إقليم كردستان – العراق في وجه العاصفة
بعد الأضرار الفادحة التي لحقت بشرعية النخب السياسية الكردية وصدقيتها، باتت هذه النخب معرَّضة لخسارة مقاعد وانحسار نفوذها في الانتخابات البرلمانية المقبلة في العراق.
بقلم كريستين مكافراي فان دن تورن*
نظّم الأكراد تظاهرات، من 25 إلى 30 آذار (مارس) الفائت، في السليمانية وإربيل ودهوك، في موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات ضد خفوضات الرواتب في الوظائف العامة. رداً على هذه التحركات، أقدمت القوى الأمنية التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني الحاكم على إعتقال عشرات الصحافيين والنشطاء وموظفي الخدمة المدنية وسواهم من الموظفين الحكوميين، مثل المعلمين، في إربيل ودهوك، والاعتداء عليهم في إطار حملة قمع عنيفة. وكان المشهد نفسه قد حدث في السليمانية خلال التظاهرات بين 18 و20 كانون الأول (ديسمبر) 2017. فقد تعرّض المحتجّون لحملة قمع ساحقة وعنيفة، حيث إجتاحت الدبابات الشوارع، ولقي خمسة أشخاص مصرعهم، وأصيب أكثر من مئتَين بجروح في رد جديد وغير معهود من النخب السياسية والقوى الأمنية في السليمانية، التي كانت سمحت، في الغالب، بالاحتجاجات في الأعوام الماضية، ما خلا محطات عدّة شهدت عنفاً وترهيباً.
غالباً ما يُنظَر إلى التظاهرات في إقليم كردستان – العراق بأنها غير ذي جدوى. يُشير أصحاب هذا الرأي إلى أن أبناء السليمانية المحبَطين نزلوا مراراً وتكراراً إلى الشارع بين العامَين 2015 و2016 إحتجاجاً على خفض رواتب الوظائف العامة وعدم تسديدها بصورة منتظمة، إنما لم يتمكّنوا من تحقيق أي نتائج جدّية. لم يصل أيٌّ من هذه التظاهرات السابقة إلى إربيل، عاصمة إقليم كردستان، وتلاشت كلّها في نهاية المطاف بسبب مزيج من المضايقات واللامبالاة.
بيد أن التظاهرات الأخيرة – في السليمانية في كانون الأول (ديسمبر) 2017، وفي مختلف أنحاء إقليم كردستان في آذار (مارس) 2018 – تختلف إلى حد كبير عن التظاهرات السابقة. فالاحتجاجات تجسّد، على ما يبدو، تحوّلاً مهماً في مزاج الرأي العام الكردي، وكذلك في مزاج القيادة السياسية. علاوةً على ذلك، لم تقتصر إحتجاجات آذار (مارس) 2018 على السليمانية، بل شملت أيضاً إربيل، المقر الهادئ لحكومة إقليم كردستان حتى تاريخه ومركز السلطة بالنسبة إلى الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني، والذي يحتفظ بشبكات واسعة من المحسوبيات هناك. لقد كشف مشهد القوى الأمنية التابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني في هجومها على موظفي الخدمة المدنية والصحافيين والنشطاء المحليين، عن تدهور كبير في العلاقات بين الحزب المذكور والرأي العام الكردي.
إن حدّة الإحتجاجات الأخيرة ومشاعر الغضب ضد النخب الحاكمة في كردستان – الإحتكار الثنائي من قبل آل البارزاني وآل طالباني – كانت من نتاج مزيج من العوامل. مما لا شك فيه أن الأزمة المالية المتعاظمة التي تعاني منها حكومة إقليم كردستان، والتي أسفرت، على إمتداد ثلاث سنوات، عن حجب الرواتب وإرتفاع الدين العام المستحِق للدائنين المحليين، ساهمت في إستفحال الغضب المحلي. وبما أن الحرب ضد التنظيم المُسمّى “الدولة الإسلامية” إنتهت تقريباً، لم تعد إربيل قادرة على إستخدام ذريعة الطوارئ الأمنية لتبرير ما يواجهه عدد كبير من الأكراد من تراكُم الديون وتراجع المدّخرات. في 19 آذار (مارس)، قبيل إندلاع الاحتجاجات في إربيل، قامت بغداد بتحويل 267 مليون دولار إلى وزارة المالية في حكومة إقليم كردستان لتسديد رواتب الوظائف العامة، لكن المبلغ كان قليلاً جداً، وجاء متأخراً جداً بالنسبة إلى موظفي الخدمة المدنية في حكومة إقليم كردستان. يشعر الأكراد بأنهم يرزحون تحت وطأة المعاناة فيما تستمر النخب السياسية بالتنعّم بثمار الفساد، ما يؤدّي إلى تعاظم المرارة لديهم.
لكن المال ليس السبب الوحيد وراء إنهيار الثقة الشعبية بحكومة إقليم كردستان. فالحافز الحقيقي كان سياسياً، لا سيما فشل إستفتاء الاستقلال في أيلول (سبتمبر) 2017، وما أعقبه من فقدان حكومة إقليم كردستان السيطرة على كركوك وسواها من الأراضي المُتنازَع عليها، وكذلك على الحقوق السياسية والاقتصادية التي إنتزعها الأكراد من بغداد منذ العام 2003. لقد تبيّن أنه لا أساس للوعود الواثقة التي أطلقتها النخب في الحزب الديموقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني. فقد تخلّوا عن كركوك وباقي الأراضي المتنازع عليها من دون مقاومة تُذكَر أو من دون أي مقاومة على الإطلاق، فتبدّد حلم الاستقلال الكردي في غضون أيام معدودة.
نتيجةً لذلك، بات الأكراد أقل تقبّلاً لسوء التدبير الذي تعاني منه إدارة الإقليم. لقد تحمّل الأكراد العراقيون الفساد المستشري (فقدان مليارات الدولارات من العائدات النفطية)، والمحاباة (يشغل أفراد عائلتَي البارزاني وطالباني والمقرَّبون منهم كل المناصب الكبرى) منذ العام 2003 لأنهم كانوا يُعلّلون النفس بالاستقلال، أو أقلّه لأنهم كانوا يسلكون مساراً يمنحهم إستقلالية أكبر عن العراق. لكن منذ أعادت بغداد فرض سيطرتها على الأراضي المتنازع عليها في تشرين الأول (أكتوبر) 2017، لم يعد بإمكان إربيل أن تقدّم أي تبرير ذي مغزى للفساد والمحسوبيات. لقد تبدّد الإنطباع بأن الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني معصومان عن الخطأ، وتراجع الاستعداد الكردي لتحمّل المشقّات الاقتصادية.
من غير المرجّح أن يحدث تبدّلٌ في هذه المشاعر الشعبية في وقت قريب. فمع إنخفاض الدفعات المخصصة لإقليم كردستان في موازنة حكومة بغداد، وخسارة الصادرات النفطية من كركوك، لا يستطيع الحزب الديموقراطي الكردستاني ولا الإتحاد الوطني الكردستاني الإبقاء على شبكات المحسوبيات التي كانت تعتمد على الوظائف والمنافع في القطاع العام. في الوقت نفسه، ليست لدى الحكومة الاتحادية أي نيّة لتخفيف قبضتها على الأراضي المُتنازَع عليها، أو منح حكومة إقليم كردستان أي فرصة لتجديد إندفاعتها نحو الإستقلال. نتيجةً لذلك، ربما نبذ الأكراد، بصورة نهائية ولا عودة عنها، الإحتكار الثنائي السياسي: فعلى الرغم من أن آل البارزاني وآل طالباني سيحتفظان على الدوام بالدعم من دوائرهما المقرّبة، إلا أن نسبة كبيرة من باقي السكان لن ترى فائدة تُذكَر من الإبقاء على الوضع القائم.
أوضاع المرحلة الإنتقالية المُقبلة وما يمكن أن تحمله من خضّات مزعزِعة للإستقرار تتوقّف على ما إذا كانت النخبة الكردية الراهنة تُدرك عمق التململ الشعبي، وما إذا كان بمقدور الأفرقاء الإقليميين والدوليين الآخرين إقناع المعنيين – أو السماح لهم – بالتخلي عن الإحتكار الثنائي المُطلَق لمصلحة تيارات سياسية جديدة وناشئة. تبرز أحزاب وأفرقاء جدد في السليمانية، وتتوسّع نحو إربيل وكركوك والأراضي المتنازع عليها. لقد انشقّت حركة التغيير الكردية (كوران) عن الاتحاد الوطني الكردستاني في العام 2009، وغادر زعيم الاتحاد، برهم صالح، الحزب في آب (أغسطس) 2017 لتشكيل التحالف من أجل الديموقراطية والعدالة. في غضون ذلك، أسّس شاسوار عبد الواحد، وهو رجل أعمال وقطب إعلامي كردي، حركة الجيل الجديد في تشرين الأول (أكتوبر) 2017.
سوف يشكّل أداء هذه الأحزاب في الإنتخابات العراقية في 12 أيار (مايو) محك إختبارٍ للدعم الشعبي لها ولإستعداد النُخب السياسية القائمة للتشارُك في السلطة. غالب الظن أن خسارة الأراضي المُتنازع عليها ستكلّف جميع الأحزاب الكردية خسارة مقاعد في البرلمان، ما قد يترتّب عنه إنحسار القوة التصويتية لحكومة إقليم كردستان. الأهم من ذلك، يعني تراجع شعبية الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حيث أنهما يتّجهان لخسارة مزيد من المقاعد لمصلحة حركة التغيير، والتحالف من أجل الديموقراطية والعدالة، وحركة الجيل الجديد. وفي ما يتعلق تحديداً بالاتحاد الوطني الكردستاني، من شأن الخسائر المستمرة التي يتكبّدها منذ العام 2009 في معقلَيه التقليديين، السليمانية وكركوك، أن تُحوِّله إلى مجرد حزب بين أحزاب كثيرة في كردستان، بدلاً من أن يكون لاعباً مسيطراً. في مثل هذه الظروف، سيجد الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني صعوبة أكبر في السيطرة على التمثيل الكردي في بغداد.
إنها إذاً إنتخابات وجودية بالنسبة إلى الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديموقراطي الكردستاني. لقد شابت عمليات الاقتراع السابقة مزاعم عن غش إنتخابي فاضح، وظهرت منذ الآن تقارير عن ممارسة الترهيب وإتهامات بالتخطيط لتزوير الأصوات على مشارف إنتخابات 12 أيار (مايو). ومن المخاوف التي غالباً ما يؤتى على ذكرها الخشية من أن يُقدم الحزب الديموقراطي الكردستاني على إستخدام تكتيكات الترهيب لإرغام النازحين داخلياً، لا سيما الأيزيديين والعرب السنّة، على التصويت له. لكن على ضوء التبدّل الواضح في المزاج الشعبي، حتى الغش الانتخابي المستوطِن لن يكون كافياً على الأرجح لحماية المكانة المطلقة للحزب الديموقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني.
يشدّد الحزبان، في حملاتهما الإنتخابية، على الحاجة إلى حضور كردي قوي وموحَّد في البرلمان العراقي والحكومة الجديدة بغية ضمان المصالح الكردية وإستعادة حقوق الأكراد. بيد أن السياسة الكردية هي الآن أشد إنقساماً مما كانت عليه في المراحل السابقة منذ منتصف تسعينات القرن الفائت، وقد لا تلقى رسالة الوحدة الكردية بقيادة الأحزاب التقليدية التي خسرت أخيراً هذه الحقوق، أصداء قوية لدى الرأي العام الكردي. فمن الممكن أن يردّ بعض الأكراد عبر الإمتناع ببساطة عن التصويت. وقد يُبدي الأفرقاء المحتجّون إستياءهم من الجهود التي يبذلها الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني لفرض هيمنتهما من جديد، ويُقيمون شراكة مع أفرقاء عراقيين آخرين للحفاظ على مصالحهم الكردية إستناداً إلى منطق جديد قوامه الإصلاح والشراكة. تخوض حركة التغيير والتحالف من أجل الديموقراطية والعدالة الإنتخابات معاً إلى جانب الجماعة الإسلامية الكردستانية في الأراضي المتنازع عليها، وفي 23 نيسان/أبريل الجاري، وقّعت الأحزاب الثلاثة إتفاقاً لتشكيل إئتلاف بعد الإنتخابات.
من شأن ذلك أن يشكّل تحوّلاً أساسياً بعيداً من العلاقة القائمة راهناً بين بغداد والأكراد، والتي إنطبعت بالحِدّة وذهنية الغالب والمغلوب. تبقى القيادة الكردية من أقوى المدافعين عن المنظومة الإثنية – المذهبية التي أبصرت النور في العام 2003، وسياسة التوافق التي رافقتها. لقد إستخدم القادة الأكراد إطار العمل هذا لحماية الحكم الذاتي لحكومة إقليم كردستان وتطويره، لكن الثمن كان عزل الإقليم داخل العراق. وقد كان الإستفتاء مظهراً واضحاً من مظاهر ذهنية الغالب والمغلوب وإخفاقاتها، ويبقى أن نرى إذا كانوا قد تعلّموا من هذه الأخطاء الاستراتيجية، وإذا كانوا سيلتزمون فعلاً بعلاقة بنّاءة مع بغداد. وليس التحالف من أجل الديومقراطية والعدالة، وحركة التغيير، وحركة الجيل الجديد، أقل تصميماً على حماية مصالح ناخبيها الأكراد. بيد أن النهج الذي تعتمده هذه الأحزاب حتى تاريخه يُظهر أنها تسعى إلى تحقيق هذه الأهداف من طريق التعاون مع بغداد، وإرساء الحوكمة الجيدة في إقليم كردستان. غالباً ما ردّد برهم صالح أن المسار نحو السلام والازدهار في كردستان يمرّ عبر بغداد، وحافظت حركة التغيير أيضاً على موقف إيجابي من بغداد. كذلك تمتلك حركة الجيل الجديد بزعامة عبد الواحد قاعدةً داعمة في مختلف أنحاء العراق، حتى إنها خاضت حملة خارج إقليم كردستان، وتحديداً داخل الأراضي العراقية. الإحتمال أكبر بأن تمارس هذه المقاربة القائمة على التعاون، وقعاً أقوى لدى بعض الأفرقاء العرب العراقيين الذين يسعون إلى حماية مصالحهم.
ما زال على بغداد أن تتجاوب مع هذه المقاربة التعاونية، ويبقى أن نرى إذا كان الأفرقاء العراقيون سيبادرون أم لا إلى معاملة الأكراد كمواطنين من الدرجة الأولى، ويضمنون حقوقهم الدستورية. على الرغم من رد الفعل العدواني على الاستفتاء، عمد رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى تليين موقفه بعض الشيء تجاه الأكراد، فصرف الرواتب، وزار السليمانية وإربيل ودهوك في 25 نيسان (أبريل). وقد فتح إئتلاف النصر بزعامة العبادي، وتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم – تيار منشق عن المجلس الأعلى الإسلامي العراقي – مكاتب في المدن الكردية، وتضم قوائمهما مرشحين أكراداً.
وفي هذا الإطار، يُعتبَر ردّ فعل النخب السياسية الكردية في المدى الطويل مهمّاً بقدر عدد المقاعد التي ستفوز بها الأحزاب الكردية في البرلمان العراقي، وطبيعة تحالفاتها. تقف النخب السياسية الكردية، التي لحقت أضرارٌ فادحة بشرعيتها وصدقيتها، أمام خيار واضح. يُمكنها أن تقرّ بالحاجة إلى التغيير الجوهري، وبمطالب المتظاهرين عبر تعزيز المساءلة، وتشكيل حكومة ذات صفة تمثيلية أكبر، وتطبيق إصلاح إداري ومالي. عبر القيام بذلك، من شأن الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني أن يفقدا بعضاً من نفوذهما وإمتيازاتهما، إنما سيكسبان إستقراراً لكردستان في المدى الطويل. وفي هذا الصدد، يبدو الاحتكار الثنائي غير قابل للاستدامة. أما البديل، أي السعي إلى الإبقاء على الوضع القائم، فغالب الظن أنه لن يكون ممكناً من دون اللجوء إلى مزيد من القمع والعنف. قد تؤدّي هذه الاستراتيجية إلى إطالة أمد الاحتكار الثنائي في المدى القصير، إنما يمكن أن تكلّف حكومة إقليم كردستان والعراق ثمناً أكبر بكثير في المدى الأبعد.
• كريستين مكافراي فان دن تورن مديرة معهد الدراسات الإقليمية والدولية (IRIS) في الجامعة الأميركية في العراق، السليمانية. لمتابعتها عبر تويتر vandentoorn@
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.