الحوكمة والمرونة: مواجهة “داعش” وتثبيت الإستقرار في شرق سوريا
وازن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد خلال حكمه لسوريا علاقة نظامه مع القبائل في منطقة دير الزور من خلال بناء علاقات مع بعض زعماء العشائر التقليديين، لكن بعد إنتفاضة 2011 تغيّر الوضع وصار ذلك من الماضي الجميل الأمر الذي لا يُنبىء بالخير.
بقلم نضال بيطار*
في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وازَنَت دمشق علاقتها بالقبائل في منطقة دير الزور من خلال بناء علاقات مع بعض زعماء القبائل التقليديين. وقد تمّ ضمان الولاءات من خلال مقاعد برلمانية، وتأمين ولاء قبلي أوسع من طريق المحاباة والرعاية والمكافأة. مع ذلك، بدأ هذا الإتفاق بالإنكشاف عندما فَقَدَ النظام السيطرة على محافظة دير الزور مع إنطلاق الثورة في العام 2011، وفي ما بعد بسبب سلسلة من العوامل والتطورات على مدى السنوات السبع الماضية.
تدمير الهيكل الإجتماعي
في حزيران (يونيو) 2011، سيطر “الجيش السوري الحر” على المحافظة، لكن الأمر لم يدم طويلاً مع استعادة النظام السوري لمدينة دير الزور في يوليو (تموز). وبدأ التحرير الثاني للمحافظة في أوائل العام 2012، لكن العديد من السكان فرّوا بسبب القتال العنيف، وفَقَدَ زعماء القبائل المحلية الكثير من نفوذهم وعلاقتهم بالنظام السوري.
في ظل سيطرة “الجيش السوري الحر” على المحافظة، خصوصاً بعد العام 2012، شكّلت كل قبيلة مجموعتها المسلحة الخاصة، وأدارت الإقتصاد المحلي بتقسيم موارد النفط الإقليمية في ما بينها. ونتيجة لذلك، لم تكن سيطرة “الجيش السوري الحر” على المنطقة مركزية، مما سمح للجهات الفاعلة الأخرى مثل الجماعة المرتبطة بتنظيم “القاعدة” “جبهة النصرة” (المعروفة اليوم باسم “جبهة تحرير الشام”) بضمان وتأمين مناطق نفوذها.
عندما سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على المحافظة في العام 2014، فقد دمّر الهياكل القبلية المتبقية وبنى تحالفات جديدة تحت سيطرته. كما إرتكب مذابح ضد بعض القبائل في دير الزور، وأبرزها مذبحة عشيرة الشتيات التي قتل فيها أكثر من 700 عضو منها، حيث إستهدف فيها بشكل خاص الأولاد الذين يبلغون من العمر 14 عاماً وأكثر. ونتج من هذا الأمر تصاعد في الصراع الدامي بين وعبر القبائل.
في الوقت عينه، أنشأ “داعش” مؤسسات حاكمة جديدة لإدارة الحياة اليومية للشعب، بما في ذلك نظام ضريبي ونظام تعليمي يبدأ على مستوى المدرسة الإبتدائية. وإستمر وجود “الدولة الإسلامية” في تغيير ديناميات المجتمع المحلي، ونتيجة لذلك، فرّ عدد كبير من السكان من المنطقة. لقد أسس “داعش” هياكل قيادية جديدة لتعزيز حكمه في المجتمع والتحكم في ديناميات العلاقة بين القبائل.
إبتداءً من أواخر العام 2014 ، حرّر التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة و”قوات سوريا الديموقراطية” (المعروفة أيضاً ب”قسد”) معظم دير الزور من سيطرة “الدولة الإسلامية”. وهذا الأمر قاد إلى صراع سياسي آخر عندما بدأ كل من الأكراد المدعومين من واشنطن والحكومة التركية في التنافس على بناء هيئة للإدارة في المحافظة. فقد أيّد الأتراك بناء مجلس محلي في تركيا لتمثيل دير الزور في محاولة لتأمين الولاء لتركيا في دير الزور من خلال هذا المجلس المحلي وعلاقتهم بقادة القبائل والمجتمعات المحلية التي ما زالت قائمة في دير الزور. وفي الوقت نفسه، شكّل الأكراد مجلساً مدنياً قائماً على فهمٍ كردي لعقد إجتماعي يعملون حالياً على وضعه وصياغته بالكامل.
وتجدر الإشارة إلى أنه في مرحلة مُعَيّنة، كان مجلس دير الزور المحلي الموجود في تركيا على استعداد للعودة إلى سوريا وتشجيع اللاجئين الآخرين والمُشرَّدين داخلياً على إتباع قيادته. وقد سألوا الحكومة الأميركية من خلال القنوات الخلفية لمنحهم ضمانات لسلامة أعضاء المجلس ودعم عودتهم كقادة لقبائلهم. إلا أن الولايات المتحدة لم تستجب لهذا العرض، الذي فسره المجلس المحلي بأنه “كلا”. ونتيجة لذلك، أصبحت قيادة دير الزور المنفية منقسمة وأكثر تجزّؤاً مما جعل إمكانية توحيد الزعماء و مجتمعات دير الزور أكثر صعوبة.
الأكراد يحاولون إدارة منطقة الجزيرة
علاوة على الشمال، بدأت المناطق الكردية في التغيّر أيضاً. كانت المجتمعات الكردية مُنقسمة سياسياً في الأصل، ولذلك تبنّت الأحزاب السياسية إستجابات ومواقف مختلفة بالنسبة إلى الصراع السوري وأقامت تحالفات مستقلة مع قوى إقليمية ودولية، بما في ذلك مع تركيا والولايات المتحدة والحكومة الإقليمية الكردية والنظام السوري. من هذه التحالفات، يبقى التحالف الكردي-الأميركي الأقوى بسبب هدف الطرفين الأمني المشترك المتمثّل في دحر “داعش”. خارج هذا الهدف، لا يوجد جدول أعمال سياسي مشترك واضح. لم تتعهد الولايات المتحدة أبداً بدعم أي كيان كردي في سوريا.
في منطقة الجزيرة (أو الحسكة) الواقعة تحت سيطرة سلطة الإدارة الذاتية، إتبع القيّمون نظام حكم مبنياً على هياكل الحكم القديمة، لكن بنفوذ ماركسي الذي يُقسّم المنطقة إلى كانتونات وبلديات محلية ويفرض قواعد لا تراعي الإختلافات بين المجتمعات والتحديات الإجتماعية والإقتصادية. أحد الأمثلة على ذلك هو قانون المرأة الذي أصدرته سلطة الإدارة الذاتية. إنه قانون تقدمي بالمقارنة مع القوانين الأخرى في المنطقة، حيث يُحظّر العديد من الممارسات التاريخية العربية – الإسلامية التقليدية. وهذا يشمل تعدد الزوجات وممارسات الميراث غير المتكافئ. وقد أدى هذا إلى زيادة التوتر مع الجماعات القبلية التقليدية، مما ولّد إرتفاع التوتر وتوسيع المسافة بين نظام الحكم والسكان المحليين. وقد نتج من هذا الوضع تعميق عدم الثقة بين العرب والأكراد.
النظام في دير الزور
في غضون ذلك، كان نظام الأسد يعمل على بناء المزيد من العلاقات مع أعضاء القبائل وأصدر سياسة أُطلق عليها “محاربة الإحتلال الأميركي”. ولتنفيذ هذه السياسة، قام النظام بدعم التنوّع القبلي، وخصوصاً أبناء قبيلة البكارة من خلال زعيمها نواف البشير. وتحاول دمشق إعادة تأكيد دور حزب البعث وإيديولوجيته بين القبائل. وقد تعزز بناء تحالف النظام من خلال الإستراتيجية الإيرانية باستخدام الميليشيات للسيطرة على المناطق الواقعة على طول نهر الفرات من طريق نظام الخدمة الإجتماعية المدفوع دينياً. ويبدو أن النظام يركّز على تحويل المزيد من القرويين من سُنّة إلى شيعة.
وفي هذا السياق، يعيش سكان محافظة دير الزور وسط مختلف الإنقسامات والتوترات العرقية والقبلية، ومناطق نفوذ وحوكمة متنافسة. أما الباقون في المناطق الخاضعة لحكم سلطة الإدارة الذاتية المتأثرة بالولايات المتحدة في محافظة دير الزور، فإنهم يزدادون عزلة، وقد طوّروا رواية قوية على أنهم ضحية عربية – سنية نتيجة للانقسامات العرقية والطائفية المتزايدة في المنطقة. وقد أدى ذلك إلى زيادة إهتمام هذه المجتمعات المختلفة واستعدادها للإندماج في نظام سلطة الإدارة الذاتية، مما أدى إلى تقسيم دير الزور – وجعلها أقل مرونة وأكثر عرضة لظهور العناصر الفاعلة الحاقدة، بما في ذلك “الدولة الإسلامية”، والنظام وحلفاؤه.
الولايات المتحدة واستقرار شرق سوريا
ضمن هذا المناخ، تنتهج الولايات المتحدة سياسة استقرار تقوم على إعادة بناء النظام القبلي القديم في المنطقة وإعادة هيكلته تحت السلطة الكردية ممثلة في سلطة الإدارة الذاتية. ومع ذلك، فإن نهج بناء المجلس المدني من خلال التحالفات القبلية لا يمكن أن يستقر في المنطقة لأن زعماء القبائل لم يعد يمثلون المجتمع الذي يحاولون حكمه، كما هو موضح أعلاه. ولهذا السبب، فإن الاستراتيجية الأميركية الحالية تخاطر بتقسيم السكان، مما سيؤدي إلى تصاعد التوتر بين القبائل المتبقية، في الوقت الذي تفشل في حل الفراغ السياسي والأمني الذي خلّقته هياكل الحكم المُتنافسة في المحافظة. من المحتمل أن يؤدي هذا إلى ظهور “داعش” بعد أن تمّ تحرير كل دير الزور من قبل “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة، وترك المنطقة غير حصينة مُعرَّضة لهجوم من قوات النظام السوري وحليفته إيران لإستعادتها.
بدلاً من ذلك، ينبغي على واشنطن أن تضطلع بدور أقوى وأن تستخدم أسلوباً حكيماً مختلفاً وأكثر توحيداً، يكون مرناً أمام قوى خارجية مزعزعة للإستقرار. يُمكن معالجة الإنقسامات الحالية ومناطق النفوذ المتنافسة من خلال إعادة تشكيل تركيبة المجلس المدني التي تحاول الولايات المتحدة إعادة تأهيله من خلال تأمين مجالس مدنية شاملة ومُمَثَّلة محلياً. حالياً، العامل الوحيد الذي يجعل هذا الوضع السيّىء لا يتدهور أكثر هو وجود الجيش الأميركي. بمجرد مغادرته، يكاد يكون من الأكيد أن يتبع ذلك إزدياد الفوضى والإضطراب.
• نضال بيطار هو أحد المشاركين في تأسيس مؤسسة “الشعب يُطالب بالتغيير” (People Demand Change) في واشنطن، وهو يشغل حالياً منصب المدير الإداري فيها، وكان شغل سابقاً العديد من المناصب حيث عمل مع المجتمع المدني ومجتمعات اللاجئين في فلسطين وسوريا والعراق ولبنان.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.