المُستثمرون اللبنانيون يهربون من النظام المالي إلى حلولٍ مالية بديلة!

يبحث عددٌ كبيرٌ من المستثمرين اللبنانيين، وسط الأزمات المُستفحلة في بلدهم، عن سُبُلٍ مُختلفة للخروج من النظام المالي اللبناني وقد وجدوا بعض البدائل.

المصارف اللبنانية: فقدت ثقة اللبنانيين

عصام القيسي

باتت عبارة “لبنان سويسرا الشرق” أشبه بمَزحَةٍ سمجة يتناقلها اللبنانيون، أو بتذكيرٍ مريرٍ بأيّام العزّ التي ولّت منذ زمن بعيد.

سُمّي لبنان “سويسرا الشرق” بسبب قوانين السرّية المصرفية التي كانت من بين الأكثر صرامةً في المنطقة، حتى أن بيروت أصبحت في مرحلة من المراحل العاصمة المالية للشرق الأوسط. واليوم، بات لبنان عالقاً في مُستنقَعٍ من المشاكل غير المسبوقة. فقد خلُص البنك الدولي إلى أن الأزمة الإقتصادية والمالية التي تَغرَقُ فيها البلاد هي في الغالب من ضمن أسوأ عشر أزمات، لا بل حتى أسوأ ثلاث أزمات شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

تُعاني المصارف اللبنانية منذ أواخر العام 2019 عجزاً يزيد عن 83 مليار دولار، معظمه على شكل قروض ممنوحة إلى الدولة اللبنانية. ونتيجةً لذلك، عمدت المصارف إلى فرضِ قيودٍ على سحوبات المودعين وتحويلاتهم الخارجية. يُشار في هذا الإطار إلى أن سعر صرف الليرة اللبنانية، الذي ثُبِّت طيلة ثلاثة عقود تقريباً عند 1500 ليرة للدولار الواحد، يتمّ الآن تداوله عند نحو 14,500 ليرة للدولار الواحد في السوق السوداء. هذا وقد أدّى ارتفاع معدل التضخم بشكلٍ كبير وانخفاض القدرة الشرائية بالليرة في بلدٍ يعتمد اعتماداً كبيراً على الواردات لتلبية احتياجاته الأساسية، إلى نتائج كارثية. ويُقدّر البنك الدولي أن نصف سكان لبنان تقريباً يعيشون في حالة فقر.

لا شكّ في أن الأزمة المالية والاقتصادية التي اجتاحت لبنان نسفت ثقة اللبنانيين الكبيرة سابقًا في نظامهم المالي، ما دفع بعضهم إلى المجاهرة بأنهم لن يضعوا بعد الآن دولاراً واحداً من الأموال التي عملوا جاهدين لكسبها في النظام المالي. فبعد التحديات المهولة التي يواجهها اللبنانيون منذ عام ونيّف، قرّر بعضهم البحث عن سُبُلٍ للخروج من النظام المالي المأسوي.

وهكذا، اختار بعضهم الاستثمار في عملات رقمية مُشفّرة وغير مركزية مثل البيتكوين التي تُعدّ محميّة من التضخم المُفاجئ ويُجرى تداولها عالمياً منذ العام 2009. لكن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يعتبر البيتكوين عملة، بل سلعة تشهد أسعارها تقلّبات حادة. لذا، حظّر استخدامها في السوق اللبنانية كعملة في العام 2017. لكن هذا القرار لم يمنعه في العام 2020 من الإعلان عن أن مصرف لبنان يعتزم إطلاق عملة لبنانية رقمية (وهي خطة مُعلَّقة حالياً) بهدف الانتقال إلى نظام مالي غير ورقي. وأبسط ما يمكن تصوّره هو أن سلامة سيتحكّم بهذه “الليرة الرقمية” وبحجم عرضها، تماماً كما يفعل مع الليرة حالياً، التي يضخّم قيمتها كيفما يشاء هو ومناصروه السياسيون.

لهذا السبب بالضبط اختار الكثير من اللبنانيين اللجوء إلى البيتكوين. فهي تستند إلى خوارزميات وعمليات حسابية صارمة، تنفي الحاجة إلى أي حاكم أو مُشغّل يتحكّم بها. يُشار كذلك إلى أن الكميات المعروضة من البيتكوين محدودة، لذا يثق مالكوها بها أكثر بكثير مما يثقون بالليرة، وحتى بالدولار الأميركي في بعض الحالات. وعلى سبيل المثال، جرى تداول هذه العملة المُشفّرة خلال شهر آذار (مارس) في إحدى دوائر البيتكوين في لبنان المسمّاة “بيتكوين لبنان” (Bitcoin du Liban)، بين مليونين و3 ملايين دولار شهرياً. يتمّ تنظيم التداول على الإنترنت وعادةً عبر شبكة الند للند  (peer to peer)، إذ لا يمكن استخدام الكثير من بطاقات الائتمان اللبنانية على منصّات التداول بسبب الحظر الذي فرضه سلامة. ومع أن أسعار البيتكوين تشهد تقلّباً يومياً، يبقى أن سعرها قد ارتفع بشكل سنوي منذ البدء بتداولها. أضف إلى ما سبق أن لعملة البيتكوين وظيفة بارزة أخرى تتمثّل في قدرتها على تجاوز القيود الحالية التي فرضتها المصارف اللبنانية، ما يسمح بالتحويل الفوري لمبالغ كبيرة داخل لبنان وخارجه.

على صعيدٍ آخر، تسببت الأزمة بانحسار مهمة أخرى كانت تضطلع بها المصارف اللبنانية، وهي منح القروض. هنا برز دور مبادرات تعاونية مثل “شريك”، وهي مؤسسة لبنانية محلية تسعى إلى توفيرِ حلولٍ بديلة للتسليف وإدارة الأموال خلال الأزمة وبعدها. وهي تقدّم خدمات عدّة من بينها منح قروضٍ صغيرة تتراوح قيمتها بين 3 ملايين و30 مليون ليرة لبنانية، إضافةً إلى قروض بالدولار الأميركي تتراوح بين 1000 و20,000 دولار، تُسدَّد خلال مدّة أقصاها ثلاث سنوات. وقال أحد مؤسسيها أن المبادرة لن تموّل سوى مشاريع القطاعات الإنتاجية، وتطمح إلى إنعاش الاقتصاد اللبناني. وعلى الرغم من أن مؤسسة “شريك” لا تزال في مراحلها الأولى، فهي تسعى إلى زيادة عدد أعضائها ليصل إلى 1000 عضو بحلول نهاية العام 2021، على أن ينضمّ كل واحد منهم إلى المؤسسة بناءً على توصية واحد من أعضائها الحاليين أو أكثر.

وحده الزمن كفيل بأن يكشف ما إذا كانت عملة البيتكوين ستنجح في الحفاظ على ثروات الأفراد المُقيمين داخل لبنان، وما إذا كانت مبادرة “شريك” ستتمكّن من توفير بديل مالي أكثر ديموقراطية لهم. لكن يبدو واضحاً أن ما يدفع اللبنانيين إلى استخدام البيتكوين وإنشاء مؤسسة تعاونية مثل “شريك” أو الانضمام إليها، ينمّان عن حاجة اللبنانيين إلى التمرّد على نظامٍ مالي لا يُعير أيّ أهمية لأوضاع المواطن اللبناني العادي. باختصار، يستند هذا التمرّد من طريق البيتكوين إلى اختيار عملة رقمية لامركزية بالكامل. وعلى نطاق أصغر، يخوّل الانضمام إلى مؤسسة “شريك” الأفراد أن يصبحوا جزءاً من اتحاد ائتماني تعاوني يتمتع أعضاؤه بحقوق تصويت متساوية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى