كارثة انتخابات وشيكة في لبنان

من المتوقّع أن تشهد أول انتخابات برلمانية بعد الحراك الاحتجاجي في لبنان، والمزمع إجراؤها بعد ثلاثة أشهر، مستوى استثنائيًا من الفساد والتلاعب ما لم يتم التوصّل إلى اتفاقٍ مُلزِم برعايةٍ دولية يسمح للبنانيين التصويت بحرية وأمان نسبيين.

المجلس النيابي: لن يتغيّر فيه الكثير إذا جرت الانتخابات في موعدها

نيكولاس نو*

بعد عامين ونصف من احتجاجات مديدة في الشوارع أسقطت الحكومة اللبنانية، وكشفت التدهور المالي والسياسي العميق داخلها، يستعد لبنان أخيراً لإجراء انتخابات برلمانية في 15 أيار/مايو المقبل. لكن ثمة شكوكًا مُتزايدة بشأن نيّة المؤسسة السياسية القائمة منذ فترة طويلة – وتتألف أساسًا من مسؤولين حكوميين وأحزاب سياسية قديمة ونُخَب أعمال – السماح بإجراء هذه الانتخابات؛ هناك جهات داخلية وخارجية نافذة ليست قليلة لا تزال ترى أنه من مصلحتها تأجيلها إلى أجل غير مسمى. وحتى لو أجري التصويت في موعده، فمن المرجح أن يشهد لبنان، إذا واصل مساره الحالي، واحدة من أكثر انتخاباته فوضوية وفسادًا وافتقارًا للشرعية منذ استقلاله في العام 1943. وهذا سيُرتِّب، من بين نتائج سلبية أخرى كثيرة، بقاء مؤسسة الطبقة الحاكمة، التي يُحمّلها الكثير من اللبنانيين مسؤولية التدهور السريع لبلدهم، من دون تغييرٍ ملموس باستثناء إعادة توزيع داخلي للمناصب لدى “الأخوة الأعداء”.

هناك أربعة أسباب على الأقل لهذا الوضع. أوّلًا، إن الطبقة الحاكمة في لبنان، بمساعدة وتحريض استمرّا عقودًا من مجموعة متنوعة من البلدان، قامت، على حدّ تعبير البنك الدولي، بإغراق البلاد”عمدًا” في واحدة من أسوإ ثلاث أزمات كساد اقتصادي في العصر الحديث وما زالت ترفض تنفيذ أي سياسات معقولة.  من غير المنطقي، إذًأ، افتراض أن هذه المجموعة نفسها ستسمح بطريقة ما بانتقالٍ سلمي للسلطة عبر الانتخابات أو بتخفيفٍ جاد لقبضتها الحديدية على السلطة.

يُصرِّحُ سياسيو الطبقة الحاكمة، بالطبع، أن الانتخابات، في حال إجرائها، ستتم بشكل طبيعي. والحقيقة أن معظمهم يتوقع أنها لن تُغَيِّرَ الكثير، ُرغم كل الخراب في العامين ونصف العام الماضيين. وإذا لم يكن هذا كافيًا لإظهار ما يمكن أن يحدث، علينا أن نتذكّر أن الطبقة الحاكمة، ككل تقريبًا، هي أيضًا الجهة التي أدى إهمالها وإجرامها المُوَثَّقَين جيدًا إلى واحد من أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ، والذي أسفر عن مقتل وتشويه وجرح والتسبب بأذى نفسي لعشرات الآلاف في 4 آب/أغسطس 2020. لذلك، من المنطقي تمامًا الافتراض أن “جميع الوسائل اللازمة” ستُستَخدَم لضمان استمرارية النظام السياسي القائم بعد 15 أيار/مايو. والحقيقة أن البعض في الطبقة الحاكمة في لبنان، بخاصة الذين يواجهون تهديدًا وجوديًا لحكمهم العائلي (بمن فيهم بعض الشخصيات المصنفة دوماً أنها “موالية للغرب”)، قد بدأوا فعليًا كما تشير التقارير بإحياء نهج “كسر العظم” الذي استخدموه بُعيد اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

العامل الثاني وراء الكارثة المُتوقَّعة لانتخابات وشيكة في لبنان هو اتساع نطاق الفوضى والفشل المؤسّسي طوال العامين الماضيين ما يجعل سرقة الانتخابات أمرًا سهلًا ورخيصًا نسبيًا بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة. فالكثيرُ من اللبنانيين، بِمَن فيهم الذين يؤمّنون سير الانتخابات ويُديرونها، يائسون لدرجة أن شراء الأصوات واسع النطاق الذي شهدته الانتخابات السابقة سيبدو بسيطًا عند المقارنة. ولأن غالبية مراكز الاقتراع لا تستطيع أيضًا تأمين الكهرباء والإنترنت باستمرار، فمن المحتمل أن يجري التصويت وعدّ الأصوات في الظلام – وكل هذا يعني أن لبنان، لأول مرة، قد يواجه التلاعب بنتائج الانتخابات ذاتها. وفي حين شهدت جميع الانتخابات منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1990 بعض التقارير والشكاوى عن تزوير بطاقات الاقتراع أو إلغاء الأصوات، فإن الأمرَ لم يتعدَّ أبدًا حدود الأقضية المعنية. أما 15 أيار/مايو المقبل، فقد يتمخّض عن كابوس وطني.

وحالات المُقاطعة – بما فيها مقاطعة البعض من الطبقة الحاكمة مثل الزعيم السنّي رئيس الوزراء السابق سعد الحريري – تؤدّي هي الأخرى إلى زيادة تقويض الشرعية الطائفية والشرعية الوطنية للانتخابات. وها قد رأينا عددًا من الشخصيات المُناهضة للطبقة الحاكمة ترفض الانتخابات، لاعتقادهم أنه لا سبيل لتحقيق أيّ تقدّم عبر صناديق الاقتراع. والمُقلق في الأمر أن هذه الأقلية قد تتحوّل بسرعة إلى أغلبية في الأسابيع المقبلة، حيث يدرك عددٌ متزايد باستمرار من قادة المعارضة أن قناعاتهم المُعلَنة بشأن شناعة الطبقة الحاكمة لا تتماشى مع إجراء سباقٍ انتخابي حرٍّ ونزيه.

ولكن القوى الخارجية هي التي ربما تكون أطلقت الرصاصة القاتلة على رأس الانتخابات اللبنانية – وبخاصة الدول الغربية التي تصرّفت كمُشَجِّعٍ صاخب للديموقراطية وأصرّت على أن الانتخابات يجب أن تُعقَد حتمًا في موعدها.  ورُغم عقود من التقارير والتوصيات المُحدَّدة حول الطرق العديدة التي يتعيَّن من خلالها تحسين الأنظمة الانتخابية في البلاد، لم يُستخدَم سوى القليل من رأس المال السياسي لمنع زوال هذه المؤسسة الوطنية الحيوية. ومن الأمثلة الكثيرة على ذلك أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لا يزالان يرفضان بعناد تقديم أيّ أموال أو دعم جوهري للهيئة المكلفة بالإشراف المستقل على الانتخابات، ولكن الطبقة الحاكمة تفضل إبقاءها قليلة التمويل وضعيفة (الموازنة المقترحة لانتخابات 2022 هي 18 مليون دولار فقط، أي أقل بكثير من الأموال التي صرفت على انتخابات 2018 الأقل إثارة للجدل وبلغت  54 مليون دولار).

ليس من المستغرب إذًا أن يتنامى شعورٌ سائد بين اللبنانيين في جميع المجالات بأن الدول الغربية قد ترغب في رؤية بعض التغييرات الداخلية المحدودة في الطبقة الحاكمة لصالحها – لا سيما تلك التي تضر بالمسبب الرئيس لقلقهم، أي “حزب الله” – لكنها عموماً ترتاح أكثر للتعامل وفق قاعدة “الشياطين الذين نعرفهم” وعملنا معهم أو ضدهم طوال عقود.

في كلتا الحالتين، ستؤدي سرقة الانتخابات بالتأكيد إلى زعزعة الاستقرار، داخل لبنان وخارجه على السواء، وتترك عواقب طويلة الأمد ومُدمّرة. ومع تعرض اللبنانيين لسرقة صناديق الاقتراع، بوصفها وسيلة للتعبير السلمي عن الغضب المُتصاعد وعن الحاجة الملحة إلى تغيير النظام، من الصعب ألّا نرى، في مرحلة ما، اندلاع العنف المستمر وذي الجذور السياسية، خصوصًا وأن الجيش اللبناني اليوم ضعيفٌ لدرجة أنه يعتمد في بقائه على التبرعات الخارجية. ومن المرجح، على أقل تقدير، أن تتعثّر الانتخابات البلدية والرئاسية التي يُنتظر إجراؤهما في الأشهر التالية للانتخابات البرلمانية، وكذلك تشكيل حكومة جديدة، ما قد يؤدي إلى تفاقم الفراغ السياسي على مستوياتٍ متعددة.

ولحسن الحظ، لا تزال هناك فرصة محدودة لوقف هذا المسار. بيد أن الخطوة الأولى يجب أن تأتي من اللبنانيين الذين يقولون إنهم يريدون التغيير. فالأفراد والأحزاب والحركات المعادية للطبقة الحاكمة تعاني اليوم من الشرذمة؛ وعليها أن تتحد، على الأقل في المطالبة بأن تنفذ الحكومة الحالية على الفور بضعة إصلاحات صغيرة ولكنها حاسمة لضمان انتخابات حرة ونزيهة.

أوّلًا وقبل كل شيء، يجب أن تدعو هذه المطالب إلى تشكيل هيئة إشراف قوية ومُمَوَّلة جيدًا لمراقبة الحملات وممارسات التخويف المحتملة، فضلًا عن فرز الأصوات طبعًا. ولضمان عدم قدرة الأحزاب السياسية على تتبع الناخبين، يجب أيضًا تبنّي مجموعة من الآليات الإدارية المعروفة جيدًا، كالحد من عدد الصناديق في جميع مراكز الاقتراع (بحيث يصعب على الأحزاب معرفة كيف ولمن يُصوّت الناخبون) وإنشاء “مراكز عديدة” لتمكين الناس من التصويت في مكان قريب من سكنهم، بدلًا من الذهاب إلى القرى البعيدة التي تنتمي إليها عائلاتهم.

مع ذلك، ولعدم وجود سلطة قوية تُحقّقُ مثل هذه الإصلاحات، باستثناء التهديد ربما بمقاطعة محلية أوسع نطاقًا، فإن الأمر متروكٌ حتمًا للدول الغربية – وليس للأطراف الفاعلة المحلية – لمحاولة إبرام صفقة دولية قد تُنقذ الانتخابات التي يريدون بشدة أن تنعقد. ولهذه الغاية، يجب أن يكون التوصل إلى هدنة مُتبادَلة محور جهود الغرب، وأن تعالج مخاوف الطبقة الحاكمة، ومخاوف بعض الحلفاء الغربيين التقليديين في لبنان، من تعطيل أميركي وأوروبي وسعودي للانتخابات لصالح المنافسين ظاهريًا (والعديد منهم جاء فعلياً من داخل دوائر الحكم. وهكذا، على سبيل المثال، وعوضًا عن التنفيذ السريع للإصلاحات الإدارية التي طال انتظارها والتي من شأنها تحسين سير الانتخابات بشكل كبير، تستطيع أميركا وأوروبا والسعودية أن تلتزم بكبح تدخلاتها في الوقت الحالي وتحويل تركيزها من التدخّل في السياسات الانتخابية إلى دعم ومراقبة إجراء الانتخابات ونزاهتها.

بالطبع، حتى لو أُبرِمَت مثل هذه الصفقة، فإنها بالتأكيد لن تضع حدًّا للتدخّل الخارجي أو لتاريخ طويل من التجاوزات التي شابت صناديق الاقتراع اللبنانية لعقود، وقد تسفر في نهاية المطاف عن تغيير متواضع فقط في النظام القديم. لكن هذا التغيير، مُتجسّدًا في نوابٍ جُدد يحظون بدعم شعبي أصيل وحقيقي، سيمنح على الأقل فرصة لائقة لإرساء التغيير وبدء عملية إصلاح الديموقراطية التي تضرّرت بشدّة في البلاد.

  • نيكولاس نو هو رئيس مؤسسة “تبادل” (Exchange) ورئيس تحرير خدمة الترجمة الإخبارية Mideastwire.com مقرّها بيروت.  يمكن متابعته عبر تويتر على@NoeNicholas.. الآراء الواردة في المقال هي آراء كاتبه الخاصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى