السدّ الأثيوبي الكبير يُهَدِّد التنمية المُستدامة في مصر
فيما تعمل أثيوبيا على إنهاء سدّها المائي الكبير الذي يُمكن لحوضه تخزين كل التدفق السنوي لنهر النيل غير آبهة بمبادىء القانون الدولي، فإن مصر تعيش حالة من القلق الشديد من بناء هذا السد الذي يُهدّد إستدامة تنميتها والذي قد يدفعها إلى إعلان حرب مؤلمة ضد أثيوبيا.
بقلم أمل قنديل*
إنها صورة مأسوية ذات أبعاد لا يًمكن تصوّرها بأنها تقع في القرن الحادي والعشرين حيث يتم منذ سبع سنوات بناء مشروع ضخم لتوليد الطاقة الكهرومائية، “سد النهضة الإثيوبي الكبير” (أو سد الألفية الكبير) – الذي يُمكنه أن يخزّن حوضه تقريباً كل التدفق السنوي لنهر النيل العابر للحدود – وذلك من دون إجراء دراسة أو تقييم مستقل شامل للأثر البيئي والإجتماعي العابر للحدود. وتستمر هذه الحالة في تحدٍّ للمعايير الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول، والقانون البيئي الدولي، وقانون حقوق الإنسان، والقانون العرفي للتنمية المستدامة.
لقد أوقفت إثيوبيا المفاوضات مع مصر والسودان في العام 2010 للمضي قدماً في بناء السد في البداية. وأُعطِيَ الضوء الأخضر لإجراء تقييمٍ للأثر البيئي والإجتماعي العابر للحدود بعدما تمّ بناء 40-50 في المئة من السد. مع ذلك، يقترب هذا المشروع من الإنتهاء ولا يوجد بعد في الأفق أي دراسة أو تقييم من هذا النوع.
في آذار (مارس) 2012، أنشأت مصر وإثيوبيا والسودان لجنة دولية من الخبراء لإجراء تقييمات أولية لآثار السد. وقد أشار تقرير هؤلاء الخبراء في 2013 إلى أن من أصل 20 وثيقة طلبتها اللجنة، لم يتم تقديم سبع وثائق منها، وتم توفير إثنتين منها فقط بشكل مؤقت.
المعلومات في ما لا يقل عن تسعٍ من الوثائق المتبقّية كانت قديمة عديمة الفائدة، وغير ذي صلة، و/ أو غير مُكتملة، كما لا يوجد أي دليل يدعم الاستنتاجات المختلفة التي قُدِّمَت. وأثار التقرير مخاوف بشأن عدم وجود تحليل مُفصّل للعديد من القضايا الهيدرولوجية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية والهندسية الحيوية، بما في ذلك تصميم المواقع والبنية الهيكلية، وحجم ومدى تأثيرات المصب العابر للحدود للسد التي كانت دراستها ضرورية قبل البناء. وأوصى الخبراء بنطاق عمل لتقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود.
في العام 2015، وافقت البلدان الثلاثة في إعلان المبادئ على تطبيق توصيات لجنة الخبراء، وإستخدام النتائج النهائية للدراسات المشتركة في مراحل مختلفة من مشروع السد للإتفاق على مبادئ توجيهية للملء الأول، بالتوازي مع إنشاء السد. وهذا لم يحمِ بشكل كافٍ حقوق المصب؛ ينبغي أن يتوقّف تنفيذ التدبير العابر للحدود، إذا كان جارياً، لمدة 6 إلى 12 شهراً على الأقل للسماح للبلدان المتأثرة بدراسة وتقييم آثار التدبير.
من جهتها فشلت إثيوبيا في الامتثال حتى مع إعلان المبادىء. وقد طالبت، إلى جانب السودان، بتغييرات وإسقاطات متفق عليها بشأن الاختصاصات ونطاق توصيات لجنة الخبراء، من أجل تقييم الأثر البيئي والاجتماعي، الأمر الذي أدّى إلى وقف المفاوضات في أواخر العام 2017. في غضون ذلك، واصلت إثيوبيا بإصرار على بناء السد قبل إجراء تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود.
إن إجراء تقييمات الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود في الوقت المناسب هو مطلب دولي بموجب القانون العرفي. وقد أيّدت ذلك محكمة العدل الدولية في العام 2010 في قضية “بولب ميلز” (Pulp Mills) المُتعلّقة بنهر أوروغواي. وفي العام 1992، أدى “إعلان ريو بشأن البيئة والتنمية” إلى إدخال تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود في مقدمة سياسات التنمية المُستدامة، وبالتالي القانون العرفي. في العام 1997، دخلت إتفاقية الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا في العام 1991 الخاصة بتقدير الأثر البيئي في إطار عابر للحدود حيّز التنفيذ. كما تكرّس إتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن الإستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية العابرة للحدود 17 حكماً لحماية وحفظ المجاري المائية التي لا يمكن تجسيدها من دون تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود.
لدى وكالات التنمية الدولية، بما فيها البنك الدولي، ومنظمة الأغذية والزراعة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، ومصرف التنمية الأسيوي، ومصرف التنمية الأفريقي، والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير، والبنك الإسلامي للتنمية، ومؤسسة التمويل الدولية، أُطُرٌ مُفصَّلة مع متطلبات وعمليات صارمة، ومعايير تفصيلية للتقييمات البيئية والاجتماعية. وتُجرى هذه للتحقق من إستدامة المشاريع وتجنّب الآثار البيئية والاجتماعية السلبية أو التقليل منها أو تخفيفها أو إزالتها. إن تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود مطلوب للمشاريع القائمة على النوع والموقع والحساسية والحجم، وتُصنَّف على أنها عالية المخاطر. إن مشاريع الطاقة الكهرومائية العابرة للحدود مثل سد أثيوبيا الكبير تأتي تلقائياً ضمن هذا التصنيف. في عالم تلتزم فيه الدول بالقانون الدولي، وتفي الحكومات بالتزامات الدولة للتعايش والعيش في سلام، كان من الممكن إجراء تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود للسد قبل البدء في بنائه. ويبدو أن هذا العالم مختلف.
وكانت إثيوبيا إنتهكت بالفعل الشرط القانوني الأساسي للإشعار المسبق عندما بدأت بناء السد من دون إخطار مصر والسودان. وتتجذّر متطلبات الإشعار المُسبَق والتشاور في المبادئ العامة للقانون الدولي، والمُكرَّسة في أدوات بما فيها قواعد هلسنكي لعام 1967، وإتفاقية لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، وإتفاقية الأمم المتحدة بشأن المجاري المائية، وكذلك إعلان ريو. وتتمثّل النقطة الأساسية للإشعار المُسبَق في هذا السياق في السماح للبلدان المعنية باتخاذ تدابير عابرة للحدود لإجراء تقييمات للآثار البيئية والاجتماعية المُحتَملة عليها في الوقت المناسب، ووضع خطط مناسبة لإدارة الواقع. إذا لم يرغب أو لم يكترث البلد الذي يخطط لإجراء تدبير عابر للحدود في السماح لجيرانه بإجراء هذه التقييمات والخطط المشروعة ، فإنه لا يخطرهم بالتدبير مسبقاً.
ومن دون إشعار مسبق، تصبح الآثار الضارة عبر الحدود “أمراً واقعاً”. ويحرم هذا الأمر السكان من حق أساسي في معرفة وتجنب أو إعداد أنفسهم لتدبيرٍ من شأنه أن يؤثر في حياتهم.
إن المنافس في نزاع لا يمكن أن يكون أيضاً الحَكَم. ومع ذلك، ففي حين تُعيق إثيوبيا عمليات تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود أو تؤخّره، فإن مسؤوليها – عادة في كل نقطة من المراحل التي تتوقف فيها محادثات السد – يدّعون أن السد لن يضر بمصر. وهم يروّجون هذا الإدّعاء الخاطىء بدلاً من إجراء التقييمات المهنية الفعلية والهادفة. لقد أشار تقرير لجنة الخبراء في العام 2013 إلى أن اللجنة لم تتلقّ أي معلومات يُمكن معها التحقق من موثوقية ودقة المستندات التي قدّمتها إثيوبيا عن فوائد السد المزعومة لمصر – حيث إستبعدت هذه الوثائق تقييمات التأثيرات في المراحل النهائية لأنها إفترضت بالفعل أن التأثيرات غير مهمة.
إن المرحلة المحورية في تقييم الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود تكمن في النظر في بدائل بعد إجراء تقييمات الأثر وإتمام تحديد جميع تدابير التخفيف. وتتضمن هذه المرحلة مقارنة سلسلة من التصميمات البديلة والمواقع والتقنيات والعمليات والآثار المُحتَملة وخيارات التخفيف لكل منها، لتحديد التكوين الأقل ضرراً. إن عمليات البناء و “التشاور” التي يقوم بها المشرفون على السد تبعد بضع سنوات ضوئية من العمليات والمعايير الأخلاقية، ونتائج الاستقرار والازدهار التي تهدف الوصول إليها وإنتاجها.
لا عجب أن إثيوبيا رفضت طلب مصر في كانون الثاني (يناير) 2018 لوساطة البنك الدولي. وعلى الرغم من أنه قد لا يكون البنك الدولي كوسيط قد طلب تطبيق سياسته البيئية والاجتماعية لتمويل المشاريع، فإن الوساطة لن تستطيع تجريد أو إزالة نفوذ هذه المبادئ الأخلاقية والقانونية التي تحكم عمله.
تتم مراقبة الدول بحثاً عن هشاشتها لأسباب وجيهة. إن الدول الهشّة لا تتسبب فقط في معاناة لا داعي لها لشعوبها، بل إنها تُهدّد الاستقرار والازدهار في البلدان والمناطق المجاورة. السودان وإثيوبيا هما الدولتان اللتان تحتلان على التوالي المرتبة السابعة والخامسة عشرة الأكثر هشاشة في العالم. فهما بحاجة إلى دعم لتصبحا مستقرتين، ولكن ليس من طريق تقويض إستقرار بلد آخر.
إن تقييمات الأثر البيئي والاجتماعي العابر للحدود في الوقت المناسب تسمح للبلدان معرفة، وتخفيف، أو القضاء على التأثيرات الضارة للتدابير المخطط لها عبر الحدود التي تؤثر عليها. لقد حُرم 99.4 مليون شخص في مصر بشكل فاضح من الوصول إلى هذه العملية الأخلاقية والقانونية المطلوبة عالمياً والتي تحمي حقوق الإنسان وكرامته وإنجازاته الاجتماعية والاقتصادية. إن التفكير القصير المدى يقود الناس إلى الإفتراض بأن هذه القصة تنتهي هنا. الناس الحكماء يعرفون جيداً أن القضية أكبر من أن تنتهي هنا.
• أمل قنديل هي مستشارة في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، وباحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. وهي متخصصة في الاقتصاد السياسي للشرق الأوسط، وبخاصة في المياه والأمن الغذائي والزراعة وتغير المناخ، والقضايا المتعلقة بالفقر والتنمية الريفية. وتركز عملها على مصر، وكذلك على الأردن وسوريا والمغرب والإمارات العربية المتحدة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.