دولة الـ”ريثما” و”النقْل بالزَعرور”

هنري زغيب*

في منطق الدولة أَن تكونَ حاميةً أَبناءَها، يَلجأُون إِليها فتَنصُرُهم ضدَّ مُعتَدِين، وتَحمي حقوقَهم ضد مغْتَصبيها، وتُطَمْئِنُهُم إِلى آمَنِ مصير، حتى فهي الأُمُّ التي تَسهَر ليناموا، تَجهَد ليرتاحوا، تَزرع ليقطِفوا، وتَفتح بساتينها فمِن خيراتها يَرتَزقون.

هكذا، على الأَقل، تَفعل الدُوَل السَويَّة في العالم. ولقاءَ تلك الحماية، يَدفع لها المواطنون ضرائبَ دَخْلٍ وبلديةٍ وقيمةٍ مضافةٍ ورسومًا جمركية وعقارية وسواها، حتى تُؤَمِّن مدخولًا تُعيده إِلى المواطنين ضماناتٍ صحيةً واجتماعيةً وخدماتٍ لرفاهِ حياةٍ هانئة وشيخوخةٍ كريمة.

فأَينَنا من كل هذا، نحن المحسوبُ علينا محليًّا وعربيًا وإِقليميًّا ودُوَليًّا أَنْ عندنا دولة؟

هذا وزيرٌ طلَع علينا قبل أَيام يَنعى بأَنْ لا مال في وزارة الأَشغال لإِنارة الطُرقات العامة، وطلَب ممَّن يرغبون في تقديم هِبَةٍ عَينية للإِنارة أَن يتواصلوا مع الوزارة، مؤَكِّدًا أَنَّ الوزارة “ستشكُرُهم وتَتَعاون معهم إِلى أَقصى حَدّ”.

وذاك وزير آخر يَطير من بلدٍ إِلى بلدٍ ليشحد الغاز والكهرباء والنفط،  وذلك يسعى بين بلدٍ وآخَر لتأْمين الطحين، ويطلع رئيس الحكومة ليَنعى إِلى المواطنين أَنْ لا مالَ للإِبقاء على فواتير الكهرباء والماء والاتصالات مجانًا (مجانًا!!!! وهي الأَغلى في المنطقة لخدماتٍ غيرِ متوفرة؟؟ والمواطنون يدفعون فاتورتَي كهرَباء لا تأْتي، وفاتورتَي مياه مقطوعة)، ويَطلب من المواطنين الأَعزَّاء الصبر على الدولة والتحمُّل معها ريثما تجتاز هذه المرحلة الصعبة.

ومع هذه الـ”ريثَما” اكتمل النقْل بالزَعرور: كانت دولتُنا الشوساء تَشحد إِغاثةً من دُوَل العالم للمواطنين حتى جعلَت شعبَها شحَّادًا على أَبواب الدُوَل وأَرصفة البلدان، وها هي اليوم تَشحد من مواطنيها أَن يتحمَّلوا معها أَو منها أَو بها ما يُصيبهم من فقر وإِذلال.

دولةٌ عجيبةٌ هي هذه الدولة! تُمسِك على المواطنين أَموالَهم في المصارف، تتباكى أَنها لن ترحَمَهم بعد اليوم في فواتيرهم، تبكي أَنْ لا مال لديها، وتَمُد يدها إِلى المواطنين تَشحد منهم الصبر والتعاوُن وطول البال… ريثما.

وإِذا راجَعَ المواطن اللبناني ذاكرتَه القريبة والوسيطة والبعيدة، يَستنتج أَنه منذ عهود سلحفاتية وهو يعيش في دولة الـ”ريثما”. فهو من زمان لم يشعر أَنه في دولة تَحميه وتُؤَمِّن لأَولاده فُرَص العمل كي لا يحمِلوا شهادتهم يومَ تَخَرُّجِهم ويركضوا إِلى أَول طائرة.

ومثلما سبقتْنا فْرنسا قبل أَسابيع إِلى إِدراج فصلٍ خاص في كتاب مدرسيّ عن فاجعة مرفإِ بيروت فيما دولة بيروت تتخبَّط في مهزلة الرَدّ والرَدّ على الرَدّ تعطيلًا عمَلَ المحقِّق العدلي، هكذا ستفعل الدُوَل في تدريس جامعاتها علومَ الاقتصاد والسياسة والتاريخ والسوسيولوجيا ستُدرِّسُ كيف تكون الدولة الفاشلة في حُكْم بلادها: تَشحد من الدُوَل المساعدات والمنَح والهبات والإِعاشات، وحين تَعجَز عن ذلك تَشحدُ من شعبها التعاون… ريثما.

وإِذا كان في منطق الانتخابات أَنَّ المرشَّحين يتقدَّمون من الشعب أَن يكونوا ممثِّليه، فَلْيَعِ شعبُنا بعد ثلاثة أَشهر أَنَّ مَن يَشحدون منه اليوم تضامنَ الــ”ريثما”، هُم ذاتُهم سيَشحدون منه التصويت لهم  في أَيار، حتى إِذا طاش وعيُ الشعب وأَعادهم ممثلين عنه من جديد نوابًا بل نوائبَ من جديد، سَيَتَناوبون من جديد على إِفقار الدولة، ويشحدون من الخارج والداخل مِنَحًا ومساعداتٍ وهِباتٍ من جديد.

وإِذا بعضُ الشعب ارتضى أَن يكون هؤُلاء الجلَّادون ممثليه، فَبِئْسَ هذا البعض الخانع الخامل الأَغناميّ، يُعيد طوعًا إِلى رقبته أَربع سنواتٍ سيفَ جلَّاديه، ولن ينفَعه لاحقًا أَن يلْعَنهُم حين لن يؤَمِّنوا له إِلَّا التباكي على فقر الدولة، ويشحدون منه الصبر والتعاوُن… ووُعُودَ الـ”ريثَما”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى