تعايشٌ وتنافسٌ بين الحروبِ والتسويات

بقلم سجعان قزي*

لم تَكترِث إسرائيل بالدخول فعليّاً على خطّ الأحداث طالما كان القتالُ دائراً في سوريا والدمارُ ناشطاً والنظامُ وإيران والميليشياتُ و”حزبُ الله” تُنـهِك قِواها. أمّـا وقد إنتقَل الواقعُ العسكريّ من القتالِ المفتوحِ إلى توزيعِ مناطقِ النفوذِ في سوريا والعراق، فإنَّ إسرائيلَ تبدو معنيّـةً مباشَرةً بالتطوّراتِ إلى حدِّ التلويحِ بحربٍ على لبنانَ وسوريا. قد لا يؤدّي التلويحُ إلى حربٍ، لكنّه سيَجعل إسرائيلَ طرفاً مشارِكاً أو مشرِفاً على التطوّرات العسكريّةِ والتسويات المُقترَحة لمستقبلِ سوريا والمِنطقة، عِلمًا أنّها مُنيت بنكسةٍ في موضوعِ كُردستان.
هذه الحربُ الجديدةُ، في حالِ وقوعِها، قد تكون، بأبعادِها، أشبهَ بِـإحدى حروبِ إسرائيلِ العربيّةِ (1973) أكثرَ من حروبِها اللبنانيّةِ (1978، 1982، 1996، و 2006). وذلك لسببين على الأقل: إنتشارُ الأطرافِ اللبنانيّة والعربيّة والإقليميّة على جَبهتَي لبنان وسوريا، ومحاولةُ التوأمةِ بين تسويةِ حربِ سوريا وتسويةِ السلامِ العربيّ ـــ الإسرائيليّ.
إنَّ شَـنَّ حربٍ جديدةٍ، رغم توافرِ أسبابِـها، هو إشكاليّةٌ كبيرةٌ لإسرائيل لسببين على الأقل: الأوّل، أَنّ إسرائيل، بعدَ صَدْماتِ حروبِ 1973 و 1982 و 2006، ليس بمقدورِها أن تقومَ بـــ”حروب ناقصةٍ” أخرى لا تَضمَن الإنتصارَ العسكريَّ فيها سلفاً. والآخَر، أنَّ إسرائيل، دولةً وشعباً، لا تَتورّط بحربٍ ما لم تكن لها ترجمةٌ على صعيدِ الأمنِ القوميِّ والسلامِ مع العرب.
نلمُس اليومَ إزدواجيّةً في سلوكِ إسرائيل لا تَبلُغ حدودَ التناقض: من جهةٍ تتَّخذُ كلَّ الاجراءاتِ العسكريّةِ المَيدانيّةِ إستعداداً لمواجهةٍ عسكريّةٍ مُحتمَلةٍ في لبنانَ وسوريا، ومن جهةٍ أخرى تُجري مفاوضاتٍ عريضةً مع روسيا وأميركا للحصولِ على ما تريده أمنيّاً وسياسيّاً من دونِ حرب. وهذا مَغزى المباحثاتِ الروسيّةِ ــــ الإسرائيليّة التي تقدَّمت من دونِ الوصولِ إلى إتفاقٍ نهائيّ. فموسكو لا تُـعير أهميّةً كافيةً بعدُ للخطوطِ الحمراء التي إقترحَتها إسرائيل لإحتواءِ دورِ “الحرسِ الثوريِّ الإيرانيّ” و”حزبِ الله” في سوريا وهي: حظرُ إنتقالِ الصواريخِ الروسيّةِ المتطوِّرة الى “حزب الله”، وقفُ إيران تزويدَ سوريا بصواريخَ عابرةٍ، منعُ إيران من بناءِ قواعدَ عسكريّةٍ بَحريّةٍ قربَ طرطوس وبَريّـة قربَ الجولان، وإقامةُ شريطٍ حدوديٍّ إضافيٍّ منزوعِ السلاح بمحاذاةِ الجولان المحتلّ.
أكثرُ من سببٍ لتقومَ إسرائيلُ بحربٍ جديدةٍ في لبنانَ والمِنطقة في حال إرتأت أنَّ مصلحتَها تَقضي بذلك، وأبرزُ هذه الأسباب:
• جميعُ التقاريرِ الإستخباريّةِ والعسكريّةِ في إسرائيل وأوروبا وأميركا تؤكّد أنَّ ترسانةَ “حزبِ الله” ونوعيّـتَها باتت تهدِّدُ مباشرةً سلامةَ وجودِ إسرائيل لا أمنَها الحدوديَّ فقط.
• ورودُ معلوماتٍ عن رغبةِ “حزبِ الله” بوضعِ يدِه على بعضِ آبارِ النَفظ في ديرِ الزور لتأمين تمويلٍ إضافيٍّ بعد التضييقِ الدوليِّ عليه، لا سيّما أنّه أصبح لاعباً إقليميّاً ويحتاجُ موازناتٍ عسكريّةً لتحقيقِ توازنٍ معيَّنٍ مع دولةِ إسرائيل.
• التمدّدُ العسكريُّ والإستراتيجيُّ الإيرانيّ في الدولِ المحيطةِ بإسرائيل وسْطَ وجودِ مخاوفَ إسرائيليّةٍ من قيامِ إيران بعملٍ عسكريٍّ إستباقيّ على غرارِ الهجومِ المِصريّ ـــ السوريّ المفاجِئ على إسرائيل سنةَ 1973.
• إِصرارُ إيران على الممرِّ البَريّ من طهران إلى جنوب لبنان، إذ تعتبره، بمنأى عن أهميّتِه الإستراتيجيّة، التعبيرَ الجغرافيَّ لـــ”لهلالِ الشيعيّ”.
• مواصلةُ إيران جهودَها على الصعيدِ النووي بالرغم من الإتفاق الموقَّع، وتدّعي إسرائيل أنَّ طهران ستمتلِكُ قنبلةً نوويّةً في خلال ثماني سنوات.
• الحربُ على “حزبِ الله”، وإستطراداً على إيران من شأنِها، في حالِ نجاحِها، أن تَفتحَ الطريقَ أمام توقيعِ إتفاقاتِ سلامٍ بين إسرائيل وباقي الدولِ العربية.
• تتوقّع إسرائيل أن تؤدّيَ حربُها الجديدةُ إلى خلقِ ديناميكيّةِ التغييرِ الجيو ـــ إستراتيجيّ المُنتَظرِ في كِيانات المِنطقةِ منذ حربِ العراق والثوراتِ العربيّة الراحلة. وفي هذا السياق، تتمنّى إسرائيلُ أن يَعقُبَ المعركةَ ضِدَّ تنظيمي “داعش” و”جبهة النُصرة” قيامُ دولةٍ سُنيّةٍ على جُزءٍ من أرضِ ســوريا والعراق (شرقيّ الفُرات)، تَحُدّ من النفوذِ الإيرانيّ، وأخرى دُرزيّـةٍ جَنوبيّ غربيَ سوريا.
• تجديدُ الطاقَمِ السياسيّ الإسرائيليّ الباهِت أصبح أولويّـةً مُلحَّةً لشعبِ إسرائيل. وتاريخيّاً، كلُّ حربٍ أفرزت قادةً إسرائيليّين جُدداً.
• هذه الأسبابُ الإسرائيليّةُ، تلتقي مع مصالحِ الولاياتِ المتَّحدة الأميركيّة التي تَكُنُّ العداءَ نفسَه لكلٍّ من “حزبِ الله” وإيران والنظامِ السوريّ، وتَرتاب من ثباتِ الوجودِ العسكريِّ الروسيّ في سوريا وإنتشارِه.
• التغطيةَ الدوليّةَ لحروبِها ليست هاجسَ قادةِ إسرائيل، بل التغطيةُ الداخليّة. فمنذ حربِ 1973، كلُّ حروبِ إسرائيل إنتهت بلجانِ تحقيقٍ أطاحَت الحكوماتِ التي شَنَّت حروباً ولو رابحةً. لذلك تُجري رئاستا الحكومةِ والأركانِ في إسرائيل مشاوراتٍ مع مختلَفِ زعماءِ إسرائيل لضمانِ تأييدِهم في حالِ وقوعِ حربٍ، خصوصاً وأنَّها قد تشمُل أكثرَ من جَبهةٍ ويشترك فيها أكثرُ من طَرف.

لكنَّ المجتمعَ الدوليَّ يسعى إلى إقناعِ إسرائيل بأَنْ إِذا كانت أسبابُ الحربِ موجودةً، فنتائجُها غيرُ مضمونة، لا بل إنَّ ديناميكيّةَ العنفِ المنتشرِ في الشرقِ الأوسط قد تُحوِّل أيَّ حربٍ خاطفةٍ حربَ إستنزافٍ لأنها لن تكونَ بين دولٍ فقط، إنما مع جماعاتٍ مسلَّحةٍ وإرهابيّة أيضاً. ومن بين “الإغراءات” التي يَقترحُها المجتمعُ الدولي على إسرائيل: فرضُ الأممِ المتّحدةِ والاتّحادِ الأوروبيّ على إيران و”حزبِ الله” عقوباتٍ موازيةً للعقوباتِ الأميركيّة، تشديدُ رقابةِ وكالةِ الحدِّ من إنتشارِ الأسلحة النووية، إعادةُ النظرِ لاحقًا بالقرارِ 1701 في جَنوب لبنان، تأكيدُ التسويةِ في سوريا على إنسحابِ القوّاتِ الإيرانيّةِ وعلى ترتيبات أمنيّة على حدودها.
تعاطَت إسرائيل بتحفّظٍ مع هذه النقاطِ لأنّها لا تَثق عادةً بالضماناتِ الدوليّـة بخاصةٍ بعدما نَكَث الأميركـيّون بإلتزاماتِهم تجاه كُردستان. أما بخصوصِ “حزبِ الله”، فتَعتبر أنّه يُشكِّل مشكلةً لها، سواءٌ بقيَ في سوريا أم عادَ إلى لبنان.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى