هل يُمكن بناء إستراتيجية أميركية مُتَمَاسكة في منطقة الشرق الأوسط غير المُتَّسِقَة إستراتيجياً؟

بعد الهجوم الصاروخي على سوريا الذي أطلقته الولايات المتحدة مع بريطانيا وفرنسا فجر يوم 14 نيسان (إبريل) الجاري رداً على إستخدام الأسلحة الكيميائية في دوما بريف دمشق، هل سيكون لإدارة دونالد ترامب إستراتيجية جديدة لمنطقة الشرق الأوسط؟

باراك أوباما: إستراتيجيته للشرق الأوسط المضطرب قد يكررها ترامب.

واشنطن – محمد زين الدين

الضربات العقابية التي وعد بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأطلقها، إلى جانب بريطانيا وفرنسا، رداً على هجوم كيميائي على منطقة دوما في ريف دمشق التي كان يسيطر عليها المتمردون، يبدو أنها لن تفعل شيئاً يُذكر لإرضاء أولئك المطالبين بتورط أميركي أكثر قوة لأسباب إنسانية، كما من المرجح أن لا تمنع أي إعتداءات مستقبلية، إذا أخذنا ضربة الصواريخ التي أطلقها ترامب في العام الماضي بعد الإستخدام السابق للأسلحة الكيميائية في خان شبخون، كإشارة أو دليل.
والأهم من ذلك أنها ستترك التحديات الجيوسياسية، التي أفسدت النهج الأميركي في الحرب الأهلية السورية منذ أن بدأت في العام 2011، من دون حلّ. ومع تطور هذا الصراع، توسعت تلك التحديات لتشمل النهج الأميركي في المنطقة.
السؤال الذي يواجه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط اليوم هو: كيف يُمكن لواشنطن صياغة إستراتيجية متماسكة لمنطقة مُفَكَّكة وغير مُنسَجِمة إستراتيجياً؟
وكما كان واضحاً منذ بعض الوقت، فإن الحرب الأهلية السورية هي في الواقع صراعات عدة في آن واحد: بعضها واضحٌ وبعضها محجوبٌ وبعضها الآخر يختبئ على مرأى من الجميع. فهناك الحملة التي تقودها أميركا لدعم الميليشيات الكردية السورية بالأساس للقضاء على ما يسمى ب”الدولة الإسلامية” (داعش)؛ وهجوم النظام السوري المدعوم من روسيا وإيران و”حزب الله” ضد مجموعات متمردة أخرى مختلفة؛ وهجوم تركيا لمنع شركاء أميركا الأكراد السوريين من إقامة سيطرة على طول حدودها؛ وحرب الظل التي تضع إسرائيل ضد إيران و”حزب الله” التي تظهر بشكل متقطع في دائرة الضوء.
إن توترات الترتيب الثاني المدفوعة بالقتال الجاري ليست أقل تعقيداً، وتتقاطع مع مختلف خطوط التحالف والشراكة. لدى روسيا وإيران وتركيا تباينٌ، ولو أن هناك أهدافاً تتوافق عليها في سوريا، من المرجح أن يؤدي إلى خلق توترات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد عندما يتراجع التهديد الوجودي للحرب الأهلية. كما أن الولايات المتحدة تتعارض أهدافها مع تركيا حليفتها في حلف شمال الأطلسي في سوريا، بينما تُعارض إيران في سوريا ولكنها تتشارك ضمنياً مع طهران في العراق.
إن الأمور لا تصبح أسهل عندما تخرج إلى دائرة مركزية أخرى. إن المملكة العربية السعودية وحلفاءها من دول الخليج، المدعومة ضمنياً من إسرائيل وعلنياً من الولايات المتحدة، تشارك في مواجهة إقليمية مع إيران تفاقمت بسبب التوترات الطائفية السنية – الشيعية. لكنها تشارك أيضاً في صراع داخل الخليج مع قطر السنّية.
في مواجهة مثل هذه الفوضى الإستراتيجية والإرتباك، فإن تبسيط الأمر قد يساعد أكثر. ما الذي ترغب الولايات المتحدة في تحقيقه؟ وما هي الوسائل التي ترغب في إستخدامها للقيام بذلك؟
مع هدف الإطاحة بالأسد لم يعد مُمكناً بشكل واقعي، فإن دعاة تورط أميركي أكثر قوة في سوريا يركزون الآن عادة على هدفين رئيسيين آخرين: تطبيق القاعدة الإنسانية ضد إستخدام الأسلحة الكيميائية، وعلى نطاق أوسع إنهاء معاناة الشعب السوري؛ وإحتواء نفوذ إيران وروسيا في المنطقة. الأول هو هدف جدير بمزاياه الخاصة، والأخير هو هدف يمكن الدفاع عنه من منظور جيوسياسي.
ولكن هل ترغب الولايات المتحدة في تكريس الوسائل اللازمة لتحقيق أيٍّ من الهدفين؟ يرى معظم المراقبين أن الضربة العقابية الأخيرة التي وجهتها واشنطن وحليفتاها ضد النظام السوري من شأنها أن تبعث برسالة قوية حول إستخدام الأسلحة الكيميائية، لكنها كانت رمزيةً ومن المرجح أن لا تُغيِّر الحسابات التكتيكية أو الاستراتيجية في دمشق أو موسكو أو طهران. لكن كان من شأن تدخل عسكري أميركي أكثر إستدامة يستهدف نظام الأسد أن ينطوي على قدر أكبر من الموارد وقد يتضمن مواجهة مباشرة مع القوات الروسية والإيرانية، مع خطر التصعيد الحقيقي. وسيكون من الصعب بيع ذلك إلى الناخبين في الولايات المتحدة. كما أنه يعارض بشكل تام وجهات نظر الرئيس ترامب، الذي كان في الأسبوع الفائت يضغط على فريق الأمن القومي لوضع إستراتيجية خروج من سوريا.
وفي حين ردّ العديد من النقاد على إقتراح ترامب بقولهم أن الانسحاب الأميركي سيمثل هدية لروسيا وإيران، فهذا أمر قابل للنقاش. لقد وسّعت كلٌّ من موسكو وطهران من إنتشارهما وتأثيرهما في المنطقة كنتيجة للحرب الأهلية السورية، لكن مكاسبهما لا تزال هشة. ليس فقط أنهما لم تُثبتا القدرة على تحقيق إنتصار عسكري مُستدام في سوريا، بل ستجدان مهمة إعادة بناء البلاد إذا إنتهى القتال (في أحد الأيام؟) صعبة للغاية. كما أنه من المرجح أن يقود الغرب إلى إطلاق صفقة ديبلوماسية صعبة مقابل إعادة تمويل إعادة الإعمار، بما في ذلك المطالبة بتنحي الأسد في نهاية المطاف. وإن توقع حجم النفوذ الروسي والإيراني في سوريا في المستقبل يفترض وجود عميل طيِّع، سهل الإنصياع، في دمشق، وهو إفتراض يناقض سجل النظام السوري على مدى ما يقرب من 50 عاماً، الذي سار عليه حافظ الأسد للتعامل مع القوى الخارجية والرعاة.
فبدلاً من تغيير النظام بآخَرٍ مدعومٍ من الولايات المتحدة أو التقسيم المدعوم من روسيا وإعادة الإعمار، من المرجح أن تظل سوريا دولة هشة ـ وبقعة ساخنة للتوترات والصراعات ـ في المستقبل المنظور.
من نواحٍ عديدة، إذاً، تظل الحجج لتجنّب تورط أعمق في سوريا مُقنِعة، حتى لو أن عواقب ذلك تبقى غير مُرضِية، من منظور إنساني ولكن أيضاً من منظور الأمن الإقليمي.
وهنا أيضاً، مع ذلك، فإن الإنفصال نفسه بين الغايات المرغوبة والوسائل المُتَاحة يخلق تحديات هائلة لإستراتيجية متماسكة، تتفاقم بسبب الأهداف المُتعارضة والتوترات الداخلية بين حلفاء وشركاء أميركا الإقليميين. ويبدو أن إدارة ترامب إحتضنت أهدافاً متطرفة لمواجهة إيران وتخفيض نفوذ طهران الإقليمي. إن ترشيح مايك بومبيو كوزير للخارجية وتعيين جون بولتون كمستشار للأمن القومي يشيران إلى صعود صقور إيران داخل الإدارة، حتى فيما ربط ترامب سياسة واشنطن بنفث النار مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
وهذا يُثير الإحتمال الحقيقي للمواجهة العسكرية مع طهران، بخاصة إذا ألغى ترامب الإتفاق النووي الإيراني، وهو أمرٌ يبدو الآن أكثر إحتمالاً. لكن نفور الرئيس – والرأي العام الأمبركي – من التدخل العسكري الأميركي في الشرق الأوسط يُثير تساؤلات جدية حول ما إذا كان ترامب سيدعم سياسته المُعلَنة، و”التويترية” بالوسائل اللازمة لتنفيذها.
والنتيجة هي الأسوأ بين جميع التركيبات: إدارة تتحدّث بصوتٍ عالٍ وتحمل عصا صغيرة.
كيف تبدو الإستراتيجية الأكثر فاعلية؟ بالنظر إلى تعقيدات المنطقة اليوم، من الصعب إيجاد واحدة أكيدة. من المحتمل أن تبدأ بمواصلة الحملة العسكرية للقضاء على “الدولة الإسلامية” والشروع في دفع الجهود الديبلوماسية نحو تسوية سياسية تفاوضية في مرحلة ما بعد الصراع في سوريا. إن أي قرار تتوسط فيه الولايات المتحدة لحل النزاع بين دول الخليج من شأنه أن يعزز الجهود الرامية إلى ردع النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان. وهذا، بالإضافة إلى ضمانات أمنية قوية للسعوديين وإسرائيل حول التهديد الإيراني المتصوَّر، يُمكن أن يساعد على تراجع جميع الأطراف من حافة إندلاع حريق أوسع. وعلى الرغم من أنه لا ينبغي أن تكون هناك أوهام أو توقعات خاطئة، فإن السعي إلى الحدّ من التوتر وبناء الثقة مع طهران لن يؤدي إلّا إلى زيادة الأرباح في إدارة التوترات الحتمية التي ستظهر.
إذا أُخِذَت كل هذه الأشياء معاً، فقد تسمح للولايات المتحدة بخفض بصمتها العسكرية وتعرضها في المنطقة، من دون التخلي عن حلفائها وشركائها – أو دورها القيادي. ومن شأن ذلك أن يشبه إلى حد كبير الإستراتيجية التي رسمتها إدارة أوباما، والتي قد تكون، رغم كل عيوبها وعواقبها غير المُرضية، أفضل مقاربة لمنطقة في حالة إضطراب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى