إلى أي حدّ ستتنازل السلطات الدينية الوهابية السعودية لطموحات محمد بن سلمان؟
يقول المتابعون لشؤون الخليج بأن رجال الدين الوهابيين في السعودية سوف يتكيّفون (ولو قليلاً) مع رغبة الأمير محمد بن سلمان لتحديث مملكته ولن يتحدوه، كما فعلوا في الماضي، ولكن السؤال إلى أي حدّ وإلى أي مدى؟
بقلم نبيل مولين*
هل يُبشّر الصعود السريع للأمير محمد بن سلمان بعهدٍ جديد في المملكة العربية السعودية؟ يُظهر العديد من التصريحات والبيانات غير المتوَقَّعة، وبخاصة منذ تعيينه وريثاً للعرش في تموز (يونيو) الماضي، عن طموحه لتحويل المجتمع السعودي وإحتكار السلطة. يبدو أنه يريد السيطرة على السياسة والإقتصاد والديبلوماسية، لكن لتحقيق حلمه الكبير يجب عليه أيضاً السيطرة على أهم مصدر (رمزي) للسلطة في المملكة: الدين.
إن دعوته إلى الإسلام المُعتدل، وإعطاء المرأة الحق في قيادة السيارة، وتنظيم الحفلات الموسيقية، وإعادة فتح دور السينما، إعتُبرت كلها بُشرى لمشروع لم يسبق له مثيل، وحتى ثوري: إلغاء الطريقة الوهابية الصارمة كما نعرفها في المجتمع والحكومة. ولكن من المهم أن ننظر إلى أبعد من الضجيج الإعلامي ونُحقّق في العوامل التاريخية والإجتماعية التي قد تُعرّض خطط ولي العهد الشاب المُعلَنة للخطر.
كانت هناك محاولات للتقليل (من أهمية) أو تهميش الحركة الوهابية عبر تاريخ المملكة المضطرب. لقد تأسست الثيوقراطية السعودية، التي أنشئت في القرن الثامن عشر في وسط شبه الجزيرة العربية، على تفسير حرفي للقرآن، وعقيدة صارمة تهدف إلى إضفاء الشرعية على هيمنة طموحاتها.
إن الوهابية تجسّد مدرسة الفقه الحنبلي في الإسلام السني: مؤسسها محمد بن عبد الوهاب (1703-1792) رأى أن الطريق الوحيد للنجاح، في هذه الدنيا والعالم الآخر، يكمن في التقيّد الصارم بالمعتقدات والممارسات الحنبلية. أولئك الذين رفضوا القيام بذلك، ولا سيما أتباع الحركات التقية الصوفية، تم إستبعادهم من المجتمع. في عيون إبن عبد الوهاب، كان الجهاد، بمعنى القتال للدفاع عن الإسلام أو نشره، أهم طريقة لإعادة أولئك الذين ضلّوا إلى الطريق الصحيح. وقد سمح ذلك للإمارة السعودية إضفاء الشرعية على سياسة التوسع في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، والتي بلغت ذروتها في سيطرتها على معظم الجزيرة العربية.
بعد توطيد مجتمعه ونشر عقيدته في شبه الجزيرة العربية، خفف إبن عبد الوهاب من حدة مواقفه، وخصوصاً بالنسبة إلى إستبعاد أعدائه من المجتمع وتكفيرهم، لكي يتقبّلها مسلمون آخرون.
الآن قوة إسلامية
ذهب ورثته، الذين بنوا بسرعة مؤسسة دينية تسيطر على النظام القائم، إلى المزيد بخفض وتخفيف التصلّب في بعض جوانب عقيدتهم، وبخاصة إدانتها للصوفية ووصم مدارس أخرى في الإسلام. لقد واجهوا وضعاً لم يسبق له مثيل: لم تعد الإمارة السعودية كياناً هامشياً، بل أصبحت قوة إسلامية، بفضل غزو مكة والمدينة المنورة في أوائل القرن التاسع عشر. ولم تعد الوهابية ظاهرة طرفية، بل واقع الأمة، أو المجتمع الإسلامي.
وقد فشلت هذه المحاولة الأولى بسبب النضال ضد الإمبراطورية العثمانية، والتي تبعها تصلّب عقائدي. ومن أجل مكافحة منافسيهم المسلمين والحفاظ على وحدة وتجانس الإمارة السعودية المُدافِعة، طوّر العلماء الوهابيون أفكاراً مُتحَفِّظة ومحافظة جداً وحصرية خلال القرن التاسع عشر. وعبد العزيز بن سعود، الذي ساعدته ظروف مواتية على جعل العربية السعودية مملكةً حكمها حتى وفاته في العام 1953، إستوحى من هذه الأفكار.
إن التحالف الثابت بين العاهل السعودي عبد العزيز بن سعود والعلماء الوهابيين لم يَعمِ الملك عن رؤية طبيعة التقليد الذي كان يدافع عنه، وعدم توافقه مع وضعه الجديد كحامٍ للأماكن الإسلامية المقدسة، ورئيس إحدى الدول الإسلامية المستقلة القليلة في ذلك الوقت، وحاكم الأرض التي كانت متجانسة عرقيا ودينياً. ولتجنّب أي أزمة، إعتمد نهجاً مزدوجاً: جعل الوهابية أكثر قبولاً وأقل صرامة في حركة سياسية دينية أوسع وأكثر إعتدالاً وأكثر حداثة، وإعتماد إصلاحات إسلامية.
وبعيداً من إضعاف رجال الدين السعوديين، أثبتت هذه المحاولة في إعادة التشكيل قدرتها على التكيّف. وتمكنوا من الاحتفاظ بمكانة مركزية في المجتمع مع بعض التنازلات في مجال التعليم والإدارة، وبعض التحديثات الفقهية حول الجهاد والعلاقات مع غير المسلمين. ولم يكن هذا أكثر من إنعكاس لأخلاقيات المسؤولية لأحد مؤسسي علم الإجتماع الحديث ودراسة الإدارة العامة في مؤسسات الدولة الإلماني ماكس فيبر، القدرة على التفكير والتصرف وفقاً للظروف وعلاقات القوة، للحفاظ على العناصر الرئيسية لما يعتبرها المرء الحقيقة. وقد مكنت هذه المرونة الوهابية من التغلب على الأزمات وتعزيز هيمنتها المحلية وتعزيز طموحاتها العالمية من عهد فيصل (1964-1975) وصاعداً.
في خمسينات وستينات القرن الفائت واجهت المملكة العربية السعودية العديد من التحديات الداخلية والخارجية، وبخاصة طموحات مصر في عهد جمال عبد الناصر. ومن أجل البقاء والصمود، عمد النظام الملكي إلى تحديث الدولة؛ ولكن هذا الأمر تعارض مع مصالح رجال الدين الوهابيين. فالتعليم للجميع (وبخاصة الفتيات)، والتدفق الهائل للعمالة الأجنبية، والترفيه الجماهيري (التلفزيون والسينما)، وتخفيض الموازنة وصلاحيات الشرطة الدينية، وخلق مساحات ذات قيود أقل، أدّت جميعها إلى حدوث إحتكاك بين الشركاء التاريخيين. (وأدت البرامج التلفزيونية الأولى إلى أعمال شغب تم قمعها بشدة).
الاستفادة من دراية ومعرفة الكافرين
مرة أخرى خفّض رجال الدين الوهابيون من حدة التوترات، وتجنبوا التهميش من خلال إستراتيجية تجمع بين التنازلات والمراوغة والضغط. وإستفادوا من النضال ضد مصر وتدفق الأموال النفطية. وعلى الرغم من أنهم محافظون، فقد إستوعبوا خبرة “الكافرين”، وخصوصاً الدراية التنظيمية، وبناء مؤسسات قادرة على الصمود أمام الحداثة المتفشية. وقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية الكليات والمعاهد والمدارس والهيئات الإدارية والمحاكم ومنظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام. كما قام القادة الوهابيون بإنشاء منظمات إسلامية (رابطة العالم الإسلامي، الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، إلخ) لمواجهة العلمانية وتعزيز الوهابية بإعتبارها الأرثوذكسية الإسلامية الجديدة.
إستغل كبار رجال الدين المعضلة التي تواجه النظام الملكي، المُنقَسِم بين مسارات متعارضة، وإكتسبوا النفوذ الذي إستخدموه كلما سمحت الظروف بذلك. في العام 1979 كانت هناك إضطرابات، مع الثورة الإسلامية في إيران، والمجموعة المتطرفة التي إحتجزت رهائن في المسجد الحرام في مكة، والغزو السوفياتي لأفغانستان. كما أن مشاكل الموازنة بعد عام لم تُحسّن الأمور. وقام رجال الدين الوهابيون، بدعم من كبار الشخصيات في جماعة “الإخوان المسلمين”، الذين كانوا حاضرين في البلاد منذ سنوات، بتعميق تقليدية المملكة.
أصبح المجتمع السعودي أكثر تقييداً بإغلاق دور السينما وإصرارٍ أكبر على الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة؛ وأدّى المزيد من التلاقح المتقاطع للوهابية ومختلف تيارات “الإخوان المسلمين” إلى ظهور الإسلاموية السعودية (حركة الصحوة) والجهادية المموَّلة جزئياً من التبرعات الخاصة من العائلات الغنية.
منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 كانت السعودية في خط النار. إن التغيير الإجتماعي، وإنخفاض أسعار النفط، والضغوط الأميركية، والتهديد الجهادي دفعت كلها السلطات إلى تبنّي سياسة تخفيف الضغط، وكان أحد أركانها تعزيز الإسلام المعتدل و”المنفتح” و”المتسامح”. وقد سمح لبعض الصحافيين والمفكرين بإنتقاد الوهابية علناً، وخُفِّضت سلطات الشرطة الدينية، وبدأ الحوار الديني الداخلي والخارجي، وأُرسِلَت مجموعات من الطلاب للدراسة في الخارج، ونوقشت أوضاع المرأة التي تحسّنت قليلاً، من خلال زيادة فرص الحصول على التعليم العالي، وظهرت أشكال وأماكن ترفيه جديدة، وتم توسيع المساحات ذات القيود الأقل والتسامح مع الباحثين الأجانب.
وسط النشوة، بدأ المراقبون يتحدّثون عن “ربيع الرياض” و “ما بعد الوهابية”، ولكن قد يكونوا أُصيبوا بخيبة أمل: فيما كان الإقتصاد يتحسّن وأصبح الوضع السياسي أكثر وضوحاً، فقد أنهى النظام تدريجاً توجهه الليبرالي.
بعد العام 2011، تسارع هذا الإتجاه. وقد شرعت المملكة العربية السعودية بإطلاق ثورة مضادة وقائية قادتها الوهابية. فقد زادت الموازنات المؤسسية الدينية، وأصمتت المعارضة العلمانية والإسلامية. كما أظهر النظام إحترامه للعقيدة الوهابية علناً، ولا سيما من خلال عقوبة الإعدام والعقوبات البدنية الأخرى، وتشجيع خطاب مناهض للشيعة. وقدّم العلماء تنازلاً صغيراً: السماح للنساء بالتصويت في الإنتخابات البلدية (الإنتخابات الوحيدة في المملكة)، وأن يُعَيَّنَّ أعضاء في بعض الهيئات الحكومية.
تحويل المملكة
منذ العام 2015 حدث تغيّر سياسي كبير. بمساعدة والده، تمكّن الأمير محمد بن سلمان من إبعاد جميع منافسيه، على الأقل مؤقتاً، وتحقيق إحتكار لم يسبق له مثيل للسلطة. ولمعالجة التحديات في الداخل والخارج، وإكتساب الشرعية، كثيراً ما قال أنه يعتزم تحويل المملكة، بما في ذلك المجال الديني.
في العام 2018 سيُسمح للنساء بقيادة السيارات وسيُعاد فتح دور السينما بعد 35 عاماً من المنع، على الرغم من أن كيفية تنفيذ ذلك لم تُعرَف بعد. وفي 24 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، ندد بن سلمان بالأفكار المتطرفة، ووعد بتدميرها، حيث إدّعى أن ذلك سيسمح للبلد بالعودة إلى كونه “بلداً معتدلاً للإسلام منفتحاً على جميع الأديان والتقاليد والشعوب في جميع أنحاء العالم”.
كيف يجب تفسير هذه الكلمات والأفعال، التي يرى البعض أنها كسرٌ مع الوهابية وإفتراقٌ عنها، وهي مهمة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية كالنفط؟ في البداية، تحدث ولي العهد السعودي عن “الإسلام المعتدل”، الذي تدّعي جميع مدارس الإسلام السني تقريباً، وبخاصة الأكثر صرامة، بأنها تمثّله، هادفاً إلى النأي بنفسه عن الجهاديين، ولكن من دون تحديد ماذا يعني الإعتدال. وفي وقت لاحق، كان أكثر وضوحاً، عندما قال أن مصادر التطرف تكمن في أحداث العام 1979 وحركة “الصحوة” (وهي تحمل مزيجاً من الأفكار الوهابية وأفكار “الإخوان المسلمين”). ويريد بن سلمان القضاء على جماعة الإخوان وجميع تداعياتها، بخاصة في ما يتعلق بالجهاد. وهذا الأمر يُسعِد الوهابيين، لأنه سوف يُنظّف صورتهم.
إن سياسة محمد بن سلمان المُتعلّقة بالنساء تدفعها الإنتهازية والقيود الهيكلية. فمن شأن السماح للمرأة بقيادة السيارة، إستمراراً لسياسة الملك عبد الله، أن يفوز ولي العهد الشاب بدعم المرأة وبعض السعوديين، ويغيّر صورة النظام في الغرب بطريقة إيجابية. إن إستبعاد النساء السعوديات من سوق العمل هو هدر: لقد صرن أكثر تعليماً وتأهيلاً، ويمكنهنّ أن يحلّن محل بعض العمال الأجانب، ولا سيما في الخدمات.
إن الوهابيين يتكيّفون. يُمكن للعلماء أن يحافظوا على مصالحهم، الزمنية والروحية، من خلال تحديث طفيف، والموافقة على تنازلات في المجالات التي يرونها ذات أهمية ثانوية، مع وضع شروطهم الخاصة. لقد قال رجالُ دينٍ رئيسيون قبل بضع سنوات أن قيادة النساء للسيارات ليست قضية دينية بل قضية إجتماعية يُمكن أن تتطور. حتى الآن، سيُسمَح للمرأة قيادة السيارة إذا حصلت على إذنٍ من والدها أو الوصي القانوني عليها.
من المستحيل التنبؤ بكيفية تطور العلاقات بين النظام الملكي والمؤسسة الدينية، ولكن في الوقت الحاضر لا يوجد تحدّ لتحالفهما التاريخي – كما يشدّد محمد بن سلمان والعلماء. وللبقاء والصمود في هذا التحوّل السلطوي الحالي، يبدو أن رجال الدين الوهابيين يوافقون، مرة أخرى، على عدد قليل من الإبتكارات – ربما لمنع أي تغيير حقيقي.
• نبيل مولين هو مؤرخ في المركز الوطني للبحوث العلمية في فرنسا، ومؤلف كتاب “الخليفة: التاريخ السياسي للإسلام” (2016)، والسياسات الإسلامية: تيارات ومذاهب وإيديولوجيات (2017).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.