الحصار في سوريا: التربّح من البؤس والعذاب
شهدت خمس سنوات من المعارك الطاحنة في سوريا ظهور إقتصاد حرب يزيد الحوافز لإطالة أمد الصراع، بالإضافة إلى بعض الممارسات العسكرية التي تقدم مكافأة مالية مُجزية. واحدة من هذه الممارسات هي فرض حصار. وهذا الحصار لم يعد مجرد تكتيك عسكري لإخضاع المعارضين، فقد أصبح أيضاً مشروعاً مربحاً، يشمل شبكة معقدة من رجال الأعمال والتجار والجهات المسلحة، كل واحد منهم يستفيد على حساب المدنيين المحاصرين. هذا التقرير الذي كتبه الباحث ويل تودمان يكشف عن التفاصيل المعقدة لإقتصاد الحصار، والتحديات التي تواجه مقدمو الإغاثة الإنسانية الذين يضطرون للتعامل مع شركات الحصار غير المشروعة من أجل منع المجاعة على نطاق واسع في صفوف المدنيين المُحاصَرين.
دمشق – ويل تودمان*
في 9 حزيران (يونيو) 2016، دخلت قافلة مساعدات غذائية مُشتركة من الأمم المتحدة والهلال الأحمر العربي السوري إلى إحدى ضواحي دمشق المُحاصَرة، “داريا”، للمرة الأولى منذ تشرين الثاني (نوفمبر)2012. ومع ذلك، بعد ساعات قصفت الحكومة السورية الضاحية ب28 برميلاً متفجراً، ومنعت الفصائل المحلية من تقديم المساعدة.
في حين أنها تعاني من بعض أسوأ الظروف في كل بلاد الشام، فإن داريا هي مجرد واحدة من عدد من المناطق المأهولة بالسكان التي تعيش تحت الحصار في سوريا. في أيار (مايو) 2016، قدّرت الأمم المتحدة أن 592,700 شخص يعيشون في مناطق مُحاصَرة في سوريا، غالبيتها تفرضها الحكومة السورية. كما تفيد المعلومات بأنه من أصل المجموع، هناك 462,700 (78.1 في المئة) يحاصرهم النظام في مواقع مختلفة في ريف دمشق، وحي الوعر في حمص، ومخيم اليرموك؛ وهناك 110,000 (18.6 في المئة) يحاصرهم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في مدينة دير الزور؛ و20,000 (3.4 في المئة) تحاصرهم جماعات المعارضة المسلحة في فوعة وكفريا.
لقد ظهرت حرب الحُصُر (جمع حصار) في سوريا كتكتيك وحشي لمكافحة التمرد الذي إستخدمه النظام في بداية الإنتفاضة عندما فشل في تحديد مكان المتمردين في المناطق الحضرية.
بإغلاق مناطق بأكملها ومنع دخول البضائع وحركة الناس، فإن الحُصُر تهدف إلى إجبار السكان الهائجين والمتمردين على الإستسلام. كان لتكتيكات الحصار عدد من الفوائد، وأثبت أنه تكتيك دفاعي فعّال يقطع مناطق المعارضة التي لديها القدرة على الانتشار إلى معاقل رئيسية للنظام. على سبيل المثال، إن محاصرة المناطق التي يسيطر عليها المتمردون في ضواحي دمشق منعت إنتشار القتال إلى وسط المدينة. وكان الحصار أيضا تكتيكاً عسكرياً فعالاً فيما الجيش السوري أصبح على نحو متزايد منتشراً فوق طاقته، لأنه يتطلب عدداً من القوى العاملة أقل من العدد الذي يتطلبه الهجوم البري الكامل. ومع ذلك، في حين أن حصار شرق الغوطة قد حقق هدفه الدفاعي لمنع أي هجوم كبير للمتمرّدين على مدينة دمشق من المنطقة، إلا أنه فشل حتى الآن في إجبار السكان المُحاصَرين على الإستسلام. في الواقع، في معظم المناطق المُحاصَرة تنتشر حالات شائعة من الرشوة والتهريب، وغالباً ما تقوم بها القوى ذاتها التي تحاصر المنطقة. إن إنتشار هذه الممارسات غير المشروعة يعني أن الحوافز الإقتصادية هي الآن واحدة من الأسباب الرئيسية للحصار في سوريا، لأنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من إقتصاد الحرب في البلاد.
إقتصاد الحرب في سوريا
أدت الحرب السورية إلى تدمير البنية التحتية، وإنخفاض كبير في الناتج الإقتصادي، وهبوط حاد في الإستثمار. ويقدر “المركز السوري لبحوث السياسات” إجمالي الخسائر المتراكمة للإقتصاد السوري بحلول نهاية العام 2015 بأكثر من 254 مليار دولار. وبلغ إنخفاض قيمة الليرة السورية إلى مستويات قياسية جديدة في أيار (مايو) 2016، عندما أصدر البنك المركزي السوري سعر الصرف الرسمي لليرة مقابل الدولار حيث أن كل 620 ليرة سورية صارت تساوي 1.4 دولار أميركي. وعلى الرغم من هذا الدمار الإقتصادي، فإن الرئيس السوري بشار الأسد قد أنفق موارد كبيرة لضمان أن الخدمات لا تزال تُقدّم في المناطق الخاضعة لسيطرته – وهذا عنصر أساسي في إستراتيجيته لإضفاء الشرعية على نظامه.
مع ذلك، إن شنّ حربٍ هو مسعى مُكلف يصل إلى أدنى مستوى في النظام. لم يكن على النظام شراء الأسلحة والمعدات العسكرية والذخيرة فقط، ولكن كان عليه أيضاً الدفع، والغذاء، وعلاج ونقل القوات، وإصلاح الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية. ومن أجل تحقيق هذا الأمر، فقد خفّض الإنفاق الحكومي، ووفّر حلفاء خارجيون المساعدة الاقتصادية، وتم التخلي عن مشاريع إستثمارية جديدة، وإضطر النظام إلى الاعتماد بشكل أكبر على نخبة رجال الأعمال، الذين ترتبط مصالحهم مع بقاء النظام. وكان هناك مصدر مهم آخر للدخل يتمثّل بالسماح بانتشار الفساد والأنشطة الشائنة الأخرى، بما في ذلك السرقة وخطف المدنيين والمطالبة بفدية لإعادتهم إلى ذويهم. والحقيقة أن كلاً من الجيش والميليشيات الموالية للحكومة السورية يتمتع بتاريخ من الإستفادة من الممارسات الإقتصادية غير المشروعة، مثل تهريب المخدرات من لبنان، وهذه الممارسة كانت جارية منذ سبعينات القرن الفائت.
ومن المعروف أن ضباطاً من الحكومة السورية كانوا يتقاسمون عائدات الميليشيات ويقبلون الرشاوى. وقد إستمرت هذه الممارسات وتكثفت خلال النزاع الحالي. واحدة من أكثر الوسائل المربحة التي إستفادت منها الميليشيات الموالية للحكومة وضباط الجيش إقتصادياً منذ بداية الإنتفاضة كانت سيطرتهم على نقاط التفتيش في سوريا. في بعض الأحيان، سمح النظام للميليشيات الموالية له الإستفادة مالياً من الصراع في مقابل دعم الجيش السوري في العمليات العسكرية الرئيسية. في العام 2015، أطلق النظام العنان للميليشيات في مناطق حلب، وأقام رجالها نقاط تفتيش وأخذوا رسوماً من المدنيين من أجل تمريرهم.
ولأن الحصار تفرضه قوات مسلحة وتقيم نقاط تفتيش لتنفيذه على المداخل الإستراتيجية المؤدية إلى المنطقة المُحاصَرة، فإن هذه النقاط توفّر فرصاً واسعة للعديد من الممارسات الإقتصادية غير المشروعة. إن الحالات التي تسمح بها الجماعات المسلحة بدخول البضائع إلى المناطق المُحاصَرة في مقابل رشاوى هي الأكثر شيوعاً في حصار المناطق الريفية، مثل المناطق الريفية المحيطة بدمشق. هنا، في كثير من الأحيان تدخل الأراضي الزراعية في محيط الحصار، لذا فإن لدى السكان القدرة على إنتاج كمية محدودة فقط من غذائهم. ومع ذلك، فإن تكتيك محاولة تجويع السكان المحاصرين للإستسلام لم تفلح كثيراً، وهذا يساعد على تفسير إنتشار الرشوة. وكما قال أحد سكان المدينة المحاصرة دوما في ريف دمشق: “الفساد فقط يمكن أن يفسّر لماذا دام الحصار الذي عانينا منه طويلاً”.
مع ذلك، يعترف النظام بأهمية حرمان المناطق المُحاصَرة من القدرة على توفير الغذاء من خلال الإكتفاء الذاتي، وبالتالي إجبار السكان المُحاصَرين على الإعتماد على التجار. وكان هذا واضحاً في الشهر الماضي، مع إستيلاء النظام على الجزء الجنوبي من شرق الغوطة، بما في ذلك 10,000 فدان من حقول القمح و 100,000 شجرة فاكهة، التي سوف تؤثر تأثيراً كبيراً في كمية المواد الغذائية التي يمكن زراعتها داخل المنطقة المُحاصَرة، والنتيجة المُحتمَلة في تحفيز إرتفاع أسعار الغذاء. إن الجنود عند نقاط التفتيش يستغلون وضعهم قدر الإمكان نظراً إلى طبيعة إنتشارهم حيث لا يعلم عناصر الجيش السوري ولا أعضاء الميليشيات الموالية للحكومة إلى متى سيبقون على نقاط التفتيش. ومع عدم قدرة النظام على دفع أجورهم بالكامل بسبب القيود الإقتصادية المتزايدة، فإن أولئك الذين نُشِروا على نقاط التفتيش لديهم الحافز لإستخراج المال قدر الإمكان قبل أن يتم نقلهم إلى موقع آخر، والذي قد تكون فيه فرص محدودة لكسب المال، هذا إذا وُجدت.
إن العملية هي نصف منظمة؛ فيما يُسمح للجنود بالحفاظ على جزء معيّن من الإيرادات التي يولّدونها ويحصلون عليها، فإن البقية تذهب إلى خزائن النظام. خلال ربيع 2014، أخذ جنود من الحرس الرئاسي والمخابرات الجوية دولارين عن كل كيلوغرام من المواد الغذائية التي سُمح بدخولها إلى شرق الغوطة من نقطة تفتيش الوافدين، والتي أصبحت لاحقاً تُعرف بإسم “معبر المليون” إذ كان يعتقد الجنود أن بإستطاعتهم الحصول على مليون ليرة سورية ( حوالي 5,000 دولار) في الساعة من الرشاوى. ومن النادر أن يدفع المدنيون للقوات المسلحة عند نقاط التفتيش مباشرة لتمرير السلع، ولكن بدلاً من ذلك، هناك وسطاء معروفون باسم ‘التجار” يقومون بعملية المبادلة. وهؤلاء التجار هم عادة من رجال الأعمال الذين عاشوا او عملوا في المنطقة المُحاصَرة قبل الصراع، وبالتالي لديهم إتصالات محلية. معظم رجال الأعمال الذين لا يزالون في سوريا لهم علاقات مع النظام – صفة حيوية لهم ليكونوا قادرين على العمل. ذلك أن التجار يتفاوضون مع النظام للحصول على إذن لشراء السلع من رجال الأعمال خارج المنطقة المُحاصَرة، والتنسيق معهم لتسليم البضاعة إلى نقطة التفتيش.
لمحة عن تاجر
رجل الأعمال الثري أبو أيمن المنفوش (في الأربعينات) الآتي من المدينة المحاصرة مسرابا، هو التاجر الأبرز في شرق الغوطة. فقد إستخدم علاقاته الشخصية مع النظام السوري، ويشاع مع مكتب بشار الأسد، للحصول على إذن لإستيراد الغذاء والوقود إلى المنطقة المُحاصَرة شرق الغوطة، وتصدير منتجات الألبان والمواد الكهربائية من المنطقة إلى دمشق. على الرغم من أنه لم يُبرَم أي وقف لإطلاق النار بعد، فإن منطقته المحلية مسرابا لم تشهد الغالبية العظمى من هجمات النظام، على ما يبدو كان ذلك جزءاً من الترتيب. ويستفيد النظام من خلال أخذ جزء من أرباحه، وأولئك الموجودون داخل المنطقة المُحاصَرة يستفيدون من عملية التوظيف التي يقوم بها وتشمل أكثر من 1000 عامل، ويدفع رواتب بعض الموظفين البيروقراطيين المحليين، ويوفر درجة من الأمن لأولئك الذين يعيشون بالقرب من مصنعه. وقدّر أحد سكان شرق الغوطة أنه قبل أن تصبح الأنفاق في الإستخدام المنتظم، فقد حقق أرباحاً يومية بلغت 10 آلاف دولار على الأقل.
يستطيع رجال الأعمال شراء عقود من أعلى المستويات في النظام من أجل أن يحصلوا على إحتكار فعلي لتوريد سلعة معينة إلى الجماعات العاملة هناك والرسوم أو السلع التي يجب أن تُدفع للتاجر للتمرير بين نقاط التفتيش. وعندما تصبح هذه السلع داخل المنطقة المُحاصَرة، فإن التجار في كثير من الأحيان يخزنونها ويكدسونها ويطلقون سراحها بشكل إستراتيجي لتعظيم أرباحها. وبعد أن يدفعوا نفقات إستيراد السلع، فإن التجار يرفعون الأسعار بنسبة تصل إلى 70 في المئة، وهذا يعني تحقيق ربح يصل إلى 40 في المئة من التكلفة النهائية للسلع. ونتيجة لهذه العملية، إلى جانب إرتفاع الطلب الناجم عن نقص عام في توافرها، يصل إرتفاع أسعار السلع الأساسية إلى مستويات باهظة. إن الأسعار تتذبذب بإستمرار، وفقاً للطلب وقدرة السكان المُحاصَرين على شرائها. ويبيّن الجدول التالي مقارنة لأسعار ذُكِرت للسلع الاساسية في دمشق ومنطقة شرق الغوطة المُحاصَرة عندما كانت في ذروتها خلال شتاء 2013- 2014.
النوع مدينة دمشق منطقة الغوطة المُحاصرة
سكر (1 كلغ) 0.66 دولار 19 دولاراً
الرز (1 كلغ) 0.67 دولار 21 دولاراً
الخبز (1.5 كلغ) 0.16 دولار 11 دولاراً
عندما إفتتح نفق للسلع الغذائية من منطقة شرق الغوطة التي تسيطر عليها جماعات المعارضة المسلحة في صيف 2015، إنخفضت أسعار السلع الغذائية الأساسية المُقدَّمة من التجار بشكل كبير. لقد تجاوز هذا النفق نقاط تفتيش النظام، مؤدياً إلى مكان مخفي في الأراضي التي يسيطر عليها النظام. على هذا النحو، كان التجار خارج الحصار الذين كانوا متحالفين مع جماعات المعارضة المُحاصَرة قادرين على إرسال الأسلحة والبضائع إلى المقاتلين المُحاصَرين. ونظراً إلى المستويات العالية جداً للبطالة والفقر في المناطق المُحاصَرة، فقد كان المدنيون قادرين على دفع تكاليف هذه السلع فقط نتيجة لتحويل الأموال من أقارب أو أصدقاء يعيشون خارج المنطقة المُحاصَرة، أو بسبب المساعدة من المنظمات الإنسانية.
هناك عدد مختلف من الجهات التي تستفيد مالياً من وجود الحصار؛ كما أن هناك ثلاثة طرق رئيسية التي تدخل بواسطتها البضائع إلى المنطقة المُحاصَرة:
1- التجار المتحالفون مع النظام: تجار، مثل أبو أيمن المنفوش، يوفرون للنظام أجزاء من أرباحهم في مقابل السماح لهم بإستيراد البضائع إلى المنطقة المُحاصَرة. وهم ينسقون مع رجال الأعمال من خارج منطقة الحصار لتصدير السلع، والتي عندها يتم نقلها عبر نقاط التفتيش التابعة للنظام. وتعاقد المنظمات غير الحكومية أحياناً مع هؤلاء التجار لإيصال المساعدات إلى المناطق المُحاصَرة. يجب أن يكون لدى التجار أيضاً علاقات مع مسؤولين من الجماعات المسلحة داخل المنطقة المحاصرة، إذ أن المتمردين المسلحين يأخذون رسوماً من التجار من أجل تسهيل العملية إلى المنطقة المحاصرة.
2 – التجار المتحالفون مع الجماعات المُسلّحة (عبر الأنفاق): بعد بناء الأنفاق التي تربط شرق الغوطة مع المنطقتين اللتين يسيطر عليهما المتمردون القابون وبرزة اللتين وافقتا على هدنة مع النظام، فإن السلع يمكن تهريبها بسهولة أكبر إلى المنطقة المحاصرة. وعلى الرغم من التحايل على نقاط التفتيش التابعة للنظام فإن جماعات المعارضة المسلحة التي تسيطر على الأنفاق تأخذ جزءاً من أرباح التجار من إستيراد السلع إلى شرق الغوطة.
3- القوافل التابعة للامم المتحدة: قوافل الأمم المتحدة هي السبيل الأكثر فعالية للحد من التربّح. لا يتم الحصول على البضائع من خلال التجار أنفسهم المنحازين للنظام، ولا يتم أخذ الرشاوى عند نقاط التفتيش. مع ذلك، فإن بعض السلع التي يعتقد النظام أنه يمكن للجماعات المسلحة المعارضة أن تستخدمها لصالحها يتم إزالتها. وقال أحد السكان المُحاصَرين في حي الوعر في حمص، أن حفاضات قد أزيلت دائماً من شحنات المساعدات بحجة أنها يمكن أن تُستخدم ضمادات للمقاتلين المصابين. إن إزالة عناصر أخرى يساعد على ضمان حفاظ التجار المُفضّلين على إحتكارهم لبعض السلع.
وهذه القوافل هي نادرة. في أيار (مايو) 2016، أذنت الحكومة السورية للأمم المتحدة بتقديم المساعدة إلى 24.7 في المئة من المستفيدين المخطط لهم بالكامل وإلى 33.8 في المئة مع شروط. ولم تتم الموافقة على طلبات المساعدة على التسليم إلى 41.5 في المئة من المستفيدين المخطط لهم.
يتحكم التجار أيضاً في تدفق البضائع من المناطق المُحاصَرة. على الرغم من أن البضائع تميل إلى الإستنفاد على نحو خطير في المناطق المحاصرة، فإن المزارعين في بعض الأحيان يبيعون المنتجات الزراعية إلى التجار لتصديرها خارج الحصار، ويبيع المدنيون أيضاً أدوات شخصية للتجار. ونظراً إلى عدم وجود الكهرباء في المناطق المُحاصَرة، فإن الناس في الداخل ليست لديهم وسيلة لإستخدام السلع الكهربائية، لذا يشتريها التجار ويقومون ببيعها في الخارج. في كل نقطة تفتيش يمرون عليها، يجب على التجار دفع رسوم للجماعات المُسلّحة للعبور مع هذه السلع. وبالتالي، إن تصدير البضائع من المناطق المُحاصَرة هو وسيلة أخرى التي يستفيد منها التجار والمتمردون مالياً على حد سواء.
المقاتلون من كلا الجانبين يربحون من الحصار
أفاد عدد من سكان المناطق المُحاصَرة أن قوات النظام والمعارضة على حد سواء إستفادت من وجود الحصار. إلى أي مدى إستغلت الجماعات المسلحة في الداخل الوضع لتحقيق مكاسب مالية أو مادية يختلف إختلافاً كبيراً. مع ذلك، أعرب سكان مُحاصَرون إستياء واسع النطاق من الجماعات المتمردة لتخزين الإمدادات وتكديسها بدل توزيعها، وتحويل المساعدات الإنسانية، والإستفادة من التهريب. إن أعمال الشغب والإحتجاجات ضد المتمردين في المناطق المُحاصَرة شائعة. والجماعات المتمردة المسلحة ليست وحدها مُتّهمة بتكديس الإمدادات المحدودة. في شرق الغوطة، قام مدنيون بأعمال شغب ضد مستشفى في العام 2015، متهمين إياها بتخزين الوقود. ويبدو أن جماعات المجتمع المدني ليست قادرة على كبح الجهات الفاعلة المسلحة من إستغلال ظروف الحصار، وتناضل من أجل تحدي علاقات هذه الجهات مع التجار. إلى جانب تهريب وتجارة السلع، تقف جهات مسلحة على كلا الجانبين في كثير من الأحيان حيث تطلب مبالغ كبيرة من المال لتسهيل مغادرة المدنيين للمنطقة المُحاصَرة. هذه الممارسة إما تنطوي على مرور المدنيين من خلال نقاط التفتيش والمطار المُحاصَر (في حالة دير الزور)، أو على الأنفاق التي يسيطر عليها المتمردون المسلحون داخل المناطق المُحاصَرة. إن مدينة دير الزور في شرق سوريا يسيطر عليها النظام السوري ويحاصرها تنظيم “داعش”. ومع ذلك، فإن القوات الحكومية تضع الكثير من القيود على تدفق البضائع وحركة الناس الأمر الذي يجعل السكان المدنيين على نحو فعال تحت حصارين من النظام ومن “الدولة الإسلامية”.
وقد أكد سكان سابقون في المدينة أنهم دفعوا إلى النظام بين 150,000 و300,000 ليرة سورية (بين 625 دولاراً- و1360 دولاراً) للحصول على مقاعد على متن الطائرات العسكرية للهروب من الحصار، الأمر الذي جعل تلك العملية مصدراً مربحاً للدخل بالنسبة إلى النظام. في شرق الغوطة إحتج سكان دوما أيضاً على سيطرة المتمردين على الأنفاق في مناسبات متعددة. في العام 2015، وضعت الجماعات المسلحة داخل المنطقة المُحاصَرة نظاماً شبه رسمي لإستخدام نفق من شرق الغوطة، مع عملية تطبيق رسمية لازمة لمرور المدنيين خارج المنطقة المُحاصَرة. وأعرب أحد سكان شرق الغوطة عن غضبه من جماعات المعارضة المسلحة قائلاً: “لا يوجد حصار، هذا كذب. كيف يمكن أن يكون هناك حصار عندما يستطيع قائد “جيش الإسلام” الدخول والخروج من الغوطة مرات عدة هذا العام ويظهر في تركيا والمملكة العربية السعودية، أو عندما يغادر 1000 من مقاتليه الغوطة في الشهر الماضي للذهاب لمحاربة “داعش” في القلمون؟ […] هناك ترتيبات في المكان لمص أفضل ما في هذه المنطقة، والسماح لبعض الجهات بالإستفادة، فيما يعاني المدنيون”.
ومع ذلك، من المهم أن ندرك أن هذه الممارسات لا تحدث في كل الحُصُر (جمع حصار). في العام 2014 في أثناء حصار اليرموك، على سبيل المثال، كان التهريب ممنوعاً ومقيّداً بشدة وهناك القليل من الأدلة على إستفادة جهات مسلحة مالياً من الحصار. وبالمثل، سيطرت قوات “حزب الله” على نقاط التفتيش المحيطة ببلدة مضايا، شمال دمشق، في أواخر العام 2015، وشنت حملة على شبكات الفساد والتهريب التي كانت تسمح بها القوات الحكومية السورية. على هذا النحو، إشتد الحصار وتدهور الوضع الإنساني تدهوراً سريعاً. وذكرت منظمة أطباء بلا حدود أن 16 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم بسبب سوء التغذية في شتاء 2015- 2016 نتيجة لذلك.
المساعدات الإنسانية وإقتصاد الحرب
أظهر الوضع في مضايا الأثر المدمّر وماذا يحدث عندما لا تصل المساعدات الإنسانية إلى السكان المُحاصَرين. كان للمعونة دور فعّال في منع سقوط المزيد من الضحايا المدنيين في المناطق المُحاصَرة، ولكن نظراً إلى قبضة الجهات الفاعلة المسلحة على دخول البضائع، فلا مناص من أن تتفاعل مع إقتصاد الحرب. حتى بعد تحسن الوصول إلى المناطق المُحاصَرة الذي جاء كجزء من المفاوضات المحيطة بوقف الأعمال القتالية أخيراً، فقد إستطاعت مساعدات الأمم المتحدة الغذائية من الوصول إلى أقل من ربع سكان سوريا المُحاصَرين في آذار (مارس) الفائت. ومع ذلك، توفّر العديد من المنظمات غير الحكومية المساعدة إلى المناطق المُحاصَرة في سوريا. وبسبب المخاطر التشغيلية من وقوع البيانات في أيدي أطراف النزاع التي ترغب في السيطرة على تسليم المساعدات إلى المناطق المُحاصَرة، فإن أرقام المساعدات المُقدَّمة من خلال آليات غير رسمية، مثل المنظمات المحلية والمنظمات غير الحكومية الدولية العاملة سراً، لا يتم جمعها. إن الجانب الأخلاقي لتقديم المساعدات التي تتفاعل مع إقتصاد الحرب ويستفيد منها بعض الجهات المسلحة معقد بشكل كبير. من طريق تخزين الأسواق المحلية فإن المساعدات قد تُشعل ممارسات إقتصادية غير مشروعة موجودة مسبقاً مثل النهب والتحويل. كما ذكرنا سابقاً، إن العديد من المنظمات غير الحكومية توصل المساعدات إلى المناطق المُحاصَرة من خلال إقامة علاقات مع التجار الذين يتماشون مع مختلف الجماعات المسلحة، إما لعبور السلع من خلال نقاط التفتيش، أو تهريبها عبر الأنفاق. وقدّر مزوّد إنساني أن ما يصل إلى 90 في المئة من المساعدات الى شرق الغوطة يتم تحويلها من قبل أولئك الذين يحققون أرباحاً من الصراع.
ماذا يمكن العمل؟
فيما باتت الممارسات غير المشروعة التي تشكل إقتصاد الحرب في المناطق المُحاصَرة راسخة، فإن أولئك الذين يستفيدون منها قد صاروا أكثر قوة، وشدّدوا قبضتهم. لتقويض ممارساتهم الإستغلالية بشكل أكثر فعالية، فإن تحوّلاً جوهرياً في توفير المساعدات صار ضرورياً. أحد هذه التحوّلات يمكن أن يكون التوسع في الإنزال الجوي على المناطق المحاصرة، والذي يدرسه المجتمع الدولي حالياً بجدية أكبر. الواقع أن الإنزال الجوي يمكنه تجاوز العديد من مراحل إقتصاد الحرب المذكورة أعلاه، وسوف يساعد على تخفيض أسعار السوق في المناطق المُحاصَرة. ومع ذلك، فقد حذّر ستيفان دي ميستورا، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، من أن الإنزال الجوي كان “الملاذ الأخير”، لأنه الوسيلة “الأغلى والأكثر تعقيداً والأكثر خطورة” لتوصيل المساعدات إلى المناطق المحاصرة.
حتى الآن، حاولت الأمم المتحدة فقط إسقاط المساعدات إلى مدينة دير الزور. المحاولة الأولى، في شباط (فبراير) 2016، كانت محفوفة بالصعوبات. من أصل 21 منصة من الغذاء تم إنزالها من قبل برنامج الغذاء العالمي، فقد سقط سبع منها في أراض لا يسيطر عليها أحد، وتضررت أربعٌ منها، وبقيت عشرٌ في عداد المفقودة.
وعلى الرغم من أن المحاولات الأخيرة كانت أكثر نجاحاً، فإن سكان دير الزور يشكون بأنهم يرون القليل من المساعدات من الإنزال الجوي. إن جنود النظام في كثير من الأحيان يسطون على المنصات ومن ثم يوزعونها على أسرهم ومؤيديهم، قبل بيع البقية بأسعار باهظة في أسواق المدينة.
على هذا النحو، فإن الإنزال الجوي ليس بمنأى عن الإنحراف والتربّح، كما هو الحال مع غيره من أساليب إيصال المساعدات إلى المناطق المُحاصَرة. بالنسبة إليه لكي يكون ناجحاً، يجب أن يجري تنسيق دقيق بين الامم المتحدة والجماعات المدنية المحلية داخل المناطق المُحاصَرة، للتأكد من أن المساعدات لن تستولي عليها الجماعات المسلحة. ونوع المساعدة الذي يتم تسليمه ينبغي أيضاً أن يكون مصمماً بطريقة تعزز الإعتماد على الذات والإستدامة في المناطق المحاصرة. إذا إعتبر الإنزال الجوي على نطاق واسع، فإنه يجب على المقدمين الإنسانيين إغتنام هذه الفرصة لتقديم أنواع المساعدات التي كثيراً ما يتم إزالتها من القوافل البرية. يجب أن تستكمل الأدوية والمعدات الطبية مع البذور والأدوات الزراعية لتعزيز الإنتاج الغذائي على المستوى المحلي. كما أن أشكالاً رخيصة من توليد الطاقة المتجددة سوف يساعد أيضاً على تقويض الإحتكار الذي يتمتع به بعض التجار في توفير الوقود.
وقد وافقت مجموعة دعم سوريا الدولية، بما في ذلك روسيا، في أيار (مايو) 2016 على أنه إذا مُنعت الأمم المتحدة من الوصول إلى أيّ من المناطق المُحاصَرة في سوريا بحلول الأول من حزيران (يونيو)، فإن على برنامج الغذاء العالمي عندها المضي قدماً في برنامج الجسور الجوية والإنزال الجوي لإيصال المساعدات الإنسانية.
على الرغم من أنه كان تطوراً حاسماً أن جميع الأطراف في مجموعة دعم سوريا الدولية تعهدوا بدعم مثل هذه الخطوة، فقد مرت المهلة، حتى كتابة هذا التقرير، من دون تنفيذ. سيكون من الصعب للغاية تنفيذ الخطة في ريف دمشق، على الرغم من دعم روسيا.
من ناحية أخرى على الولايات المتحدة، في مفاوضاتها الجارية مع روسيا لإعادة إطلاق عملية السلام السورية وكذلك مناقشاتها المباشرة مع الإيرانيين، الضغط من أجل المزيد من وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المُحاصَرة كشرط لإستئناف المفاوضات.
إن الفوز بالدعم الروسي والإيراني لزيادة وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المُحاصَرة أمر بالغ الأهمية للحصول على تعاون من الحكومة السورية. في المقابل، يمكن للولايات المتحدة الضغط على الجماعات المتمرّدة عبر الدول التي ترعاها وتدعمها: تركيا والسعودية وقطر، للسماح بوصول مماثل، في حين تقوم بالتنسيق مع روسيا والامم المتحدة لتحسين توصيل المساعدات إلى المناطق المُحَاصرة من قبل “داعش”. وهذا يخدم أيضاً بمثابة إجراء لبناء الثقة لمحادثات السلام، وعدم تشجيع جميع الأطراف الفاعلة ومنعها من فرض الحصار كعمل من أعمال الحرب. وقد أظهر هذا الصراع أن ضحايا الحصار غالباً ما يكونوا غير القوات المسلحة المُستهدَفة، لكن مدنيين عاديين كانوا في المكان الخطأ، كما هو موضّح أدناه في القول التالي المُقتبس من سكان دوما المُحاصَرة: “أريدكَ أن تقول للعالم أننا لم نلعب أي دور في هذا الصراع. إننا لسنا مع أي مجموعة، فصيل، أو طائفة مسلحة. ليس لدينا عمل، ولا طعام لأطفالنا، ولا وسيلة للهروب من هذا الجحيم. كل يوم، نرى البراميل المتفجرة ونتوقع أن نموت. نحن في إنتظار الموت. حفظ الله نفوسنا، فقط إسمحوا لنا أن نموت”.
• ويل تودمان باحث يركز إهتمامه على المشرق العربي. وقد عمل سابقاً في مؤسسة “ميرسي كور”، ومكتب مبعوث الأمم المتحدة الى سوريا، وصحيفة “صنداي تايمز” في المملكة المتحدة. وهو حاصل على درجة الماجستير من جامعة جورج تاون، وعلى درجة البكالوريوس من جامعة أوكسفورد.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.