ما يُمكِنُ أن نَتَوَقَّعَهُ بَعدَ غزو بوتين لأوكرانيا

شهدت خريطة أوروبا العديد من التغييرات على مر القرون. يعكس شكلها الحالي توسع القوة الأميركية وانهيار القوة الروسية من الثمانينات الفائتة حتى الآن. من المرجح أن تعكس المرحلة التالية إحياء القوة العسكرية الروسية وتراجع نفوذ الولايات المتحدة.

الحلف الأطلسي: إلى أي حد سيسمح لبوتين بالتمدد؟

روبرت كاغان*

لنفترض للحظة أن فلاديمير بوتين قد نجح في السيطرة الكاملة على أوكرانيا، كما يبدو من كلامه ونيّته لتحقيق ذلك. ما هي النتائج الاستراتيجية والجيوسياسية المترتبة؟

أوّلًا ستكون جبهة جديدة للصراع في أوروبا الوسطى. حتى الآن، يمكن للقوات الروسية أن تنتشر فقط حتى الحدود الشرقية لأوكرانيا، على بُعدِ مئات الأميال من بولندا ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخرى إلى غرب أوكرانيا. عندما يُكمّل الروس عمليتهم، سيكونون قادرين على التمركز – عبر قواتٍ برية وجوية وصاروخية – في قواعد في غرب أوكرانيا وكذلك في بيلاروسيا، التي أصبحت فعليًا تحت الهيمنة الروسية.

وبالتالي سيتم تجميع القوات الروسية على طول الحدود الشرقية لبولندا التي يبلغ طولها 650 ميلًا، وكذلك على طول الحدود الشرقية لسلوفاكيا والمجر والحدود الشمالية لرومانيا. (من المحتمل أن يتم وضع مولدوفا تحت السيطرة الروسية أيضًا، عندما تكون القوات الروسية قادرة على تشكيل جسرٍ برّي من شبه جزيرة القرم إلى مقاطعة ترانسنيستريا المنفصلة في مولدوفا). روسيا بدون أوكرانيا، كما قال وزير الخارجية الأميركي السابق دين أتشيسون ذات مرة عن الاتحاد السوفياتي، “فولتا العليا مع صواريخ”. روسيا مع أوكرانيا “حيوان” استراتيجي مختلف تمامًا.

سيكون التهديد الأكثر إلحاحًا على دول البلطيق. تقع روسيا أصلًا على حدود إستونيا ولاتفيا مباشرة وتلامس ليتوانيا عبر بيلاروسيا ومن خلال موقعها الأمامي في كالينينغراد. حتى قبل الغزو، تساءل البعض عما إذا كان بإمكان “الناتو” أن يدافع بالفعل عن أعضائه في البلطيق من هجومٍ روسي. بمجرد أن تنتهي روسيا من احتلالها لأوكرانيا، ستكتسب هذه المسألة إلحاحًا جديدًا.

ستكون كالينينغراد إحدى نقاط الاشتعال المحتملة. تم عزل المقر الرئيس لأسطول البلطيق الروسي وهذه المدينة والأراضي المحيطة بها عن بقية روسيا عندما تفكك الاتحاد السوفياتي. منذ ذلك الحين، لم يتمكّن الروس من الوصول إلى كالينينغراد إلّا من خلال بولندا وليتوانيا. لذا من المتوقّع أن تطلب روسيا ممرًّا مباشرًا يضع أراضٍ من الدولتين تحت السيطرة الروسية. ولكن حتى هذا سيكون مُجرّد جُزء واحد مما هو أكيد في استراتيجية روسيا الجديدة لفك الارتباط بين دول البلطيق وحلف شمال الأطلسي من خلال الإثبات بأن الحلف لم يعد بإمكانه حماية تلك البلدان.

في الواقع، مع وجود بولندا والمجر وخمسة أعضاء آخرين في الناتو يتشاركون الحدود مع روسيا الجديدة المُوَسَّعة، فإن قدرة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي على الدفاع عن الجناح الشرقي للحلف سوف تتضاءل بشكلٍ خطير.

قد يفرض الوضع الجديد تعديلًا كبيرًا في معنى وهدف الحلف. كان بوتين واضحًا بشأن أهدافه: فهو يريد إعادة تأسيس مجال نفوذ روسيا التقليدي في شرق ووسط أوروبا. البعض على استعداد للتنازل عن هذا القدر، لكن من الجدير بالذكر أنه عندما كانت الإمبراطورية الروسية في أوجها، لم تكن بولندا موجودة كدولة؛ كانت دول البلطيق ممتلكاتٍ إمبراطورية. وكان جنوب شرق أوروبا متنافسًا مع النمسا وألمانيا. خلال الحقبة السوفياتية، كانت دول حلف وارسو، على الرغم من التمرّد العَرَضي، تُدارُ فعليًا من موسكو.

اليوم، يسعى بوتين على الأقل إلى إنشاء حلف شمال أطلسي من مستويين، حيث لا تنتشر قوات الحلف على أراضي حلف وارسو السابقة. ستُجرى المفاوضات الحتمية حول هذا العنصر وعناصر أخرى لـ “بنية” أمنية أوروبية جديدة مع وجود القوات الروسية على طول الحدود الشرقية للناتو، وبالتالي وسط حالة عدم يقين حقيقية بشأن قدرة الناتو على مقاومة مطالب بوتين.

علاوة على ذلك، يحدث هذا في الوقت الذي تهدد الصين بقلب التوازن الاستراتيجي في شرق آسيا، ربما بهجومٍ من نوعٍ ما ضد تايوان. من وجهة نظر استراتيجية، يمكن أن تكون تايوان إما عقبة رئيسة أمام الهيمنة الإقليمية الصينية، كما هي الآن؛ أو يمكن أن تكون الخطوة الأولى الكبيرة نحو الهيمنة العسكرية الصينية في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ، كما ستكون بعد الآستيلاء عليها، سلميًا أو غير ذلك. إذا كانت بكين قادرة بطريقة ما على إجبار التايوانيين على قبول السيادة الصينية، فإن بقية آسيا ستُصاب بالذعر وتهرع لطلب المساعدة من الولايات المتحدة.

تُذكّرنا هذه التحديات الإستراتيجية المتزامنة في مسرحَين بعيدَين بما حدث في ثلاثينات القرن الماضي، عندما سعت ألمانيا واليابان إلى قلب النظام الحالي في منطقتهما. لم يكُنا أبدًا حليفين حقيقيين، ولم يثقا في بعضهما البعض ولم يُنسّقا استراتيجياتهما بشكل مباشر. ومع ذلك، استفاد كلٌّ منهما من أفعال الآخر. شجّعت التطورات الألمانية في أوروبا اليابانيين على تحمّل مخاطر أكبر في شرق آسيا؛ أعطى تقدم اليابان لأدولف هتلر الثقة في أن الولايات المتحدة المُشَتَّتة لن تُخاطر بصراعٍ على جبهتين.

اليوم، يجب أن يكون واضحًا لشي جين بينغ أن الولايات المتحدة غارقة بشكل كامل في أوروبا. مهما كانت حساباته قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، يمكنه فقط أن يستنتج أن فرصه في النجاح في تحقيق شيء ما، سواء في تايوان أو في بحر الصين الجنوبي، قد ارتفعت. بينما يجادل البعض بأن السياسات الأميركية هي التي دفعت موسكو وبكين معًا، فإن رغبتهما المشتركة في تعطيل النظام الدولي هي التي تخلق مصلحة مشتركة.

منذ زمن بعيد، كانت الإستراتيجية الدفاعية الأميركية مبنية على إمكانية نشوب مثل هذا الصراع على جبهتين. لكن منذ أوائل التسعينات الفائتة، قامت الولايات المتحدة بتفكيك هذه القوّة تدريجًا. تم تقليص مبدَإ الحربين ثم التخلّي عنه رسميًا في إرشادات سياسة الدفاع لعام 2012. يبقى أن نرى ما إذا كان سيتم عكس هذا الاتجاه وزيادة الإنفاق الدفاعي الآن بعد أن واجهت الولايات المتحدة بالفعل أزمة ذات مسرحين. ولكن حان الوقت للبدء في تخيّل عالمٍ تسيطر فيه روسيا بشكل فعال على جزء كبير من أوروبا الشرقية، وتسيطر الصين على جزء كبير من شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ. سيتعيّن على الأميركيين وحلفائهم الديموقراطيين في أوروبا وآسيا أن يقرروا، مرة أخرى، ما إذا كان هذا العالم مقبولًا.

كلمة أخيرة عن أوكرانيا: من المرجح أن تتوقف عن الوجود ككيانٍ مستقل. لطالما أصر بوتين والروس الآخرون على أنها ليست أمة على الإطلاق، إنها جُزءٌ من روسيا. إذا وضعنا التاريخ والمشاعر جانبًا، فسيكون من الإستراتيجية السيئة لبوتين السماح لأوكرانيا بالاستمرار في الوجود كدولة بعد كل المتاعب والتكاليف المترتبة على الغزو. هذه وصفة لصراعٍ لا نهاية له. بعد تنصيب روسيا للحكومة التي تريدها، توقع أن يسعى حكام أوكرانيا الجدد الذين توجههم موسكو إلى الاندماج القانوني النهائي لأوكرانيا في روسيا، وهي عملية جارية فعليًّا في بيلاروسيا.

يتخيّل بعض المُحلّلين اليوم أن تمرّدًا أوكرانيًا ينتشر ضد الهيمنة الروسية. ربما. لكن لا يُتوَقَّع من الشعب الأوكراني خَوضَ حربٍ شاملة بكل ما لديه في منازله. للحصول على أي أمل ضد قوات الاحتلال الروسية، سوف يحتاج التمرّد إلى الإمداد والدعم من الدول المجاورة. هل ستلعب بولندا هذا الدور، مع القوات الروسية مباشرة عبر الحدود؟ هل دول البلطيق؟ أو المجر؟ وإذا فعلت ذلك، ألن يشعر الروس بأنَّ لديهم التبرير لمهاجمة طرق إمداد المتمرّدين، حتى لو كانت في أراضٍ مجاورة لدولٍ أعضاء في الناتو؟ إنه تفكيرٌ مليء بالتمنّي أن نتخيل أن هذا الصراع سيتوقف عند أوكرانيا.

لقد شهدت خريطة أوروبا العديد من التغييرات على مرّ القرون. يعكس شكلها الحالي توسّع القوة الأميركية وانهيار القوة الروسية من الثمانينات الفائتة حتى الآن. من المرجح أن تعكس المرحلة التالية إحياء القوة العسكرية الروسية وتراجع نفوذ الولايات المتحدة إلى حد ما. إذا اقترن ذلك بالمكاسب الصينية في شرق آسيا وغرب المحيط الهادئ، فسوف يُبشِّرُ الواقع بنهاية النظام الحالي وبداية حقبة من الفوضى والصراع العالميين حيث تتكيَّف كل منطقة في العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوّة.

  • روبرت كاغان هو زميل كبير في معهد بروكينغز وعضو في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي. كان مستشارًا للسياسة الخارجية لمرشحي الرئاسة الجمهوريين للولايات المتحدة وكذلك للإدارات الديموقراطية عبر مجلس السياسة الخارجية.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى