روسيا تُمدّد نفوذها من سوريا إلى لبنان ب”القوة الناعمة”!
بعدما رسّخت أقدامها ونفوذها في سوريا، تسعى روسيا إلى توسيع نفوذها إلى لبنان من طريق “القوة الناعمة”، وبعض التطورات الأخيرة خير دليل على ذلك.
بقلم مُهَنَّد الحاج علي*
كان من المتوقّع أن تُصادق الحكومة اللبنانية على إتفاقية التعاون العسكري بين لبنان وروسيا في آذار (مارس)، إلّا أن الضغوط الديبلوماسية الغربية، ولاسيما الأميركية، أرغمت في اللحظة الأخيرة رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وهو حليف لواشنطن والإتحاد الأوروبي، على إرجاء الصفقة. لكن هذه الحادثة برمّتها أماطت اللثام عن النفوذ الروسي المُتنامي في لبنان.
فقد عكست إتفاقية التعاون العسكري المقتَرَحة هذه المدى الذي وصلت إليه الطموحات الروسية. ومع أن لبنان تلقّى سابقاً مساعدات عسكرية روسية، إلا أن الإتفاقية المعروضة الراهنة كان من شأنها توطيد العلاقات العسكرية بشكلٍ كبير عبر منح القوات الروسية حقّ إستخدام قواعد عسكرية لبنانية، وإن لفترة مؤقّتة. في المقابل، تتعهّد روسيا بتوفير أسلحة للبنان بقيمة مليار دولار أميركي تُسدّد قيمتها على مدى 15 عاماً ومن دون فوائد. كان المُراد من هذه الشروط المؤاتية إفساح المجال أمام توسيع النفوذ الروسي في لبنان. وكان رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف وقّع على الإتفاقية، وأصدر توجيهات إلى وزارة الدفاع الروسية لإقناع الجانب اللبناني بأن يحذو حذوه.
ثمة أسباب عديدة لتنامي النفوذ الروسي في لبنان، أبرزها شعور النخبة السياسية اللبنانية على نحو مطّرد بضرورة التكيّف مع بروز موسكو كقوة كُبرى وكوسيطٍ في المنطقة، خصوصاً في ضوء فكّ الولايات المتحدة إرتباطها بالشرق الأوسط. ولا يقتصر ذلك على “حزب الله” وحلفائه، الذين تدفعهم معاداة أميركا إلى دعم مثل هذه العلاقة، بل يشمل أيضاً شخصيات مثل الحريري الذي يرى أن إقامة علاقات مع روسيا قد يفتح فرصاً إقتصادية.
ما المجالات التي يعتقد اللبنانيون أنه سيكون لروسيا دورٌ فيها في لبنان؟ يُمكن القول إن النجاح النسبي الذي حصدته روسيا في سوريا رسّخ إعتقادَ اللبنانيين بأن الشركات الروسية هي من بين المؤسسات القليلة التي ستجرؤ على الإستثمار في حقول الغاز الواقعة على طول الحدود البحرية المُتنازَع عليها مع إسرائيل. وبالفعل، فإن إئتلافاً يضم ثلاث شركات فرنسية وإيطالية وروسية فاز بعقود التنقيب عن الغاز في “بلوكَيْن” إثنين، أحدهما مُتنازَع عليه بين اللبنانيين والإسرائيليين.
في غضون ذلك، يرى رجال الأعمال والسياسيون اللبنانيون المناوئون للرئيس السوري بشار الأسد أن روسيا قد تساعدهم في الحصول على حصة من “كعكة” صفقات إعادة إعمار سوريا. كذلك، ينظر بعض القادة المسيحيين إلى روسيا كحامية لهم، حتى إن بعض وسائل الإعلام اللبنانية أشارت في تقاريرها إلى أن الإتفاقية الدفاعية مع روسيا قد تكون مدفوعة، جزئياً على الأقل، بواقع أن وزير الدفاع اللبناني يعقوب الصراف ينتمي إلى الطائفة الأرثوذكسية التي لطالما نعِمَت بحماية روسيا.
خلال الأعوام القليلة الأخيرة، سجّلت زيارات المسؤولين اللبنانيين إلى روسيا رقماً قياسياً. فالحريري كان يزور موسكو مرة كل سنة منذ العام 2015، فيما الصراف زارها مرّتين خلال الأشهر الثمانية الأخيرة؛ كذلك، طرق أبوابها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017 وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، زعيم “التيار الوطني الحر”، أكبر حزب مسيحي في لبنان.
لكن أكثر الزيارات دلالة، ربما، هي تلك التي قام بها العام الماضي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي كان سابقاً حليفاً مُقرّباً من الإتحاد السوفياتي، مصطحباً معه نجله تيمور ليعرّفه إلى المسؤولين الروس، نظراً إلى أن هذا الأخير يتأهّب الآن لتسلّم زمام قيادة الطائفة الدرزية في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي ستُجرى في 6 أيار (مايو) المقبل.عاد تيمور في وقت لاحق بمفرده إلى روسيا، وإلتقى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف، المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط والذي يتحدث اللغة العربية بطلاقة. وقد نقلت الصحيفة التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي عن جنبلاط إشادته بـ”الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في عالم اليوم وما تشكّله من عنصر مهم للتوازن والإستقرار، وهو أمرٌ نراهن عليه لأجل مساعدة لبنان وتخفيف بعض الأعباء عنه”.
وبهدف تدعيم العلاقات مع روسيا، أقامت الكتل السياسية الرئيسة في لبنان روابط في موسكو، غالباً عبر لبنانيين مقيمين في العاصمة الروسية أو رجال أعمال لهم علاقات واسعة. فمثلاً، رجل الحريري في موسكو هو مستشار الشؤون الروسية جورج شعبان، الذي كان حاضراً في جميع اللقاءات التي جمعت الحريري بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما رجل الرئيس اللبناني ميشال عون في موسكو فيُزعَم أنه الشخصية الأكثر تأثيراً في العلاقات اللبنانية– الروسية، وهو أمل أبو زيد، المليونير الذي درس في لندن ويشغل حالياً منصب نائب منطقة جزين في البرلمان اللبناني عن كتلة التغيير والإصلاح العونية. وفي مقابلة أجرتها معه إحدى الصحف، ناقش أبو زيد، الذي يزور روسيا بشكل متكرر، دوره الفعّال في إعادة إحياء علاقة بيروت مع موسكو بعد سقوط الإتحاد السوفياتي. وفي العام 2015، كرّمه معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية بمنحه الدكتوراة الفخرية تقديراً لجهوده في تطوير العلاقات اللبنانية – الروسية.
وخلال العقد الفائت، أقدمت روسيا بدورها على إحياء العلاقات التي كانت قائمة بين اللبنانيين والإتحاد السوفياتي السابق. وهذا يشمل في الغالب خريجي الجامعات في الاتحاد السوفياتي وبعدها روسيا، الذين يُقدّر عددهم بنحو 14 ألف شخص. لكن عقب إغتيال رئيس الحكومة اللبناني السابق رفيق الحريري في العام 2005، والإستقطاب الذي تلاه في البلاد، إنقسمت رابطة الخريجين الوحيدة القائمة في ذلك الوقت إلى مجموعتين متنافستين. وفي وقت لاحق، تأسست رابطة ثالثة تمثّل خريجي جامعة باتريس لومومبا، المعروفة اليوم بالجامعة الروسية للصداقة بين الشعوب.
أثبتت رابطات الخرّيجين هذه، على رغم إنقسامها، قدرتها على المساهمة في التوسّع الثقافي، أو القوة الناعمة الروسية. فقد إفتتح المركز الثقافي الروسي، الذي كان يقتصر في السابق على مبنى محصّن في بيروت الغربية، فروعاً له في المدن الرئيسة في جميع أنحاء البلاد، مُستفيداً من وجود قاعدة كبيرة من الخرّيجين الناطقين بالروسية في لبنان. وتستضيف هذه المراكز فعاليات سياسية، فضلاً عن توفير دورات لتعليم اللغة الروسية وبرامج ثقافية وتعليمية، وإستُخدم أحدها أيضاً كمركز إقتراع للمواطنين الروس. وقد ظهر ذلك بشكل واضح وجلي خلال الإنتخابات الرئاسية الروسية الأخيرة حين إنتشرت صور بوتين على لوحات إعلانية في مناطق مختلفة من البلاد.
إضافةً إلى هذه الشبكة الثقافية، ثمة مؤسسات أخرى مثل جمعية الصداقة اللبنانية الروسية ومجلس الأعمال اللبناني- الروسي، اللذين يرأسهما رجل الأعمال البارز والقنصل الفخري لروسيا في لبنان جاك صرّاف، الذي اضطلع، مثل أبو زيد، بدور أساسي في ترسيخ العلاقات مع روسيا. وفي موازاة التأثير المتنامي لهذه الشبكة، إزداد عدد موظفي السفارة الروسية في بيروت خلال العقد الماضي ليشمل قسماً عسكرياً كبيراً نسبياً.
تاريخياً، تلقّى الجيش اللبناني تدريبات وحصل على معدّات من الولايات المتحدة. نتيجةً لذلك، واجهت العلاقات اللبنانية مع موسكو صعوبات، بخاصةٍ بعد أن أحبطت المخابرات اللبنانية مؤامرة جهاز الإستخبارات السوفياتي (KGB) للحصول بطريقة غير قانونية على طائرة مقاتلة فرنسية في العام 1969. لكن ذلك تغيّر بعد تقديم روسيا عرضاً بمنح لبنان عشر مقاتلات من طراز “ميغ 29” في العام 2008. مع ذلك، قيل أن وزير الدفاع آنذاك الياس المرّ تردّد في إبرام الصفقة، خوفًا من إجراءات إنتقامية أميركية.
ربما تمّ تأجيل إتفاقية التعاون العسكري الأخيرة مع روسيا، لكنها لا تزال مطروحة. ففي حال صبّت نتائج الانتخابات النيابية المقبلة في مصلحة أصدقاء موسكو في بيروت، فقد تكون الإتفاقية مدرجةً على جدول أعمال الحكومة الجديدة في وقت أقرب مما هو متوقّع.
• مهنّد الحاج علي مدير الاتصالات والإعلام في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.