الغاز الطبيعي الأميركي وصل إلى ليتوانيا: ماذا يعني ذلك لروسيا ومنطقة البلطيق

يبدو أن روسيا بدأت تفقد سيطرتها وإحتكارها على أسواق الغاز الطبيعي في أوروبا، وذلك بعدما بدأت الولايات المتحدة تصدر غازها المُسال إلى القارة القديمة، حيث وصلت أول شحنة إلى بولندا في حزيران (يونيو) الفائت وإلى ليتوانيا في آب (أغسطس) المنصرم. والسؤال المطروح الآن: ماذا يعني هذا لموسكو ومنطقة البلطيق؟

ثورة النفط الصخري في أميركا: غيّرت الوضع الجيوسياسي للغاز الطبيعي المُسال في العالم.

بقلم أغنيا غريغاس*

يشكل أول تسليم لشحنة الغاز الطبيعي المُسال الأميركي إلى ليتوانيا في 21 آب (أغسطس) نقطة تحوّل مهمة بالنسبة إلى أسواق الطاقة في فيلنيوس ومنطقة البلطيق الكبرى، حيث كانت شركة “غازبروم” الروسية هي المورّد المُهيمن للغاز تاريخياً. كما يعكس أيضاً الجغرافيا السياسية الجديدة للغاز الطبيعي لأوروبا وخصوصاً للولايات المتحدة التي بدأت تصدير الغاز الطبيعي المُسال إلى جميع أنحاء العالم فقط في العام 2016. وفي بيان عبر البريد الإلكتروني موجه لي، كتبت رئيسة ليتوانيا، “داليا غريبوسكيتي”: إن توريد الغاز الأميركي إلى ليتوانيا والدول الأوروبية الأخرى يمثّل تغييراً للعبة في سوق الغاز الأوروبية. وبالتالي فهذه فرصة لأوروبا لإنهاء إدمانها على الغاز الروسي وضمان إمدادات آمنة وتنافسية ومتنوعة”.
وصلت شحنة الغاز الطبيعي المُسال الى ميناء “كلايبيدا” في ليتوانيا آتية من محطة “سابين باس” فى تكساس التى تديرها شركة “تشينير إينيرجي” (Cheniere Energy)، وهي المُصدّر الرئيسي للغاز الطبيعى المُسال فى أميركا. وكانت الشركة إفتتحت في العام 2016 صادراتها إلى آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية. أما في أوروبا، فقد إقتصرت عمليات التصدير إلى حدّ كبير على البرتغال وإسبانيا والمملكة المتحدة – حتى حزيران (يونيو) الفائت، عندما تلقت بولندا أول شحنة للغاز الطبيعي المُسال الأميركي.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت من أوائل الجهات الفاعلة في صناعة الغاز الطبيعي المُسال، فإنها لم تكن مُصدّراً مهماً حتى وقت قريب. في العام 1969، كان مصنع التسييل في مدينة “كيناي” في ولاية ألاسكا هو المصنع الوحيد للتصدير الأميركي للغاز الطبيعي المُسال لأكثر من 40 عاماً، على الرغم من أنه لم يُصدّر كميات ملحوظة إلّا في مناسبة واحدة إلى اليابان في العام 1996. وفي الآونة الأخيرة منذ منتصف العقد الفائت، توقّع الخبراء والمستثمرون بأن الولايات المتحدة ستحتاج إلى إستيراد الغاز، وعلى هذا الأساس قامت الشركات الخاصة بالتخطيط لبناء محطات إضافية لإستيراد الغاز الطبيعي المُسال على طول الساحل الأميركي. غير أن الثورة الصخرية وما نتج عنها من زيادة في إنتاج النفط والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة ألغت هذه الخطط وأطلقت طفرة جديدة في مجال الطاقة الأميركية.
في الوقت عينه، إلى أن قامت ليتوانيا ببناء البنية التحتية لإستيراد الغاز الطبيعي المُسال في أواخر العام 2014، كانت البلاد تعتمد على روسيا بنسبة 100٪ لإستيراد الغاز الطبيعي الذي كان يتم تسليمه بواسطة خط أنابيب واحد تُديره “غازبروم”. بعد إفتتاحه في الحقبة السوفياتية، ظلّ خط الأنابيب وتجارة الغاز الروسية – الليتوانية من دون تغيير إلى حد كبير حتى بعدما إنضمت ليتوانيا ودول البلطيق الأخرى إلى الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في العام 2004. ومع ذلك، في أواخر العقد الفائت، تفاقمت التوترات السياسية وبدأت “غازبروم” رفع أسعار الغاز الذي تُصدّره إلى دول البلطيق وبلدان أخرى في أوروبا الوسطى والشرقية على الرغم من أن الإمدادات إلى ليتوانيا ظلت مستقرة. وإشتكت الحكومة الليتوانية يومها من أنها كانت تدفع إلى “غازبروم” أعلى سعر للغاز في أوروبا.
في ليتوانيا، لا تزال أسعار الغاز قضية سياسية محلية خطيرة، حيث يعتمد العديد من الأسر على الغاز للتدفئة في أشهر الشتاء الباردة. وفي ما يتعلق بكيفية خفض أسعار الغاز، فقد تمّ تقسيم البلاد، حتى وقت قريب، بين أولئك الذين يدعون إلى زيادة التعاون مع موسكو وأولئك الذين يوصون بتنويع مصادر إستيراد الطاقة وبالتالي التقليل من تأثير موسكو. وقد أوضح لي وزير الدفاع الليتواني السابق “راسا يوكنيفيشيان”: “إن أهم أداة للكرملين كانت الغاز، الذي لا تُورّد روسيا من خلاله موارد طبيعية فحسب، بل أيضاً فساداً، حيث كانت تموّل السياسيين الأصدقاء للكرملين، وتشتري نفوذاً في وسائل الإعلام”.
وجاء القش الأخير الذي قصم ظهر البعير خلال الأزمة المالية العالمية في العام 2008 وتوقّف “غازبروم” عن ضخ الإمدادات إلى أوكرانيا في شتاء 2008-2009، مما أدى إلى إنقطاع التزويد إلى الإتحاد الأوروبي. وهذا ما دفع الحكومة الليتوانية إلى البدء بجدية في البحث عن بدائل من الغاز الروسي. في ذلك الوقت، كنت أعمل مستشاراً لوزير الخارجية الليتواني فيغوداس أوساكاس، لتحليل كيفية تحسين وضمان أمن الغاز في البلاد. وكانت تجارة الغاز الطبيعي المُسال تنمو بالفعل في العقد الفائت، ومن خلال بناء مرافق إستيراد الغاز الطبيعي المُسال على بحر البلطيق، يُمكن لليتوانيا الوصول إلى الأسواق العالمية. وقد إستكملت البلاد بناء محطة التخزين وإعادة التغويز العائمة “كلايبيدا” في أواخر العام 2014، ولكن حتى قبل ذلك الحين، فقد سمح مجرد وجود المشروع لليتوانيا بالتفاوض على أول تخفيض لسعر الغاز مع “غازبروم” في وقت سابق من ذلك العام. وبعدما أدركت شركة الغاز الروسية العملاقة أنها لن تستطيع إحتكار السوق الليتوانية بعد الآن فإنها قدّمت أسعاراً أقل وأدنى وشروطاً أفضل. بعد فترة وجيزة، بدأت ليتوانيا تلقّي الغاز الطبيعي المُسال من النروج الأمر الذي قلّل من إعتمادها على “غازبروم” بنسبة النصف تقريباً.
على الرغم من أن الغاز الطبيعي المُسال النروجي، وليس الغاز الطبيعي المُسال الأميركي، كان أول من كسر إحتكار “غازبروم” في ليتوانيا، فإن الشحنة الأميركية الأخيرة قد تكون أكثر أهمية في المدى الطويل. ذلك أن تسليم هذه الشحنة يشير إلى أن الولايات المتحدة أصبحت الآن مورّداً قوياً للغاز العالمي، وأن الشركات الأميركية على إستعداد للتنافس حتى في الأسواق التي تُعتبر تقليدياً مع “غازبروم”. وقال لي “زيجيمانتاس فايسيناس” وزير الطاقة الليتواني: “نحن نُقدّر التعاون مع الولايات المتحدة في قطاع الغاز الطبيعي المُسال سواء من منظور أمن الطاقة أو المنظور الإقتصادي. وكانت هذه الصفقة مفيدة إقتصادياً، وإشترينا الغاز بشروط تنافسية في السوق. وإذا قمنا بتقييم الإمكانات المستقبلية لأميركا كمصدّر للغاز، يمكننا أن نتوقع المزيد من الإمدادات الأميركية وحتى بشروط أكثر تنافسية”.
ما هو أكثر من ذلك، يشير وصول الغاز الأميركي إلى أوروبا إلى تحوّل جيوسياسي. وكقوة عظمى جديدة في مجال الطاقة، سيكون للولايات المتحدة المزيد من النفوذ والمزيد من المصالح في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً في الأسواق التي تُصدِّر إليها. ويرى يوكنيفيشيان أن ذلك مفيد جداً لأوروبا: “إن المصالح التجارية الأميركية فى اوروبا تزيد من مصالح واشنطن فى البعد الأمني للقارة. وبالتالي، فإن صادرات الغاز الأميركية ليست أقل قيمة من الدفاع الصاروخي الأميركي أو تعزيزات الدبابات الأميركية في أوروبا”.
مع منافسة الغاز الأميركي الآن في الأسواق الروسية التقليدية، يبقى السؤال كيف سترد موسكو. يُمكنها أن تخفّض الأسعار والإستمرار في أن تكون أكثر مرونة في ما يتعلق بشروط تجارتها في الغاز، والإبتعاد من العقود الطويلة الأجل أو التسعير الذي يربط الغاز بالنفط. أو ربما يُمكنها أن تلجأ إلى تحدّي وعرقلة شحن الغاز الطبيعي المُسال في بحر البلطيق، حيث يتمتع الجيش الروسي بوجود قوي. وعلى الرغم من أنه من المستحيل التأكد من النهج الذى ستتخذه موسكو فان سفير الإتحاد الاوروبي لدى روسيا ووزير الخارجية الليتواني السابق، فيغوداس أوشاكاس، يعتقد انه سيكون أقرب من السيناريو السابق قائلاً: “إن غازبروم ستحاول الرد من خلال ان تصبح اكثر قدرة على المنافسة. سيتم ذلك بطريقتين، أولاً من طريق خفض أسعار الغاز، وثانياً من خلال محاولة زيادة الكميات وتحسين بيع الغاز في السوق الفورية (سبوت)”، وهذا يعني التسليم الفوري بدلاً من العقود الطويلة الأجل.
ولكن الأمر المؤكد هو أنه مع تسليم شحنة الغاز الطبيعي المُسال في الشهر الفائت من الولايات المتحدة إلى ليتوانيا وتسليم شحنة سابقة إلى بولندا في حزيران (يونيو) الفائت، فإن الجغرافيا السياسية للغاز الطبيعي لن تكون هي نفسها. ومع توقع أن تصبح أميركا مُصدِّراً رئيسياً للغاز الطبيعي المُسال، ومع مواجهة روسيا مُنافَسة جديدة في أسواقها الأوروبية والآسيوية التقليدية، فإن إشتباكاً تجارياً من المرجح أن يقع بين موسكو وواشنطن الذي سيضيف إلى التوترات السياسية التي كانت قائمة من قبل. وفي الوقت نفسه، فإن مستوردي الغاز الذين كانوا يشعرون بالقلق منذ فترة طويلة بشأن إعتمادهم على مُورِّدين أحاديين وربما مُعادين، لا ينبغي أن يقلقوا بعد الآن.

• أغنيا غريغاس زميل في “المجلس الأطلسي” في واشنطن ومؤلف كتاب “الجغرافيا السياسية الجديدة للغاز الطبيعي” (The New Geopolitics of Natural Gas).
• كُتب المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى