آب (أغسطس)، وفي أعقابِ الضربةِ الانتقامية التي شنّها “حزب الله” ضدّ إسرائيل ردًّا على مقتل قائده العسكري فؤاد شكر في نهاية تموز (يوليو)، أعربت المُتحدّثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن “قلقها العميق إزاء الارتفاع الخطير في التوترات في منطقة الحدود اللبنانية-الإسرائيلية” وحثّت جميع الأطراف المَعنية على ممارسةِ “أقصى درجات ضبط النفس”. واعتبرت زاخاروفا هذا التصعيد امتدادًا لحربِ إسرائيل المستمرّة مع حركة “حماس”، ودَعَت إلى “وقفِ إطلاقِ نارٍ سريع” في قطاعِ غزة من شأنه أن يكونَ بمثابةِ بوّابةٍ لاستقرارِ الشرق الأوسط.
يَعكسُ فَزَعُ روسيا حيالَ تصعيدِ الأعمال العدائية في لبنان شراكتها الطويلة الأمد مع “حزب الله”. منذُ بَدءِ التدخُّلِ العسكري الروسي في سوريا في أيلول (سبتمبر) 2015، نَسَّقَ “حزب الله” مع القوات الروسية للحفاظِ على بقاءِ الرئيس بشار الأسد في السلطة. واستغلّت روسيا أيضًا شراكتها مع “حزب الله” لتعميقِ نفوذها في لبنان واستَخدَمَت شبكات الحزب المالية غير المشروعة لأغراضِ التهرُّبِ من العقوبات.
بسببِ هذه العلاقة المُتعدِّدة الأبعاد مع “حزب الله”، حثّت روسيا إيران على مُمارسةِ ضبطِ النفس ضدّ إسرائيل لمَنعِ اندلاعِ حربٍ ساخنةٍ مُدمّرةٍ في لبنان. وعلى الرُغمِ من الثقة الخارجية من المُعلّقين القوميين الروس بشأنِ مرونة “حزب الله”، فإنَّ المخاوفَ لا تزالُ قائمة في موسكو بشأنِ قدرةِ إسرائيل على تدميرِ قدراتِ “حزب الله” بشدّة. وإذا اندلعت الحرب بغضِّ النظرِ عن ذلك، يُمكِنُ لروسيا أن تُقدِّمَ ل”حزب الله” مساعدةً عسكريةً صغيرةَ النطاق وتدريبًا لمساعدته على مواجهة القصف الإسرائيلي. وتأملُ موسكو أن تُطيلَ هذه المساعدة مقاومةَ “حزب الله” وتدفع الولايات المتحدة إلى إعادة توجيه الأسلحة إلى إسرائيل، والتي كانت لتصل لولا ذلك إلى أوكرانيا.
شراكةُ روسيا المُتَعدِّدة الأبعاد مع “حزب الله”
وَضَعَ موقفُ روسيا و”حزب الله” المُشتَرَك المؤيِّد للأسد في الحرب الأهلية السورية الأساسَ للتعاون المُتعدّد الأوجه. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، رَفضَ نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف تصنيف الولايات المتحدة ل”حزب الله” كمنظمةٍ إرهابية وأعلن أنه “قوةٌ اجتماعية وسياسية مشروعة” حيثُ تمّ انتخابُ أعضائه في البرلمان اللبناني وله وزراء في الحكومة. وقد أضفى بيانُ بوغدانوف الشرعية على التعاون العسكري الروسي مع “حزب الله” في سوريا. وقد لعبَ التنسيقُ المُكثّف بين القوة الجوية الروسية ومشاة “حزب الله” دورًا حاسمًا في انتصار بشار الأسد في حلب في كانون الأول (ديسمبر) 2016.
مع تعمُّقِ تعاونهما في سوريا، نظرَ الكرملين إلى العلاقة الوثيقة مع “حزب الله” باعتبارها حجر الأساس لفرض القوة في لبنان. بعد ستة أيام من لقاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف برئيس الوزراء اللبناني آنذاك سعد الحريري في أبو ظبي في آذار (مارس) 2021، سافر وفدٌ من “حزب الله” بقيادة النائب محمد رعد إلى موسكو. وقد أرسى وجود المستشار المالي المزعوم ل”حزب الله” حسن مُقلّد، الذي فرضت عليه الحكومة الأميركية عقوبات لاحقًا، في الوفد والاجتماعات اللاحقة مع نائب وزير الخارجية الروسي بوغدانوف الأساس لصفقاتٍ تجارية مُحتملة. بدأ مُقلّد مفاوضات مع شركة “هيدرو للهندسة والبناء” الروسية لإعادة بناء مصفاة الزهراني في جنوب لبنان الذي يسيطر عليه “حزب الله” بتكلفة 1.5 مليار دولار.
استكملت مفاوضاتُ الاستثمارِ العام هذه التعاونَ الاقتصادي غير الرسمي الراسخ بين روسيا و”حزب الله”، في انتهاكٍ صارخ للعقوبات الأميركية. قام المواطن السوري محمد الشويكي المُقيم في روسيا بالتنسيق مع المسؤول في “حزب الله” محمد قصير (اللذين فرضت عليهما الحكومة الأميركية عقوبات) بتوريد وتهريب الأموال إلى إيران ووكلائها. كانت “مجموعة غلوبال فِجِين” (Global Vision Group) التابعة للشويكي شريكًا تجاريًا لشركة “برومسيريو إمبورت” (Promsyrioimport) التابعة لوزارة الطاقة الروسية. منذ العام 2014 فصاعدًا، تُفيدُ المعلومات أن الشركتين قامتا بنقل النفط الإيراني بشكلٍ غير قانوني إلى سوريا وغطّتا آثارهما بإيقافِ تشغيل إشارات نظام التعريف التلقائي (AIS) على السفن الإيرانية التي تحمل النفط.
في حين أدانت وزارة الخارجية اللبنانية على الفور غزو روسيا لأوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022، تبنّى “حزب الله” لهجةً مختلفة تمامًا. بالإضافة إلى التنبّؤ بأنَّ الولايات المتحدة ستتخلّى عن أوكرانيا وتأطير الولايات المتحدة وبريطانيا كمُحرِّضَين على الحرب، عارض زعيم “حزب الله” السيد حسن نصر الله انتقادات لبنان العلنية للغزو. وزَعَمَ أنَّ رَدَّ وزارة الخارجية اللبنانية “كُتِبَ في السفارة الأميركية” وأنَّ لبنان كان يجب أن يمتنعَ عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في آذار (مارس) 2022 الذي يُدينُ العدوان الروسي. كما أعربَ نصر الله عن إحباطه من عدم استجابةِ لبنان لعرضِ روسيا للاستثمار في مصفاة نفط، ما يسمح ببيع المشتقّات النفطية بالليرة اللبنانية بدلًا من الدولار الأميركي.
في حين نفى نصر الله مَزاعِمَ أوكرانيا بأنَّ ألفَ مُرتزق سوري ومُقاتل من “حزب الله” شاركوا في غزو روسيا، فإنَّ خطابه عزّزَ مكانة “حزب الله” كشريكٍ لبناني مساعد لأزمات موسكو. وقد رفعت قناة “المنار” التلفزيونية التابعة ل”حزب الله” رسائل نصر الله المؤيّدة للكرملين إلى مستويات جديدة، حيث تشاركت بشكلٍ روتيني تَفاخُر روسيا الدعائي بتدميرِ المعدات العسكرية لحلف ال”ناتو” في أوكرانيا وزعمت أنَّ هزيمةَ أوكرانيا أمرٌ لا مفرَّ منه.
تزامنَ هذا التضامن الخطابي مع التعاون الاقتصادي المُحصَّن ضد العقوبات. بعد أن فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوباتٍ على مُقلّد في كانون الثاني (يناير) 2023، تكثّفت اتصالاته مع المسؤولين الروس. في آذار (مارس) 2023، التقى مُقلّد بوغدانوف في موسكو وناقشا افتتاح طرق طيران روسية جديدة إلى لبنان. لم تتحقّق مسارات العبور الجديدة هذه، حيث تُثني روسيا مواطنيها عن السفر إلى لبنان بسبب خطر الحرب مع إسرائيل. مع ذلك، فإنَّ هذا الأمر، إذا تمّ، قد يخلقُ سُبلًا جديدة للتهرّب من العقوبات بين روسيا و”حزب الله” في سيناريو ما بعد حرب غزة.
النهجُ الحَذر الذي تتبنّاه روسيا إزاء التصعيد بين إسرائيل و”حزب الله”
مع اقترابِ احتمالاتِ التصعيدِ الكبير في لبنان، يُحذّرُ أعضاءٌ بارزون في المجتمع التحليلي الروسي من أنَّ إسرائيل سوف تندَمُ على فتحِ جبهةٍ جديدة ضد “حزب الله”. وفي الرابع من تموز (يوليو)، وَصفَ تقريرٌ صادرٌ عن مجلس الشؤون الدولية الروسي الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها إسرائيل تجاه “حزب الله” بأنّها حيلةٌ ساخرة لإبقاءِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في السلطة. ويزعَمُ هذا التقرير، الذي شاركَ في تأليفه الأكاديميان مراد ساجدزاد وسابينا إسماعيلوفا من معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، أنَّ “بقاء حكومة نتنياهو يعتمد على قدرتها على إيجادِ عدوٍّ جديد لتوحيد الأمة. والصراعُ مع لبنان من الممكن أن يُوَحِّدَ الإسرائيليين ويُعطي السلطات فرصةً للصمود، لأنَّ “حماس” لم تَعُد صالحة لهذا الدور”. وقد تمَّ تأطيرُ حيلة نتنياهو على أنها كارثية محتملة، حيث أنَّ دعمَ إيران ل”حزب الله” منَ المُمكن أن يخلقَ حربًا إقليمية شاملة ذات آثارٍ عالمية.
وتُعزِّزُ وسيلة التواصل الإجتماعية الروسية “تيليغرام” الادّعاء بأنَّ إسرائيل تدخل حربًا لا يمكنُ الفوزَ بها مع “حزب الله”. ويتوقّعُ مستشار الكرملين السابق سيرغي ماركوف أن ينضمَّ كلٌّ من لبنان وسوريا إلى “حزب الله” في حربٍ مع إسرائيل، ويخلصُ إلى أنه “عندما تبدأ حربٌ برية باستخدام الهجمات الإرهابية، والشهداء وأمثالهم، فإنَّ إسرائيل ستُهزَم”. ويزعَمُ المحلل العسكري بوريس روزين أنَّ إسرائيل “قادرةٌ فقط على تدميرِ مخارج الأنفاق التي يكتشفونها من وقت لآخر” ولن تستطيع تدمير البنية التحتية لأنفاق “حزب الله” تحت الأرض.
لكن هذه التوقّعات لا تَعكُسُ إجماعًا بين الخبراء الروس. فالعقيد الاحتياطي ميخائيل خداريونوك، الذي تنبّأ بذكاء بالصراعات التي قد يواجهها الجيش الروسي بغزو أوكرانيا، يَزعَمُ أنَّ البحرية الأميركية ستُطلق الصواريخ على مواقع “حزب الله” المُحصّنة وتُنفّذُ غارات جوية ضدّها. ويُحذّرُ خداريونوك من أنَّ “القصورَ الفخمة لقيادة المنظمة في جنوب لبنان سوف تتحوّل إلى غبارٍ وأنقاض”، ويتوقع أن “حزب الله” لن يذهبَ إلى أبعد من قصف إسرائيل لإظهارِ التضامن مع “حماس”.
وفي حالةِ الحرب الأوسع مع إسرائيل، فإنَّ تضامُنَ روسيا مع “حزب الله” لن يمتدَّ إلى هذا الحد. في العام 2020، تمَّ استبدال الديبلوماسي الروسي ألكسندر زاسبيكين، الذي أشاد بمساهماتِ “حزب الله” في مكافحة الإرهاب في سوريا ووصفَ إسرائيل بأنها “جُزءٌ من المعسكر الغربي الذي يتوحّد ضد روسيا” على محطة “الميادين” التلفزيونية الموالية ل”حزب الله”، كسفيرٍ في لبنان بألكسندر روداكوف. لقد تحدّت خطابات زاسبيكين الإجماع الديبلوماسي الروسي، الذي يَعتقدُ بأنَّ لبنان مُندمجٌ للغاية مع الغرب بحيث لا يتبع موقف سوريا المؤيِّد للكرملين، واستبداله يَحرُمُ “حزب الله” من شريكٍ رئيس.
كما إنَّ تصرّفات روسيا السابقة لا تُشيرُ إلى دعمٍ عسكري واسع النطاق ل”حزب الله”. خلال حرب لبنان في العام 2006، أعربت شخصيات متحالفة مع “حزب الله” عن إحباطها إزاء عدم رغبة روسيا في إدانة الإجراءات الإسرائيلية. كان التصوُّرُ بأنَّ نصر الله هو إسلاميٌ مُتطرّف يسعى إلى جَرّ لبنان إلى الخلافة العالمية وجهةَ نظرٍ سائدة بين وسائل الإعلام الروسية. بعد أن عثرت إسرائيل على أدلّة تُشيرُ إلى وصولِ صواريخ روسية مُضادة للدبابات إلى “حزب الله” في العام 2006، نفى الكرملين بشدة هذه المزاعم ولم يُشارِك بشكلٍ هادف في إعادة تسليح “حزب الله” بعد الحرب. ويزعمُ الشيخ عباس الجوهري، المسؤول السابق في “حزب الله” والذي تحوّل إلى مُنتقد، أنَّ علاقة روسيا ب”حزب الله” كانت دائمًا “شراكة قسرية” وسلّطَ الضوءَ على عدم رغبة روسيا في الدفاع عن البنية التحتية العسكرية ل”حزب الله” في سوريا ضد الغارات الجوية الإسرائيلية.
في حين من غير المرجح أن يكونَ الدعمُ الروسي ل”حزب الله” بمثابةِ تغييرٍ لقواعد اللعبة، لا تزالُ هناكَ طرقٌ يُمكنُ للكرملين من خلالها دعم الجماعة اللبنانية المسلّحة. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، كشفت تقارير استخباراتية أميركية أنَّ الأسد ومجموعةَ “فاغنر” الروسية نسّقا معًا بشأنِ التسليم المُحتَمل لصواريخ أرض-جو من طراز “أس إي-22″ (SA-22) ل”حزب الله”. وحَذّرَ المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي في وقتٍ لاحقٍ من تسليم أنظمة الدفاع الجوي من “فاغنر” إلى “حزب الله”. لكن الجيش السوري، رغم ذلك، قام بتسليم أنظمة الدفاع الجوي “بانتسير S-1″، الذي حصل على حراستها بعد التصفية الجُزئية لعمليات “فاغنر” إلى الحزب. ويزعمُ الجوهري أنَّ روسيا يمكن أن تزوِّدَ “حزب الله” بأسلحةٍ هجومية لضربِ حقل غاز كاريش، لأنها تُريدُ تقييد استخراج إسرائيل للغاز من البحر الأبيض المتوسط.
نظرًا لأنَّ العديدَ من المُحلّلين الروس يعتقدُ أنَّ الحرب المطوَّلة في لبنان ستُحوِّلُ الموارد العسكرية الغربية بعيدًا من أوكرانيا، فقد يُوفّرُ الكرملين شحنات أسلحة كافية ل”حزب الله” لإطالة أمد الصراع. وفي مقابل هذه الإمدادات المُحتملة من الأسلحة، أفادت التقارير أنَّ “حزب الله” استغلَّ خبرته في إطلاق الطائرات المُسَيَّرة التي تتجنّب أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية لتدريب القوات الروسية على استخدامِ طائرات “شاهد” الإيرانية المُسَيَّرة. وفي شباط (فبراير) 2024، زعمت مديرية الاستخبارات الرئيسة في أوكرانيا أنَّ مسؤول “حزب الله” العسكري، كمال أبو صادق، الذي يُصنِّع ويَصون الطائرات المُسَيَّرة، كان يُدرِّبُ القوات الروسية في مطار الشعيرات العسكري السوري.
في حين يتصاعَدُ الصراعُ بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان على حافة السكين مع استمرار الجانبين في تنفيذِ ضرباتٍ عبر الحدود، تُصَوِّرُ روسيا نفسها على أنها صوتٌ لخَفضِ التصعيد. ويضمن تآكل العلاقات بين روسيا وإسرائيل بشأن أوكرانيا وغزة ميل الكرملين بقوة أكبر نحو “حزب الله” مُقارنةً بما كان عليه في الصراعات السابقة. وحتى لو لم تندلع الحرب، ستسعى روسيا إلى الاستفادة من شراكتها مع “حزب الله” لتعزيزِ نفوذها في لبنان.
- صامويل راماني هو زميل مشارك في معهد الخدمات المتحدة الملكي (Royal United Services Institute) في لندن، والرئيس التنفيذي لشركة بانجيا للمخاطر الجيوسياسية. وهو مؤلف كتاب “روسيا في أفريقيا: قوة عظمى صاعدة أم متظاهر عدواني”، وكتاب “حرب بوتين على أوكرانيا: حملة روسيا من أجل الثورة المضادة العالمية”، واللذان نشرتهما على التوالي دار نشر جامعة أكسفورد وهيرست في العام 2023.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.