الازدهارُ الاقتصادي في جنوبِ أوروبا قد لا يكونُ مُستَدامًا

بعد عقودٍ قضتها في الظلِّ الاقتصادي لشمال وغرب أوروبا، بدأت دول جنوب أوروبا أخيرًا تستمتع بوقتها تحت الشمس. مع ذلك، لكي يُمثّلُ هذا النجاح أكثر من مجرد نقطة مؤقتة، فقد يتعيّن عليها التضحية بإيرادات السياحة القصيرة المدى وإنشاء نموذجٍ أكثر استدامةً لتأمينِ مُستقبلٍ طويل المدى لهذا القطاع الحيوي.

السياحة هي أساس للنمو في دول جنوب أوروبا.

ميشال مظلوم*

في شباط (فبراير) الفائت، عندما أصدر الاتحاد الأوروبي بياناتٍ اقتصادية للرُبع الأخير من العام 2023، كشفت الأرقام عن شيءٍ غير عادي: فقد نما الناتج المحلي الإجمالي لإيطاليا، التي تُعتَبَر عادةً سلة اقتصادية “مفخوتة” دائمة للكتلة، بمعدّلِ أربعة أضعاف معدل النمو في ألمانيا. ورُغمَ أن ذلك لم يسبق له مثيل في سجلّات التاريخ الاقتصادي الأوروبي الحديث، فإنه يعكس أيضًا اتجاهًا أوسع نطاقًا. في حين كانت الاقتصادات الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة غارقةً في نموٍ فاتر وحتى الركود على مدى السنوات القليلة الماضية، فقد تمكّنَت دولُ “الخنازير” في جنوب أوروبا، البرتغال وإيطاليا واليونان وإسبانيا، من قَلبِ السيناريو الاقتصادي.

في العام 2023، نما الناتج المحلي الإجمالي في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي بمعدَّلٍ متوسّط يبلغ حوالي 0.4%، في حين سجّلت كلٌّ من اليونان وإسبانيا والبرتغال معدّلات نمو تزيد بشكلٍ مُريحٍ عن 2%. والآن أصبح الاقتصادان الأكبر حجمًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إيطاليا وإسبانيا، من بين الدول المساهمة الرئيسة في عودة الاتحاد الأوروبي إلى النموِّ المتواضع للغاية. ومن ناحيةٍ أُخرى، وعلى حدِّ تعبير المُحلل الاقتصادي فيليب مينغ، فإنَّ ألمانيا، “القوة الطاغوت التقليدية في أوروبا، أصبحت مُتَخَلّفة”. ويُمثّلُ هذا تحوّلًا مُذهِلًا عمّا حدثَ في العقدِ الأوّل من القرن الحادي والعشرين، عندما عانت منطقة البحر الأبيض المتوسط من فترةٍ طويلة من الركودِ الشديد والتقشّفِ في أعقابِ الأزمة المالية في العام 2008، والتي تركت إسبانيا والبرتغال وإيطاليا على وشك الإفلاس، واليونان على وشك الخروج من الاتحاد الاوروبي.

ويُمكِنُ تَفسيرُ الكثير من الأداءِ المتفوّق لدول جنوب أوروبا مُقارنةً ببقيّةِ دول الاتحاد الأوروبي بالتطوّرات التي حصلت في مجالَي الطاقة والسياحة، وخصوصًا كيف تشكّلت هذه القطاعات بفِعل الأحداث العالمية الأخيرة مثل الحرب في أوكرانيا ووباء كوفيد-19. لقد كَشَفَ الارتفاعُ الهائلُ في أسعارِ الطاقة الأوروبية في أعقابِ الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، عن اعتمادِ الاتحاد الأوروبي المُفرط على الطاقة الروسية، التي زوَّدت أكثر من 40% من واردات الغاز عبر خطوط الأنابيب للاتحاد الأوروبي في العام 2021. وفي حين أن إسبانيا والبرتغال وإيطاليا ليست محصّنة تمامًا ضد هذه الارتفاعات في الأسعار، فقد كانت أقل اعتمادًا على الغاز الروسي من ألمانيا أو فرنسا، حيث كانت تحصل على إمداداتٍ متزايدة من شمال إفريقيا على مدى العقد الماضي. وقد استثمرت إسبانيا على وجهِ الخصوص بكثافة في شراكات الطاقة مع الجزائر من خلال شركات الطاقة الإسبانية الخاصة مثل “ريبسول”.

نتيجةً لذلك، لم تضطر دول منطقة البحر الأبيض المتوسط الأوروبية إلى إجراءِ التغييرات الجذرية نفسها في سياسة الطاقة كما فعلت ألمانيا في أعقاب الغزو الروسي. قال كريستيان كولمان، الرئيس التنفيذي لشركة الكيماويات الألمانية الكبرى “إيفونيك إندَستريز”، لتلفزيون “يورونيوز” في أيلول (سبتمبر)، إنَّ التحوّلَ المُفاجئ من الإمدادات الروسية الرخيصة “ألحقَ ضررًا مُؤلمًا بنموذجِ الأعمالِ في الاقتصادِ الألماني”. ولعقودٍ، كان هذا النموذج يعتمِدُ على الصناعات التحويلية كثيفة الاستهلاك للطاقة والصناعات الثقيلة. وعلى النقيضِ من ذلك، فقد لعبَ الضُعفُ الذي طال أمده في جنوب أوروبا في هذه القطاعات نفسها لصالح المنطقة.

بالإضافة إلى إمدادات الغاز المُتَنَوِّعة، حقّقَ جنوب أوروبا أيضًا توسُّعًا كبيرًا في إنتاجِ الطاقة المُتجدِّدة، الأمر الذي أدّى إلى دفع النمو وتوليد فُرَص العمل التي تشتدُّ الحاجةُ إليها. في العام 2023، زوّدَت الطاقة المُتجدّدة أكثر من نصف احتياجات إسبانيا للمرة الأولى على الإطلاق، بينما ارتفعَ هذا الرقم في البرتغال إلى أكثر من 60 في المئة. واستمتعت اليونان أيضًا بعامٍ قياسي، حيث وَفَّرَت مصادر الطاقة المتجددة 57% من الاحتياجات الوطنية، في حين أصبحت إيطاليا أخيرًا ثالث أكبر منتج لمصادر الطاقة المتجدّدة في الاتحاد الأوروبي. ونظرًا لوَفرَةِ الشمس والرياح في المنطقة، لا تزال هناك إمكانات هائلة لمزيدٍ من النمو.

في الوَقتِ نفسه، خلال جائحة كوفيد-19، كان قطاعُ السياحة واحدًا من أكثر القطاعات تضرُّرًا في الاقتصاد الأوروبي. لكنَّ الإلغاءَ الجماعي للسفر والإجازات لمدّة عامين تقريبًا أدّى إلى خلقِ طلبٍ مكبوت انفجرَ مع انحسارِ الوباء. ونتيجةً لذلك، انتعشت أعدادُ السياح في العام 2023، متجاوزةً مستويات ما قبل الوباء. وأنفق السياح الذين زاروا البرتغال رقمًا قياسيًا قدره 25 مليار يورو في العام 2023، وهو ما يُمثّلُ أكثر من 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد وزيادةً بنسبة 16.5 في المئة مُقارنةً بالعام 2019. كما تمتّعت إسبانيا بعامٍ وافر، حيث استقبلت 84 مليون زائر أجنبي وتجاوزَ إجمالي إيرادات السياحة 200 مليار يورو لأول مرة. وتكشّفت قصّةٌ مماثلة في اليونان وإيطاليا، حيث بلغت الإيراداتُ وأعدادٌ السياح فيهما مستويات قياسية.

رُغمَ أنَّ الازدهارَ الحالي في جنوبِ أوروبا حقيقي وكبير، إلّا أنَّ التساؤلاتَ تظلُّ قائمةً حولَ ما إذا كان من المُمكِن الحفاظُ على الزخم الاقتصادي في المنطقة في المستقبل. إنَّ الموارِدَ التي تُغَذّي القطاعاتَ الرئيسة للطاقة الخضراء والسياحة هي دليلٌ على المستقبل، حيث من المتوقَّع أن تستمر الشمس في السطوع وأن تستمر الرياح في الهبوب. لكنَّ هذا المستقبلَ مُعَقَّدٌ بسببِ الشكوكِ المُحيطة باستدامةِ نموذج السياحة الجماعية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، فضلًا عن العواقب الطويلة الأجل التي قد تترتّبُ على سياسةِ الطاقة نتيجةً للتحوّلِ السياسي الحاسم في المنطقة نحو اليمين في السنوات الأخيرة.

إن السعي الحثيث وراء السياحة الجماعية من قبل الحكومات وكذلك صناعات السياحة والضيافة لتعويضِ خسائر سنوات الوباء له عواقب وخيمة على المُقيمين في المناطق السياحية الساخنة، مما يُصَعِّبُ الوصول إلى السكن بأسعارٍ معقولة، ويزيدُ الضغطَ على أنظمةِ المياه والصرف الصحي، ويَحُدُّ بشكلٍ خطير من نوعية الحياة. وقد أدّى ذلك إلى إثارةِ ردِّ فعلٍ عنيفٍ مُتزايدٍ في أجزاءٍ من اليونان وإيطاليا وإسبانيا، حيث خرج المواطنون في الأسبوع الفائت في جزر الكناري بأعدادٍ غير مسبوقة للمطالبة بوضعِ قيودٍ على أعداد السياح. وفي مدنٍ مثل البندقية وبرشلونة، اتخذت السلطات الإقليمية والبلدية بالفعل تدابير للحدِّ من النمو المتزايد للسياحة، وسط إدراكٍ بأنَّ الارتفاعَ الذي لا نهايةَ له في عددِ الزوار -وبالتالي الإيرادات الحكومية- ليس مُستدامًا ببساطة.

في الوقتِ نفسه، مع هزيمةِ الاشتراكيين في الانتخابات العامة الأخيرة في البرتغال، أصبحت ثلاثٌ من دول “الخنازير” تحكُمُها الآن أحزابُ يمين الوسط، أو اليمين المُتشَدِّد، أو اليمين المُتطَرّف، وجميعها إما مُتشَكّكة بشدة في تحوّلِ الطاقة أو تتعرّضُ لضغوطٍ من قِبَلِ دوائر انتخابية رئيسة للتراجع عن التزاماتها المُتعَلِّقة بتغيّر المناخ. وأخيرًا، قامت الحكومة اليمينية المُتَشدّدة في اليونان بتخفيف أهدافها المُتَعَلِّقة بالطاقة المتجدّدة ودَعَت بشكلٍ مشؤوم إلى “المزيد من التركيز على التكيُّفِ بدلًا من التعديل”. وفي إيطاليا، ترى حكومةُ رئيسة الوزراء جيورجيا ميلوني اليمينية المتطرّفة أنَّ خططَ الاتحاد الأوروبي لانتقالِ وتحويل الطاقة تُمثّلُ تهديدًا للقاعدة الصناعية في البلاد، وتُعطي الأولوية لإمدادات الغاز الأفريقية على مصادر الطاقة المُتَجَدِّدة في سعيها إلى استقلالِ الطاقة عن روسيا. وقد أصدَرَت إدارة يمين الوسط الجديدة في البرتغال بعضَ البيانات الإيجابية بشأن أهداف إنتاج الطاقة المتجددة، لكنها حكومة أقلية ضعيفة تتعرّض لضغوطٍ متزايدة من المتشكّكين بالمناخ في حزب “تشيغا” اليميني المتطرف، الفائز الأكبر في انتخابات آذار (مارس).

حتى في إسبانيا، قبل وصول رئيس الوزراء الحالي بيدرو سانشيز من يسار الوسط إلى السلطة في العام 2018، تسببت “ضريبة الشمس” التي فرضها الحزب الشعبي اليميني والتي أثارت سُخريةً كبيرة، في إلحاقِ أضرارٍ جسيمةٍ بصناعةِ الطاقة الشمسية. ويُنظَرُ إليها على نطاق واسع على أنها دَعمٌ لمصالح الشركات في مجال الطاقة، حيث فرضت ضريبة على المنازل الخاصة والشركات الصغيرة التي تولد الطاقة من خلال الألواح الشمسية. قبل انتخابات تموز (يوليو) الماضي، عندما بدا الأمر وكأن حكومة ائتلافية من يمين الوسط/اليمين المتطرف قد تظهر من صناديق الاقتراع، قالت روكسانا ديلا فيامور -وهي باحثة بارزة في مركز أبحاث E3G- لـلموقع الإخباري الأوروبي “EURACTIV” إن ذلك “سيؤثر بالتأكيد في التحوّل الأخضر في إسبانيا كما يؤثّرُ سلبًا في الاستثمار طويل الأجل في مصادر الطاقة المتجددة”. ونظرًا لائتلاف سانشيز الهشّ، لا يُمكنُ استبعاد مثل هذا الاحتمال في المستقبل القريب.

بعدَ عقودٍ قضتها في الظلِّ الاقتصادي لشمال وغرب أوروبا، بدأت دول جنوب أوروبا أخيرًا تستمتع بوقتها تحت الشمس. ومع ذلك، لكي يُمثّلُ هذا النجاح أكثر من مجرّد نقطة مؤقتة، فقد يتعيّنُ عليها التضحية بإيرادات السياحة قصيرة المدى وإنشاء نموذجٍ أكثر استدامة لتأمينِ المستقبل طويل المدى لهذا القطاع الحيوي. ويتعيَّنُ عليها أيضًا أن تأملَ في عدم التضحية بالتوسّع السريع في الطاقة المتجدّدة، التي تناسبها الموارد الطبيعية في المنطقة بشكلٍ بارز، على مذبح النفعية السياسية لليمين المتشدّد في السنوات المقبلة.

لكن في الوقت الحالي، وبعد عقد من الزمان حيث كان جنوب أوروبا “الكسول” كثيرًا ما يتعرّض للتشهير في مناقشات الاتحاد الأوروبي من قِبَل شخصياتٍ من الشمال “الكادح”، فمن الممكن أن نغفرَ لهم ابتهاجهم بحقيقةٍ مفادها أنَّ “الخنازير” قد عادت إلى ديارها لتجثم.

  • ميشال مظلوم هو صحافي لبناني مُقيم في لندن ومن أسرة “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى