ضحايا مع سبق الإصرار
بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*
حين تجد نفسك وحيداً جداً، تكتب فلا يقرأ أحد، وتعزف فلا تطرب إلا أذنيك، وتُغنّي فلا ينصت لك إلا الفراغ .. تبتهج، فلا يشاركك البسمة صديق، وتحزن فيضم الناس أياديهم ويثنون صدورهم عنك، فاعلم أنك تحتاج إلى مراجعة مسلماتك كلها. فالوحدة في هذا العصر ليست دليل فرادة، وإنما دليل أنانية وإفراط في تضخيم الذات. أعرف أن كلماتي هذه لن تروق لك، وأنك سترفع حاجبك الأيسر وتزمّ شفتيك إستنكاراً وإنكاراً لما أقول. لكن لا تتعجّل أيها الصديق الطيّب، فلربما خرجت من مقالي هذا بوجه غير الذي أتيت به.
أفلَحت التكنولوجيا – لا نختلف، فقد جعلت فضاءنا صغيراً، بحجم غرفة ضيّقة. لكنها إستطاعت أيضاً أن تُقلّص حجم الجماجم والعقول لتحشرنا جميعاً – سكانُ هذا الكوكب الكبير- في علب سردين متناهية الصغر في حاوية قذرة. لا تشبه جارك يا صديقي – أعرف وأعترف – لكنك حتماً تُشبه علبة أخرى في حاويتنا الكبيرة، ربما في الهند أو أميركا اللاتينية أو ساحل العاج. ليست بصماتك سر تفرّدك يا صديقي، وإنما تغريداتك التافهة التي سرقتها من هنا أو ترجمتها من هناك، أو أعدت صياغتها بأسلوب رشيق مُبتذل.
صنبور تفاهة واحد يصب في علب السردين كلها مع اختلاف اللغات والأديان والمشارب، فلا عجب أن تأتي النتائج كربونية متشابهة: أشخاص محبطون مصدومون برآء تافهون يملأون علب التواصل المعتقة بآهات الوجع وقصائد التشفي والغيرة والحسد. وكلهم طيبون، أو كهذا يُعرّفون أنفسهم، وكأن دونالد ترامب هو المسؤول عن خيانات أزواجهم أو خناقات جيرانهم أو قطع أرحامهم. كلنا طيبون وحسنو النية ومستاؤون من الآخرين الذين هم حتما من سكان المريخ الذين أعجبهم كوكبنا المليء بالطهر والنقاء والشفافية.
إن كنت تظن أنك غير الجميع، وأنك ضحية الظروف والواقع المؤسف، وأن العالم قد ضاق على اتساعه بمواهبك الفذة التي لم يقدرها رؤساؤك ضيّقو الأفق الإنتهازيون، فاعلم يا رعاك الله أنك لست الضحية الوحيدة لشبكة الخيبات الإجتماعية، وأن ملايين الضحايا مثلك عبر المحيط يحتاجون فقط إلى من ينكأ جراحهم ليبدأوا سيمفونيات البكاء التي لن تنتهي إلا بانتحال الأعذار للانصراف من بين أيديهم.
أنا وأنت وملايين البشر عبر البسيطة يتشاركون الصور نفسها، والإحباطات، والبوستات نفسها. لكن السعداء لا يدخلون إلى شبكات التواصل عادة، لأنهم مشغولون بسعادتهم عن رفع صورهم أو تزيين بروفايلاتهم. فلو وجد أحدنا السعادة في حوار مع جار أو جلسة مع صديق أو نزهة مع رفيق، لما جلس ساعات طوال يقلب في الصفحات بحثاً عن بسمة مُحنَّطة أو رسالة لا تجيء. ستعود لتتهم الزوجة والأبناء والجيران والأقارب بأنهم سبب بلواك وأنهم من أوصلوك إلى حالتك البائسة هذه، ولو سألت أحدهم لقال عنك الشيء ذاته، لكنك مصرٌّ مثلي ومثلهم على لعب دور الضحية وأنك صاحب الرأس الأضخم والعقل الأرجح.
نحتاج فقط أن نُقلّب في دفاتر مسلماتنا، وأن نراجعها بصدق وحيادية. نحتاج إلى نفوس أرحب قادرة على تلقي صدمات مستحقة لطالما هربنا منها وتوارينا عن أعين الجميع حتى لا نراها. علينا أن نعترف أولاً يا صديقي أننا لسنا متفرّدين، وأن آلاف البسطاء أمثالنا يحملون المخاوف نفسها ويعالجون الهموم والإحباطات والفشل عينها. علينا أن نعترف آننا لسنا “سوبرهيومان”، وأننا عاجزون عن إصلاح ما فسد في بيوتنا وفي محيطنا الصغير، وأننا مركب من مركبات الفشل الإجتماعي والتأخر الفكري والتراجع الحضاري والديني والفكري. علينا أن نقرّ بأننا مجرد هباء في ملكوت كبير نتمرد على صانعه كل صباح ونحاسبه على ما ألمّ بنا – من دون حق – كل ليلة.
محتاجون إلى صلابة تسمح لنا بسحق ذواتنا المنبعجة المجوّفة التي لطالما غذيناها بالأكاذيب والخرافات حول قدراتنا المذهلة، وإلى شفافية تسمح لنا بالوقوف لحظات صدق أمام مرايانا المُهشّمة لنرى إلى أي حد كنا ضحايا. الحقيقة أننا صرنا ضحايا حين تخلينا عن أحلامنا البسيطة واكتفينا بنظرة خجلى ودمعة مالحة فوق وسادة محشوة بالأمل الكاذب بأن غدنا سيكون أفضل. كنا ضحايا حين شاركنا بسلبيتنا المعهودة في التصفيق للتافهين والتطبيل للمتسلقين. وصرنا ضحايا لأننا رفضنا أن نتحمل المسؤولية عن هروبنا إلى شبكات التواصل لندير معاركنا من خلف شاشات زجاجية شفافة، لننتصر على الكبت بالتبول في شوارع تكتظ بعلب السردين التالفة.
• عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه بواسطة البريد الإلكتروني التالي: Shaer129@me.com