تونس: هل إنتهى عصر التشغيل، وما العمل مع مخزون البطالة؟

بقلم عبد اللطيف الفراتي*

إنتهت سنة 2016 بنتيجة كارثية في تونس تمثلت في نسبة نمو نهائية في حدود 1 في المئة، بعيداً من النسبة المُخَطَّطة مبدئياً في أواخر 2015 أي 2.5 في المئة، والتي تقلّصت كما تقلص سروال عبد الرحمن الذي درسنا عنه في الإبتدائي أيام زمان، وتمثّل في تقصيره مرة بعد مرة فمر من بنطلون طويل إلى شورت غاية في القصر، فمن توقعات بنمو 2.3 في المئة إلى 2.1 في المئة، إلى 1.7 ثم 1.5 إلى 1.3 في المئة، إلى نتيجة نهائية بنسبة نمو للعام المنقضي بـ1 في المئة. وإذا علمنا أن نسبة نمو ب1 في المئة تفضي إلى عدد مشتغلين جدد يبلغ 10 آلاف (المتفائلون يقولون 15 ألفاً) في بلد يدفع بحوالي 70 إلى 80 ألفاً سنوياً من الوافدين الجدد إلى سوق التشغيل، بدا لنا مدى عجز الإقتصاد عن توفير الحاجة إلى فرص عمل جديدة بصورة فادحة. والواقع أن البلاد توفر أكثر من 10 آلاف بإصطناع مناصب عمل بلا مردود، مما يؤدي إلى دفع أجور ورواتب سواء في القطاع الحكومي أو شبه الحكومي أو حتى الخاص لا تستند إلى إنتاج فعلي ولا زيادة في الثروة الوطنية، وبالتالي إلى تضخم مالي وغلاء في الأسعار بلغ حدوداً فوق الطاقة، لا تفيد فيه المعالجات الإصطناعية أو تكثيف الرقابة، فالقضية الحقيقية هي قضية معادلة أو موازنة بين العرض والطلب، ولعلّ أكبر مثال على ذلك هو أسعار البرتقال هذا العام أو أسعار زيت الزيتون قبل عامين. إننا نوزّع حالياً أجوراً ليس وراءها إنتاج، وكلّما إرتفعت تلك الأجور إصطناعياً سواء في عدد العاملين الذين لا حاجة إليهم أو بزيادات في الأجور بفعل المطالبة الإجتماعية، إرتفعت الأسعار.
ولكن كيف العمل وفي تونس مخزون من البطالة في حدود 600 ألف عاطل أو يزيدون، تُضاف إليهم سنوياً عشرات الآلاف من الوافدين الجدد، فيما سوق التشغيل الحقيقية المحدثة لا تتجاوز 10 أو 15 ألف من العاملين؟
عاملان إثنان وجب الوقوف عندهما:
أولهما عدم التلاؤم بين الحاجة والتكوين أو التأهيل، فهناك أعداد كبيرة من طلبات العمل لا تجد لها إستجابة، ويقدر النقص في بعض المجالات بين 100 و150 ألف مختص لا توفرهم سوق التكوين والتأهيل. ويؤدي النقص في وجودهم إلى تعطيل الحركة الإقتصادية.
وثانيهما المكننة السريعة المُتاحة بأدوات عمل ليست فقط غير محتاجة إلى أيدٍ عاملة أو فكرية كثيرة العدد بل إلى متخصصين، ولو أبقت تونس على الأعمال اليدوية الادارية، كما كان الشأن قبل 50 سنة لكانت الحاجة إلى كتبة إداريين ومحاسبين من دون حصر، ولكن دخول الكومبيوتر من جهة والروبوت (الإنسان الآلي) في الصناعة فضلاً عن إقتحام المرأة بكثافة لسوق العمل، قلل الحاجة إلى اليد العاملة، غير المتخصصة، وفرنسا التي تعتبر ” متخلفة ” إلى حد ما، تشكو من وصول عدد العاطلين من العمل فيها، إلى أكثر من 5 ملايين أي بين 10 و11 في المائة من قوة العمل.
وتدل مؤشرات معينة إلى أن ترتيب “بيزا” التعليمي (1) يبرز أن ترتيب الأوائل هو الذي يعرف العدد الأقل من نسبة البطالة وعدد العاطلين من العمل، فبلدان مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية واليابان التي يتطور فيها التعليم، ويتفاعل مع متطلبات سوق الشغل، تعرف نسبة حوالي 3 في المئة من البطالة قياساً إلى قوة العمل، وفنلندا وبلدان إسكندينافيا أيضا كما الولايات المتحدة وماليزيا كلها تعرف نسب بطالة متدنية، وعربياً من بين 70 دولة مرتبة عالمياً نجد الإمارات تأتي في المرتبة 46 وهي الأولى عربياً تليها قطر (56) ثم الأردن (61) ويسبق لبنان تونس في المرتبة 64 وبعدها تونس 65 أي 5 مراتب عن المرتبة الأخيرة ولا تأتي بعدها إلا الجزائر في المرتبة 69 من أصل 70، أما دول مثل الكويت ومصر والمغرب فهي ليست ضمن السباق الذي لم يشمل سوى 70 دولة، حيث أينما يوجد تعليم متميز نسبياً توجد نسبة بطالة أقل.
كما تدل مؤشرات أخرى إلى أن اللجوء للإنسان الآلي/الروبوت بحجم عال، ليس له تأثير على تفشي البطالة كما قد يتبادر إلى الذهن، ومرة أخرى فإن كوريا الجنوبية تتصدر قائمة عدد “الروبوتات”، ولم يؤد ذلك إلى إرتفاع نسبة البطالة بل على العكس، يبدو أنها تتمتع بأخفض نسبة بطالة وعاطلين من العمل، على أساس أن إنتاجية العمل هي الأعلى، وأن اللجوء للإنسان الآلي يزيد من إنتاجية العمل.
والسؤالان المطروحان إذن هما: متى يمكن إستيعاب البطالة الكامنة أو الوافدة؟ وهل أن بلداً مثل تونس قادر في مستقبل منظور، على إمتصاص بطالته الهيكلية والمتعاظمة، بقطع النظر عن المعالجات الإصطناعية التي لا تخلق الثروة بل تزيد المشكل إشكالاً؟
الواضح أن تونس مثل فرنسا مع الفارق أنها لا تبدو قادرة على حل مشكل البطالة، وترك مئات الألوف أو حتى الملايين في حالات معينة على حافة الطريق.
من هنا يأتي سيناريو واضح المعالم، بأن مشكلة البطالة هي في تعاظم، ولن يمكن التخفيف منها هيكلياً، وإن تم التخفيف إصطناعياً بما يضيف إلى المشكلة إشكالاً في المديين المتوسط والبعيد، أما الوعود السياسية فإنها لا تعدو أن تكون مسكّنات لا أثر فعلياً لها.
من هنا أيضا يمكن تَفَهُّم، من دون تأييد، مقترح مرشح الرئاسة الفرنسية “بونوا هامون” بسن ما يسميه “الدخل المُعَمَّم” (LE REVENU UNIVERSEL) والذي ينطلق من فرضية أنه لن يقع إيجاد عمل لكل الناس نتيجة المكننة المطلقة، ولذلك وجب توفير دخل حتى لمن لا عمل لهم، مع فرض ضرائب على الإنسان الآلي، الذي يستحوذ على مكان الإنسان الحقيقي في العمل، لتمويل ذلك الدخل المُعمَّم.
وإذ أمكن للبلدان التي قامت في حينه بثورتها التعليمية، أن تحلّ مشكلة البطالة عندها، أليس الأجدر دفع البلدان المتقهقرة تعليمياً ومنها تونس وبلدان عربية عدة، وحتى فرنسا، إلى البحث عن حلول لإصلاح تعليمي جذري، بدل البحث عن حلول لدخل بلا عمل، علماً أن دور العمل ليس فقط توفير أجرٍ أو دخل، بل وأيضاً توفير الشعور بالكرامة، وبلعب دور إيجابي في المجتمع.

• كاتب وإعلامي تونسي، ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الصباح” التونسية. fouratiab@gmail.com
(1)- خلال أقل من عشر سنين أصبح مقياس برنامج منظمة الدول الأوروبية “ocde” أفضل مقياس لمعرفة مكتسبات التلاميذ من المعارف من جهة التقييم والجدوى لأنظمة التعليم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى