السياسة الخارجية الإماراتية: من نَشرِ الميليشيات إلى ديبلوماسية المضائق

يؤدّي أمن الملاحة البحرية دورًا أساسيًا في عملية إعادة التوجيه التي تُجريها دولة الإمارات العربية المتحدة لسياستها الخارجية، لا سيما في منطقة باب المندب. تُجسِّد ديبلوماسية المضائق تَحَوّلَ السياسة الإماراتية من نشر القوّة إلى حماية النفوذ.

إتفاقات أبراهام: هل تجعل أبوظبي وسيطاً بين إسرائيل وإيران؟

إلينورا أردماغني*

بعدما عملت الإمارات العربية المتحدة طوال سنواتٍ على فرضِ قوّتها العسكرية في الخارج على نحوٍ مُثير للجدل، تعمد الآن إلى تسريع حركتها الديبلوماسية مع التركيز بشكل خاص على أمن الملاحة البحرية. والحال هو أن “ديبلوماسية المضائق” أصبحت الآن في صلب السياسة الخارجية الإماراتية. يُتيحُ هذا التركيز على الشؤون البحرية للإمارات تحقيق أهدافها الوطنية والعالمية على السواء، من خلال إرساء توازن بين طموحاتها على صعيد نشر نفوذها من جهة وبين صورتها الدولية من جهة أخرى.

الاقتصاد الإماراتي، القائم على التجارة والشحن البحري، يُوجّه السياسة الخارجية، كما جاء في “مبادئ وثيقة الخمسين”” الإماراتية، الصادرة في أيلول (سبتمبر) 2021. لذلك، تُشكّل الهجمات المُتكَرّرة ذات الخلفيات المُرتبطة بإيران والتي تستهدف السفن التجارية في شبه الجزيرة العربية، تهديدًا للأمن القومي الإماراتي، مَقرونةً بالموقع الجغرافي الهشّ أصلًا للإمارات في مواجهة إيران. لقد انتُخِبت الإمارات عضوًا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للفترة 2022-2023، وفي هذا السياق، ظهر الأمن البحري أيضًا على قائمة الالتزامات الأساسية.

تُركّز ديبلوماسية المضائق التي تنتهجها الإمارات على ثلاثة مضائق بحرية، هي هرمز وباب المندب والسويس، وتجمع بين ثلاثة أبعاد متكافلة في السياسات: الحضور على مستوى الأمن البحري، والحوار البراغماتي والمؤسسي بشأن أمن الملاحة البحرية، والاستثمارات الاقتصادية الجغرافية حول المجاري المائية الحيوية.

هذه المقاربة أوسع نطاقًا من السياسة الخارجية ذات الدوافع العسكرية التي اتبعتها الإمارات حتى الوقت الراهن، ولكنها ليست مُناقضة لها. فضلًا عن ذلك، قد تُفسح المجال أمام نزع التصعيد البحري بين إيران وإسرائيل.

الإمارات تعيد ضبط سياستها الخارجية

إنتهجت الإمارات، منذ 2011 حتى 2019، سياسة خارجية قائمة على نشر القوّة، لا سيما من خلال التدخّلات العسكرية والدعم للأفرقاء المحليين (بما في ذلك التدريب العسكري) في بلدان ثالثة، لا سيما في منطقة باب المندب. فعلى سبيل المثال، نشر الإماراتيون طوقًا من الميليشيات على طول المدن الساحلية والجزر في اليمن، فسيطروا على هذه المناطق بطريقة غير مباشرة من خلال المجموعات المسلّحة المحلية في المناطق الجنوبية والغربية. ولكن منذ العام 2019، دخلت السياسة الخارجية الإماراتية في مرحلة حماية النفوذ، من خلال اعتماد موقف أقل حزمًا بهدف الحفاظ على النفوذ الجيوسياسي الذي اكتسبته الإمارات نتيجة بثّ القوة بعد العام 2011. والدليل على إعادة الضبط هو الانسحاب العسكري الإماراتي من اليمن في العام 2019، وفكّ الارتباط الإماراتي بالثكنات العسكرية في إريتريا وأرض الصومال (2019-2021). اليوم، تعطي الإمارات الأولوية للديبلوماسية على المغامرات العسكرية للحدّ من المخاطر الجيوسياسية وتحسين صورتها الدولية؛ وديبلوماسية المضائق تصبّ في هذا الإطار أيضًا. لكن الإمارات تجري تعديلات في سياستها الخارجية من دون التخلّي عن طموحاتها بأداء دور القوّة الإقليمية المُتوسّطة: فالتعديل تكتيكي، كونه مُرتبطًا بالوسائل التي اختيرت لتحقيق الأهداف الجيوسياسية، وليس تعديلًا استراتيجيًا. وهذا يعني أن سياسة طوق الميليشيات مستمرة، على الرغم من أن الديبلوماسية تحجبها في الوقت الحالي.

ديبلوماسية المضائق الإماراتية: ثلاثةُ أبعاد مُتكافلة

يُساهِمُ استقرار المضائق البحرية في شبه الجزيرة العربية في دعم النفوذ الإقليمي للإمارات ومصالحها الاقتصادية مثل البنى التحتية والصادرات، وكذلك أهداف الأمن العالمي مثل حرية الملاحة. يمكن النظر إلى ديبلوماسية المضائق بأنها مجهودٌ سياسي للحدّ من التهديدات البحرية للأمن الإقليمي والتجارة الدولية، وقد طُوِّرت في إطار ثلاثة أبعاد مُتكافلة في السياسة الخارجية الإماراتية. البُعدُ الأول هو أمن الملاحة البحرية: في العام 2019، انضمت الإمارات إلى التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية بقيادة الولايات المتحدة، المعروف أيضًا بعملية الحارس، من أجل حماية الملاحة البحرية والتجارة الدولية في مضيق هرمز. في الوقت نفسه، تتخذ البعثة الأوروبية للمراقبة البحرية في مضيق هرمز (ESMOH) بقيادة فرنسا، من الإمارات مقرًا لها. وللإمارات أيضًا حضور عسكري غير مباشر في جزيرتَين يمنيتين حيويتين، هما جزيرة بريم (في مضيق باب المندب)، وجزيرة سقطرى (قبالة ساحل الصومال)، حيث تتولى مجموعات سياسية عسكرية يمنية ساهمت الإمارات في تنظيمها وتدريبها وتجهيزها، إدارة ثكنات عسكرية شُيِّدت حديثًا، ومن هذه المجموعات قوات طارق صالح والمجلس الانتقالي الجنوبي.

البُعدُ الثاني قوامه الحوار البراغماتي والمؤسّسي حول أمن الملاحة البحرية. في العام 2019، أجرت الإمارات مباحثات مع إيران لخفض التصعيد بعد سلسلة من الهجمات التي استهدفت ناقلات نفطية كانت تمرّ عبر مضيق هرمز وخليج عُمان. تدعم الإمارات، بصفتها رئيسة رابطة الدول المُطلّة على المحيط الهندي للفترة 2019-2021، أمن الملاحة البحرية والتجارة والاستثمارات تحت شعار”تشجيع مصير مُشترك ومسار نحو الآزدهار في المحيط الهندي”. كذلك أقيمت المبادرة الأساسية للرابطة التي تحمل عنوان حوار المحيط الهندي، في أبو ظبي في شباط/فبراير 2021. وكان المشارِكون في الحوار قد وافقوا، خلال إجتماع أبو ظبي في العام 2017، على الحاجة إلى تعزيز آليات التعاون في المنطقة.

أما البُعدُ الثالث فيتعلّق بالاستثمارات الجغرافية والاقتصادية حول المجاري المائية. لقد ساهمت اتفاقات أبراهام في تحفيز المشاريع المُتاحة أمام الاستثمارات الإماراتية في الموانئ الإسرائيلية. وفي هذا الإطار، تنوي شركة موانئ دبي العالمية بناء ميناء عميق في خليج إيلات/العقبة الذي تتشاركه إسرائيل والأردن، بهدف إنشاء طريق تجاري جديد للشحن البحري والسكك الحديد يقود إلى حيفا. من شأن هذا الطريق أن يُشكّلَ رابطًا فعالًا بين الخليج والشواطئ الأوروبية. وفي أرض الصومال، استثمرت موانئ دبي العالمية 442 مليون دولار لتوسيع ميناء بربرة وتحويله إلى مركز تجاري إقليمي (مع منطقة اقتصادية) في باب المندب. كذلك تستقطب إمارة الفجيرة في أقصى الشرق استثمارات مباشرة داخلية وخارجية، لا سيما من القوى الآسيوية.

إفساح المجال أمام نزع التصعيد البحري بين إيران وإسرائيل

فيما تخوض إيران وإسرائيل حربًا بحرية هجينة، أصبح أمن الملاحة البحرية مسألة ملحّة أيضًا بالنسبة إلى الإمارات. يملك الإماراتيون هامشًا أكبر للمناورة، مُقارنةً بالسعوديين، في الأزمات الإقليمية وديبلوماسية المضائق، فالإماراتيون يتكلمون مع الإيرانيين والإسرائيليين على السواء. خلافًا للرياض، وقّعت الإمارات “اتفاق أبراهام” مع إسرائيل في العام 2020، وتُقيم علاقات براغماتية مع إيران، وهي شريكها الاقتصادي الأكبر في الخليج، ويمكنها الاعتماد على شبكة من الأفرقاء الساحليين اليمنيين ذوي الإمكانات البحرية المتزايدة.

بعد الهجمات البحرية في العام 2019، شُنَّت من جديد هجمات عدة على ناقلات نفط إماراتية وإسرائيلية في العام 2021 شرق هرمز، قبالة المياه الإماراتية والعُمانية. وفي أعقاب تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل في العام 2020، حذّرَ الرئيس الإيراني آنذاك حسن روحاني الإمارات من مغبّة السماح لإسرائيل بامتلاك “موطئ قدم في المنطقة”، مُشدّدًا على أنه بات بإمكان تل أبيب الوصول إلى الخليج من طريق الأراضي الإماراتية.

على الرغم من أن الإمارات هي فريق ناشط في أمن الملاحة البحرية، إلّا أنها قد تحجز لنفسها دور الوسيط. في العام 2019، تجنّبت أبو ظبي تحميل إيران علنًا مسؤولية الهجمات؛ ولاحقًا، شدّدَ وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش على ضرورة اعتماد “الديبلوماسية الجماعية” في التعاطي مع إيران.

في الفترة الأخيرة، قامت الإمارات بخطوات ديبلوماسية مهمة مع إسرائيل وإيران على السواء: فقد افتتحت سفارة لها في تل أبيب في تموز/يوليو 2021، وأرسلت وزير التسامح والتعايش إلى طهران للقاء الرئيس الإيراني المُنتخَب حديثًا إبراهيم رئيسي في آب/أغسطس الماضي. وفي قمة بغداد التي عُقِدت في أواخر آب/أغسطس 2021، اجتمع الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي، بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، وناقشا معًا “سياسة وديبلوماسية الجوار”.

انتُخِبت الإمارات العربية المتحدة عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للفترة 2022-2023. وفي آب/أغسطس 2021، ناشدت الإمارات، في البيان الذي ألقته في مجلس الأمن بشأن أمن الملاحة البحرية، “الدول الأعضاء دعم حرية الملاحة باعتبارها مبدأً أساسيًا من مبادئ القانون الدولي”، وشجّعت جميع الأفرقاء على “الالتزام ببناء الثقة من خلال فتح خطوط التواصل في البحار”، بما يحول دون الوقوع في سوء التقدير و”يشجّع على ضبط النفس”.

في هذا السياق، قد تشكّل العضوية غير الدائمة التي حصلت عليها الإمارات إطارًا مؤسّسيًا مؤاتيًا لإطلاق حوارٍ مُحدَّد الأهداف الغاية منه نزع فتيل التشنّجات البحرية حول مضيقَي هرمز وباب المندب، على أن تُشارك إيران وإسرائيل في الحوار. منذ العام 2011، أفضى نشر الإمارات لقوّتها العسكرية إلى زيادة النفوذ الإماراتي في أنحاء المنطقة، ويُشكّل طوق الميليشيات الذي أنشأه الإماراتيون على طول السواحل والجزر اليمنية أداةً مهمّة لتوسيع هذا النفوذ. وفي السيناريو الحالي الذي ينكشف فصولًا، تُعطي أبو ظبي الأولوية لديبلوماسية المضائق من أجل حماية نفوذها الجيوسياسي، ما قد يؤدّي دورًا في الحدّ من التشنّجات البحرية، ويُساهم بالتالي في إرساء توازنٍ بين الطموحات الوطنية الإماراتية والأمن العالمي.

  • إلينورا أردماغني هي زميلة باحثة مُشاركة في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية. وهي مساعِدة تدريس في جامعة ميلانو الكاثوليكية وأستاذة مساعدة في كلية الدراسات العليا في الاقتصاد والعلاقات الدولية (ASERI) في ميلانو.
  • عُرِّبَ هذا المقال من الإنكليزية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى