هجومٌ سياسي وإقتصادي روسي هادىء يُسحِر شمال إفريقيا
في الوقت الذي يسعى الغرب في هذه الأيام إلى ترتيب بيته داخلياً، وخصوصاً بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تعمل روسيا على توسيع بيكار نفوذها السياسي والإقتصادي بهدوء حيث وصل أخيراً إلى منطقة شمال إفريقيا التي تُعتبَر إحدى أهم المناطق بالنسبة إلى أميركا وأوروبا.
الرباط – سمير برادة
مع إنصباب إهتمام العالم على مسألة النفوذ الروسي في الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، فإن الكرملين يعبر بهدوء إلى منطقة أخرى بالغة الأهمية لكل من أميركا وأوروبا: دول شمال إفريقيا الخمس الواقعة على ساحل جنوب البحر الأبيض المتوسط.
في الشهر الفائت تجمّع مسؤولون روس وجزائريون في حوض بناء السفن في سان بطرسبرغ لتحطيم زجاجة الشمبانيا على أول غواصة من غواصتين من نوع “الثقب الأسود” (Black Hole) التي صُنِعت للبحرية الجزائرية. وفي اليوم نفسه، كشفت الأنباء أن روسيا نشرت قوات خاصة وطائرات من دون طيار في قاعدة تعود إلى العهد السوفياتي في غرب مصر لدعم زعيم ميليشيات في ليبيا المجاورة. وفى أواخر العام الماضي سافر سكرتير مجلس الأمن القومي في موسكو الى المغرب حيث دعا الملك محمد السادس الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى زيارة المملكة المغربية بعدما قام العاهل المغربي بزيارة موسكو فى وقت سابق من ذلك العام. وفي تونس، حيث قفزت السياحة الروسية عشرة أضعاف في العام 2016، وقّع الكرملين إتفاقاً في الخريف الماضي لبناء محطة للطاقة النووية.
وكانت مصر، أكبر دولة عربية، جوهرة التاج السوفياتي الشرق أوسطي حتى إنشقّت الى المعسكر الأميركي في أواخر سبعينات القرن الفائت، حيث صارت تُعتبر أهم حليف لواشنطن في شمال إفريقيا منذ ذلك الحين. لكن القاهرة بدأت توسيع علاقاتها مع روسيا بعد فترة وجيزة من إطاحة الرئيس عبد الفتاح السيسي للرئيس محمد مرسي في العام 2013. إن إدارة باراك أوباما، الحذرة من أساليب القاهرة الثقيلة للقضاء على المعارضة، إبتعدت مسافة عن السيسي، الذي إنتقل بعد ذلك إلى روسيا للمساعدة على ملء الفراغ. في العام 2015، سافر بوتين إلى القاهرة، حيث رُفِعت اللافتات التي تحمل صوره إصطفافاً في الشوارع، فأعاد اللفتة لحفاوة إستقبال السيسي بإهدائه الرئيس المصري بندقية كلاشينكوف جديدة.
في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، صوّتت مصر مع روسيا ضد قرار مجلس الأمن الدولي الذي يهدف إلى إنهاء الغارات الجوية في سوريا — وهو تصويت نددت به جميع الدول العربية — في محاولة لكسب ودّ موسكو. وبعد أسابيع، عقدت الدولتان أول مناورات عسكرية مُشترَكة بينهما أُطلِق عليها إسم “المدافعون عن الصداقة”. وتفيد المعلومات الآن، أن القاهرة وموسكو على بعد أسابيع من وضع اللمسات الأخيرة على إتفاق بشأن مفاعل نووي خارج الإسكندرية. ومن المقرر ان تبدأ روسيا تسليم ما يقرب من 50 طائرة هليكوبتر هجومية الى مصر هذا العام، وعدد مماثل من الطائرات المقاتلة ذات المحركين “ميكويان ميغ – 29” في العام 2020، وهى اكبر صفقة من نوعها منذ تحالف الحرب الباردة بين البلدين.
أما في ليبيا المجاورة، فإن سياسة روسيا تركّز على الجنرال خليفة حفتر، الرجل القوي وقائد الجيش الوطني الليبي المتمركز في الشرق الذي يحارب تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، وميليشيات إسلامية أخرى، والحكومة المعترف بها دولياً في طرابلس. وكان حفتر قام برحلات متعددة الى موسكو خلال العام الماضي للحصول على الدعم العسكري الروسي، وفي كانون الثاني (يناير) إتخذ خطوة غير عادية بالصعود إلى حاملة الطائرات الوحيدة في روسيا عندما أبحرت عائدة إلى بلادها من سوريا. وعلى متنها، أفيد بأنه وقّع إتفاقاً مع مسؤولين روس للسماح لقواتهم بالعمل في مناطق ليبية تقع تحت سيطرته – كما فعلوا على ما يبدو في الشهر الماضي. وحسب الجنرال توماس فالدهاوزر القائد الأعلى للقوات الأميركية في إفريقيا، إن وجود القوات الروسية في ليبيا “لا يمكن إنكاره”: “إنهم على الأرض، وهم يحاولون التأثير في العمل، ونحن نراقب ما يفعلونه بقلق بالغ”.
كما قام فايز السراج، رئيس وزراء الحكومة المنافسة في طرابلس، بزيارة إلى موسكو الشهر الفائت للإجتماع مع وزير الخارجية الروسي، لكن الكرملين يلقي بثقله بشكل واضح مع حفتر، وهو جنرال يعود إلى عهد الدكتاتور السابق معمر القذافي.
عارض بوتين تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا في العام 2011، مؤيداً القذافي المستبد الموثوق به بدل فراغ السلطة الذي يشجع ويعزز الجماعات المتمردة التي رفضها بشكل متكرر وإعتبرها إرهابية.
كما أن موسكو لديها مصالح إقتصادية في ليبيا. فقد إجتمع إيغور سيشين، رئيس شركة الطاقة الروسية “روزنيفت” المملوكة للدولة وحليف وثيق لبوتين فى شباط (فبراير) الفائت مع رئيس شركة نفط الدولة الليبية ووافق على التعاون فى إعادة بناء قطاع الطاقة الذى مزقته الحرب فى البلاد. وتملك ليبيا أكبر إحتياطات نفطية في إفريقيا – وقبل الحرب الأهلية في العام 2011 كانت تنتج 1.65 مليون برميل يومياً حيث كان يتم تصدير معظم الكمية إلى أوروبا.
وما لا يقل أهمية، فإن ليبيا هي نقطة رئيسية على طول الطريق المركزي في البحر الأبيض المتوسط الذي يصل بواسطته المهاجرون إلى أوروبا. وفقاً للإتحاد الأوروبي، يأتي ما يصل إلى 90 في المئة من المهاجرين إلى أوروبا اليوم من خلال ليبيا. وبفضل روابطها المتزايدة مع الجماهيرية السابقة، يمكن أن تستخدم موسكو الهجرة الجماعية كرافعة ضد أوروبا. وتركيا — وهي بوابة أخرى للاجئين — تستخدم إحتمال تدفق اللاجئين إلى الإتحاد الأوروبي لإنتزاع تنازلات من بروكسل، ويمكن لموسكو أن تلعب بطاقة ليبيا بالطريقة عينها.
أما بالنسبة إلى الجارة الواقعة غرب ليبيا، فقد يبدو أن تونس ليس لديها شيء كثير لتقديمه إلى موسكو. ولكن بعد توقف الرحلات الجوية من روسيا الى مصر وتركيا بعد إسقاط طائرة مدنية روسية في الأولى، وأخرى عسكرية روسية في الثانية، فقد أصبحت الدولة الصغيرة بديلاً شعبياً للسياحة. إن روسيا هي الآن أكبر مصدر للسياح إلى تونس، وهي مصدر دخل حيوي لبلد يعتمد على صناعة السياحة ولكنه لا يزال يعاني من الهجمات الإرهابية التي وقعت في العام 2015.
لا يوجد بالطبع أي شيء سيىء حول العطلات الروسية في تونس، ولكن تدفق السياح يمهد الطريق لموسكو لتحقيق إنطلاقات إقتصادية. إن قوائم المطاعم في السيريلية صارت شائعة على نحو متزايد في تونس، والعاملون في الفنادق المحلية يتعلمون الروسية. وذكرت وسائل الإعلام الروسية أن الجانبين بحثا حتى إجراء تجارة ثنائية بالروبل والدينار التونسي بدلاً من الدولار أو اليورو. وفي العام الماضي، وعدت روسيا، بالإضافة إلى صفقة المفاعل النووي، بتزويد تونس بمروحيات لمحاربة تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة”.
وبدورها فإن الجزائر المجاورة، التي هي من الدول القديمة التي تشتري الأسلحة الروسية، تُعتَبرَ سوقاً أخرى للنمو مع الكرملين. في العام 2014، وقّع الجانبان على صفقة تقدر بنحو مليار دولار تستخدم فيها الجزائر أدوات من التركيب الذاتي من مورّد أسلحة الدولة في موسكو لبناء 200 دبابة. ووصف خبير عسكري روسي هذا الاتفاق بأنه “ربما يكون أكبر عقد تصدير لدبابات القتال الرئيسية في العالم”. وفي العام المنصرم، رحب وزير الخارجية الجزائري رمضان لعمامرة بنظيره الروسي سيرغي لافروف في الجزائر، الذي بدأت بلاده بالفعل تلقّي طلبات لشراء 14 طائرة مقاتلة من نوع سوخوي سو-30. وأخيراً، سوف تتلقى الجزائر هذا العام سفينتين روسيتين من نوع “كورفيت تيغر” مُسلَّحة بصواريخ كروز الروسية، وفي العام المقبل، سوف تتسلّم غواصتين من نوع “الثقب الأسود” أو “بلاك هول”.
وكان آخر هجوم روسي ساحر في شمال إفريقيا في المغرب، أهم حليف لواشنطن في شمال افريقيا بعد مصر. وقد زار العاهل المغربي محمد السادس الرئيس الروسي بوتين في العام الماضي، حيث وقّعا على إعلان “شراكة إستراتيجية عميقة” وإتفاقات حول مكافحة الإرهاب والطاقة — وفي صيغة الكرملين الغريبة — “التعاون في الإسلام”. ثم في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، قام سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي — حليف بوتين الذي كان يرأس وكالة المخابرات الفيديرالية سابقاً — بزيارة الرباط التى وجّه خلالها الملك دعوة شخصية لبوتين لزيارة المملكة. ويهدف المغرب إلى زيادة السياحة الروسية بمقدار خمسة أضعاف خلال السنوات المقبلة، وفي شباط (فبراير) قال مستشار وثيق للملك لوسائل الإعلام الروسية أن الرباط تسعى إلى توثيق التعاون بشأن أزمة المهاجرين.
لا شيء من هذا يشير إلى أن روسيا تشارك أو تنخرط في حيلة جيوسياسية — مثل واشنطن، إنها تسعى إلى ممارسة نفوذها الديبلوماسي والإقتصادي والأمني أينما كان. ولكن وسط أزمة المهاجرين، فإن خطر الإرهاب الدولي، والإضطرابات المستمرة التي حملها “الربيع العربي”، فإن منطقة شمال أفريقيا هي من أهم المناطق لواشنطن وحلفائها الأوروبيين. بالنسبة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، يتعين وضع سياسة روسية شاملة للتصدي للكرملين الذي يعرض عضلاته ليس فقط في الولايات المتحدة وأوروبا ولكن بشكل متزايد على الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.