الإستقرارُ المُفخَّخ
بقلم سجعان قزي*
في الدولِ المُحترَمة، تَنشأُ مُشكلةٌ سياسيّةٌ فيلجَأون إلى الدستورِ لحلِّها، ويَنشأُ إشكالٌ دُستوريٌّ فيذهَبون إلى القضاءِ الدستوريِّ لحسمِه، ويَحصُلُ إنقسامٌ وطنيّ فـيَحتكِمون إلى الشعبِ لإنهائه. أما عندَنا، فنربُطُ بالسياسةِ الدستورَ والقضاءَ والشعبَ وكلَّ وسائلِ المراجَعةِ لتعقيدِ الخِلافاتِ ومنعِ حلِّها، أو لقبضِ ثمنِ تسويتِها.
لكنَّ السياسةَ التي تَفقِد القُدرةَ التقليديّةَ على معالجةِ شؤونِ المجتمعاتِ في الدولِ المتقدِّمةِ والناجِزةِ، كيف حالُـها في دولةٍ متراجِعةٍ مثلَ لبنان؟ هنا السياسةُ هي الحلَقةُ الأضعفُ في نظامِنا طالما نحنُ مختلِفون وطنيّاً حولَ ماهيّةِ لبنانَ ودورِه وهويّتِه لا بسببِ إنتماءاتِنا إلى طوائفَ فقط، بل بسببِ إنتماءاتِ طوائفِنا أيضاً.
وَقَفاتُنا الوطنيّةُ مِن الإستقلالِ والميثاقِ الوطنيّ، إلى “إتفاقِ الطائفِ” والإعترافِ بلبنانَ وطناً نهائيّاً، إفتقدَت الترجمةَ في الممارسةِ السياسيّةِ. لا بل أعْطى اللبنانيّون العالمَ أدِلّةً دامِغةً على إنقسامِهم حيالَ الإستحقاقاتِ الكبرى والصُغرى. وِحدةُ المصالحِ فاقَت الوِحدةَ الوطنيّة ما جعلَ الأولويّةَ للإستقرارِ على الإستقلال.
قد تكونُ هذه الأولويّةُ فكرةً واقعيّةً مع إنقسامِ اللبنانيّين، ومع صعوبةِ تحقيقِ الإستقلالِ المُطلَقِ في زمنِ تبادلِ المصالحِ الدوليّةِ والعوْلـمَة، لكنها تتناقضُ مع الشخصيّةِ التاريخيّةِ لفئاتٍ واسعةٍ من الشعبِ اللبناني. مشكلةُ هذه الفئاتِ مع محيطِها الواسعِ أنّها رَفضَت الإحتلالَ مقابلَ الإستقرار، فظلَّ إستقلالُ لبنانَ نسبيّاً حتّى في الزمنِ الجميل. منذُ البَدءِ والصراعُ في لبنانَ بين الإستقلالِ والإستقرارِ، فيما يُفترضُ أنْ يَتعايَشا حالَهَما في دولٍ أخرى. وغالباً ما إختارَ اللبنانيّون فكرةَ الإستقلالِ، فكان الشهداء، وتَصرَّفوا ضِدَّ الاستقرار، فكانت الأزَماتُ وضَياعُ الاستقلال.
الإستقرارُ القائمُ حاليّاً هو إستقرارُ الحدِّ الأدنى، وكان موجوداً في مرحلةِ الشغورِ الرئاسي. أما الإستقرارُ المنشودُ اليومَ، هو لقاءُ السيادةِ بمعنى الشرعيّةِ والأمنِ بمعنى السلام، لتنطلقَ الحياةُ في كلِّ قطاعاتِ المجتمَع. فعدمُ حدوثِ عملٍ سلبيٍّ ليس إستقراراً، إنما حصولُ أعمالٍ إيجابيّـةٍ هو الإستقرار.
عدمُ وقوعِ إعتداءٍ إسرائيليٍّ لا يَكفي لكي يكونَ لدينا إستقرار. الأزماتُ المتتاليةُ والناتجةُ عن غيابِ الوِحدةِ الوطنيّةِ وعن توزيعِ الحِصَص وعن فُقدانِ الحِسِّ بالمسؤوليةِ لا تَقِلُّ خطورةً من الحروبِ على إستقرارِ البلادِ. فمَأسَسَةُ السلاحِ غيرِ الشرعيِّ، أزمةُ بواخرِ الكهرباء، فضيحةُ النفاياتِ، ملابساتُ إستقالةِ سعد الحريري ورجوعِه عنها، عدمُ إحترامِ بيانِ النأيِ بالنفسِ، خطاباتُ التهديدِ والوعيد، وسجالاتُ مرسومِ ترقيةِ الضبّاط، كان لها جميعاً وقعٌ سلبيٌّ أيضاً على البلادِ وأسواقِها الماليّةِ والاقتصاديّةِ والسياحيّة.
في لبنان، يَـخلِطُ الحكمُ بين إستقرارِه هو وإستقرارِ البلَد، ويَـمزُج بين الإستقرارِ والركودِ، ويَدمُجُ بين الإستقرارِ النابعِ من إرادةٍ وطنيّةٍ والإستقرارِ الناتجِ عن الخضوعِ لقوى الأمرِ الواقِع. والـخَشيةُ أن يُشكِّلَ الإستقرارُ الحاليّ ساتِراً يَـحجُب عمليّةَ تغييرِ هويّةِ لبنانَ ونظامِه وحضارتِه (“افرَحوا بالأمنِ ولنا الباقي”). ليس الإستقرارُ بديلاً من الإستقلال، بل متمِّمٌ له.
لكنَّ اللافتَ أنَّ الإستقرارَ اللبنانيَّ لا يَعكِسُ وِحدةَ الشعبِ، بل يُشبه الهُدنةَ بين شعوبٍ تَنتمي إلى دولٍ متنازِعةٍ، حيثُ لا يَـعُمُّ بينَها الإستقرارُ إلا في حالتين: توازنُ القِوى، أو سيطرةُ دولةٍ على الدولِ الأخرى. هكذا الحالُ في لبنان، إذ يسيطرُ مكوّنٌ مسلَّحٌ على باقي المكوِّناتِ بمنأى عن الدستورِ والميثاقيّةِ والشراكة. نحن نعيشُ في ظِلِّ مجموعاتٍ فيديراليّةٍ من دون دولةٍ فيديراليّةٍ جامِعة.
إنخفَضت طموحاتُ اللبنانـيّين وأصبحوا يَستَكْفون بالإستقرارِ، لضِيقَـتِـهم الإقتصاديّةِ والإجتماعيّةِ وخيباتِـهم من معاركِ السيادةِ والتحريرِ. قَهروا اللبنانيَّ حتّى أصبحَ الإستقرارُ بمعناه الضيِّقِ أقصَى مُناه.
القُنوعُ بالإستقرارِ، رغمَ تبريراتِه الموضوعيّة، خِيارٌ محفوفٌ بالأخطارِ المستقبليّة. فالتركيزُ عليه من دونِ مشروعٍ وطنيٍّ سياديٍّ، هو تضحيةٌ بالمستقبلِ من أجلِ مرحلةٍ حاضِرة. وحدَه العملُ على بناءِ دولةٍ قويّةٍ وحالمةٍ وطموحةٍ يجعلُها قادرةً على إحتضانِ شعبِها وإستقبالِ الأجيالِ المتتالية. أما الدولةُ المستقرّةُ أمنياً نسبياً من دونِ إستقرارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ، كلبنان، فتموتُ تدريجاً. وأساساً، إنَّ عناصرَ الإستقرارِ في علمِ السياسةِ هي: السيادةُ، الاستقلالُ، الولاءُ الوطنيُّ، المسؤوليةُ المواطنيّة، الأمنُ القوميّ، دولةُ القانون، الحريّاتُ العامّة، الحركةُ الاقتصاديّةُ، والسلامُ الإقليميّ. وبالتالي، إنَّ أيَّ استقرارٍ من دونِ سيادةٍ هو سكونُ القبور، وأيَّ استقرارٍ من دون حرّيةٍ هو أمنُ السجون، وأيَّ إستقرارٍ من دونِ إزدهارٍ هو ركود.
منذ البدءِ تَمَحورَ نضالُ اللبنانيّين حولَ رفضِ الإستقرارِ من دونِ الإستقلالِ والحريةِ والكرامةِ وتقريرِ المصير. ويَسهو عن بالِ كثيرين أنَّ لبنانَ هو مشروع ُكرامةٍ وليس مشروعَ إستقرار فقط. كانَ كذلك قبلَ أن يكون. إسألوا صيدا وصور في العصرِ القديم، ووادي التيم والشوف وكسروان وجُبّةَ بشرّي في العصرِ الوسيط، وعين الرمانة والأشرفية وزغرتا وزحلة والجَنوبَ في العصرِ الحديث. لو كان الاستقرارُ الأمنيُّ وحدَه هدفَنا التاريخيَّ، لإختَرنا أحدَ الإحتلالاتِ المتعاقِبةِ ووفَّرنا ألوفَ الشهداء. ولقد مَرّت علينا إحتلالاتٌ خارجيّةٌ أكثرَ حضارةٍ ورُقيٍّ ومسؤوليّةٍ من بعضِ العهودِ والحكوماتِ “الوطنيّة”.
التخلّي عن السيادةِ والإستقلالِ من أجلِ الإستقرارِ والأمانِ حَصرياً منطقٌ خاطئٌ يَقودنا بخُطى ثابتةٍ نحو الإذعانِ كمواطنين والإندثارِ كوطن. ليس هذا الكلامُ تعلُّقاً مُسرِفاً بالسيادةِ، إنما حصيلةُ قراءةٍ موضوعـيّةٍ وعلميّةٍ لتاريخِ لبنانَ، لتحوّلاتِ الشرق، لتطوّرِ حركةِ الديموغرافيا اللبنانيّة. وبالتالي لا يَحقُّ للمسؤولين الحاليّين أنْ يَدفنوا الشهداءَ – وجميعُهم لهم شهداءُ – وأنْ يقايِضوا على تضحياتِهم وعلى روحِ المقاومَة.
فهل نقولُ للشهداء: عفوًا مُـتُّم بالغَلط؟ أخطأنا بالحسابِ فرُحتُم فرقَ الخيارِ بين الإستقرارِ والإستقلال؟
• وزير لبناني سابق