لماذا تعثّر السلام في جنوب السودان حتى الآن؟
أعلن زعيم التمرد فى جنوب السودان، رياك مشار أنه سيعود فى 18 نيسان (إبريل) الحالي إلى جوبا، لتشكيل حكومة إنتقالية مع الرئيس سيلفا كير، طبقاً لإتفاق السلام الذي وُقّع فى آب (أغسطس) الماضي. وقال مشار في 7 نيسان (إبريل) الجاري فى رسالة إلى رئيس لجنة مراقبة وتقييم إتفاق السلام، رئيس بوتسوانا السابق فيستوس موغاي: “أؤكد أن وصولي سيكون في 18 نيسان (إبريل)، وبعد ذلك سأشكل مع الرئيس كير حكومة وحدة وطنية إنتقالية كما سأشارك فى مجلس الوزراء”. ولكن هل سيأتي مشار حقاً إلى جوبا؟ وما الذي منعه حتى الآن من تنفيذ الإتفاق مع كير؟
جوبا – محمد الصعيدي
إنتهت الحرب الأهلية في جنوب السودان ووضعت أوزارها رسمياً في 26 آب (أغسطس) 2015، عندما وقّع الجانبان المتصارعان على إتفاق سلام شامل الذي حدّد إطاراً لتشكيل حكومة وحدة وطنية إنتقالية. ولكن منذ ذلك الحين، فقد أهملت الأطراف المتحاربة المواعيد النهائية، وخرقت وقف إطلاق النار، وإتُّهمت بارتكاب إنتهاكات لحقوق الإنسان. لقد بدأت الحرب الأهلية في كانون الأول (ديسمبر) 2013 عندما إتّهم الرئيس سيلفا كير، من قبيلة “دنكا”، نائبه السابق رياك مشار، من قبيلة “نوير”، الذي كان أقاله قبل بضعة أشهر، بالتآمر للقيام بإنقلاب. نفى مشار الإتهام. مع ذلك، طالب كير بنزع سلاح جميع الجنود المُنتَمين إلى قبيلة “نوير” داخل الحرس الرئاسي. ونشب صراع بين الضباط، الذي سرعان ما أسقط البلاد بسرعة في حرب عرقية دموية. الآن كير ومشار، الذي هو من الناحية التقنية نائب الرئيس مرة أخرى، هما المسؤولان عن تنفيذ إتفاق السلام. بدلاً من ذلك فقد غرقا على مدى السبعة عشر شهراً الماضية في لُعَب سياسية.
تشمل المرحلة الأولى من تشكيل الحكومة الإنتقالية الجديدة بناء قوة أمنية متكاملة – يتكون نصفها من جيش كير، والنصف الآخر من مقاتلي الحركة الشعبية لتحرير السودان التابعين لمشار. ولكن الإثنين قد فشلا في الوفاء بتعهداتهما في المهلة التي إنتهت في 22 كانون الثاني (يناير) الفائت لإطلاق المرحلة الأولى، وحتى الآن لم يعد مشار إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان. والسبب في هذا التأخير يكمن في الخلاف حول قانون ترسيم الدوائر الإنتخابية الذي سنّه كير في كانون الأول (ديسمبر) 2015، والذي قسّم جنوب السودان إلى 28 ولاية بعدما كان عددها سابقاً عشر ولايات. وكان كير إدّعى أن هذا القانون الجديد من شأنه أن يوسّع ويوزّع السلطة من جوبا إلى أجزاء أخرى في البلاد، موفّراً الأساس لنظام حكم فيديرالي. لكن، في المقابل، قال مشار أن القانون قد غيّر بشكل جذري أحكام تقاسم السلطة حسب إتفاق السلام، وإحتجاجاً فقد رفض دمج قواته. عند هذه النقطة، يقول كير، أن إلغاء القانون مستحيل إذ أنه عيَّن فعلياً حكاماً للولايات الجديدة. مع ذلك، يصر مشار، على أنه يجب على كير تعليق القانون عندما يتفق الجانبان على نشر قوات مشتركة من الشرطة لوضع حدّ للعنف في “بور” و”ملكال” وأجزاء أخرى من جنوب السودان. وفي الوقت نفسه، أعلنت الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، التي توسطت في محادثات السلام، أن قانون كير يشكّل إنتهاكاً لأحكام رئيسية في إتفاق السلام: إنه نظام إتحادي للسلطة يجب أن يكون مكتوباً في الدستور الدائم الجديد (جنوب السودان يعمل حالياً في ظل واحد إنتقالي) وأن الترتيب الحالي لتقاسم السلطة يستند على عشر ولايات.
مناورات كير ومشار الحالية هي ببساطة الأحدث في لعبتهما للمزايدة السياسية، التي عانت منها أيضاً محادثات السلام السابقة. في آذار (مارس) 2015، على سبيل المثال، إنهارت محادثات السلام عندما فشلت قوات الحكومة والمعارضة في التوافق حول العديد من القضايا الرئيسية المتعلّقة بتقاسم الثروة والفيديرالية ووضع القوات المسلحة. وقد أصرّ وسطاء “إيغاد” على أن الزعيمين ينبغي عليهما الإتفاق وإعطاء بعض التنازلات والإمتناع عن التمسك بعناد بمواقفهما القديمة. لكن كير ومشار رفضا الإستجابة لنصائح الوسطاء وبدلاً من ذلك إتهم أحدهما الآخر بأنه “لا يريد السلام”.
ولكن السبب الرئيسي وراء تردد كير ومشار قد يكون أن إتفاق السلام لديه القدرة لأخذ الزعيمين إلى المحاكمة بتهمة إرتكاب جرائم حرب. وينص الإتفاق على إنشاء لجنة للحقيقة ومحكمة جرائم حرب هجينة على أساس قانون جنوب السودان والقانون الدولي لمواجهة الفظائع والجرائم التي إرتكبها الجانبان ضد المدنيين خلال الحرب الأهلية. (كما ستتناول الجرائم التي إرتُكبت خلال الحرب السابقة بين شمال وجنوب السودان بين عامي 1983 و2005، قبل أن يصبح جنوب السودان دولة مستقلة).
الواقع أن الصراع الحالي في جنوب السودان قد أدّى إلى مقتل أكثر من 50،000 شخص وتشريد ما يقرب من مليون شخص، مع إنتشار تقارير عن الإغتصاب الجماعي وإستخدام التعذيب من قبل كلٍّ من القوات الحكومية والمعارضة. ومنذ توقيع إتفاق السلام، كانت هناك تقارير متواصلة عن إنتهاكات إرتُكِبت من قبل الجانبين. وذكرت الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) أخيراً أن شروطاً مختلفة لوقف إطلاق النار، المنصوص عليها في إتفاق السلام، قد إنتُهِكَت من قبل الطرفين. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2015، أوفد مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة فريق عمل من 12 خبيراً إلى جنوب السودان لجمع الأدلة على إنتهاكات مزعومة. وفي تقريره النهائي الصادر في آذار (مارس) 2016 كشف هذا المجلس عن مجموعة من إنتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الإغتصاب والهجمات ضد المدنيين، والإعتقالات التعسفية، والإختفاءات القسرية، وخلص إلى أن هناك “مزاعم ذات مصداقية” بأن الحكومة قد تحالفت مع ميليشيات مارست الإغتصاب والعنف الجنسي فيما هي تنتقل من قرية إلى أخرى. هذه النتائج تؤكد ما جاء في تقرير لجنة الإتحاد الأفريقي الأخير عن تحقيقها الذي نشر في تشرين الأول (أكتوبر) 2015 الذي وجد أن هذه الميليشيات غير النظامية نفسها هاجمت المدنيين بوحشية، ولجأت إلى تقطيع أوصال وأكل لحوم البشر في بعض الحالات. وأشار التقرير إلى أن الهجمات على المدنيين كانت منهجية، وهذا يعني أنها يمكن أن تعتبر جرائم ضد الإنسانية.
لدى كير ومشار ضمانات قليلة التي من شأنها أن تمنع النيابة العامة بعدم إستخدام هذا الدليل لمتابعة وملاحقة أحدهما أو كليهما. ويبدو من المرجح أنه بمجرد أن تقوم النيابة العامة بإجراء تحقيقاتها الخاصة، فسوف تضع مسؤولين رفيعي المستوى وربما الزعيمين للمحاكمة. لذلك فمن الانصاف القول أن لدى كل من كير ومشار حافزاً لتحديد النطاق القانوني للإتفاق أو تأجيل محادثات السلام على أمل الحصول على شروط أفضل. إن إستراتيجيتهما في الوقت الراهن ليست للتفاوض على شروط أو صفقة أفضل للحصانة، ولكن نفي أي صلة لهما بالميليشيات غير النظامية التي إرتكب رجالها فظائع إنسانية.
قد يقرر مفاوضو السلام أنه إذا أصبحت المحاكم نقطة الخلاف الأساسية في إتفاق السلام، فإنه قد يكون من الأفضل إزالتها وإلغاءها تماماً. وقد إقترح “أتني ويك أتني”، المتحدث بإسم كير، أخيراً بأنه لا يمكن التوصل إلى حل سياسي إلّا عندما يصبح القادة أحراراً للتفاوض من دون أي تهديد بالعقاب. ولكن هذه الفكرة سوف تحافظ فقط على ثقافة الإفلات من العقاب التي ما فتئت تقوّض أي فرص للسلام على المدى الطويل والوحدة الوطنية. وكان هذا هو الدرس المُستفاد من الحرب الاهلية الاخيرة بين شمال السودان وجنوبه، والتي إنتهت في العام 2005 بتوقيع إتفاق سلام شامل وأدى إلى إنشاء دولة جنوب السودان المستقلة في العام 2011. وقد وجدت لجنة التحقيق التابعة للإتحاد الأفريقي في الآونة الأخيرة أن هذا الإتفاق السلام الشامل قد فشل في مساءلة القادة حول تهمة إرتكاب جرائم حرب وأن هذه الرقابة ولّدت بيئة من عدم الثقة المتبادلة والمظالم السياسية العالقة في جنوب السودان، والتي أدت إلى الصراع الأخير. بإختصار، إن إتفاق السلام الشامل بعدم تطرقه لخلق لجنة الحقيقة ومحكمة جرائم الحرب قد تجاهل الأسباب الجذرية للصراع، مما يجعل حرباً أهلية أخرى لا مفرّ منهاً تقريباً. إن السير قدماً في هذا الطريق لتحقيق العدالة سوف يضمّد الجرح من دون أن يشفيه.
عندما قمت بزيارتي الأولى إلى جوبا، في كانون الأول (ديسمبر) 2015، كان بعض قادة المعارضة عاد لتوه (بما في ذلك مشار الذي غادر في وقت لاحق إلى إثيوبيا) لبدء الجولة الأولى من عمل خطة السلام. وقد علّقت إحدى الصحف المحلية يومها بطريقة ساخرة حول كيف أن قادة المعارضة، الذين إضطروا إلى الفرار إلى الأدغال خلال الحرب، هم الآن جميعهم حريصون جداً على إستئناف حياتهم في أفخم الفنادق التي كانوا يترددون إليها سابقاً. بعبارة أخرى، كان هناك تفاؤل قديم في الهواء، خففه القلق المشترك الصامت في الشوارع بأن القادة يتشدّقون بالحاجة إلى المساءلة الديموقراطية والقانونية من دون أن يعنوا ذلك جدياً. وكما قالت لي إمرأة من قبيلة “نوير”: “جميع القادة السياسيين في جنوب السودان هم ببساطة غير مستعدين لمواجهة الحقيقة”.
والحقيقة هي أن الفشل في التوصل إلى إتفاق من شبه المؤكد أن يُشعل التوترات التي يمكن أن تعيد الحرب الأهلية. إن إتفاق السلام، ولا سيما محاكم جرائم الحرب، يمثل أفضل فرصة لتحويل جنوب السودان أخيراً إلى دولة عملية. الآن، يجب على كير ومشار تسوية خلافاتهما. وهذا يتطلب التضحية وبعض التنازلات بالنسبة إلى عادتهما منذ فترة طويلة بإتهام أحدهما الآخر في تخريب وعرقلة إتفاق السلام، وتنفيذ الأحكام الرئيسية للإتفاق من أجل بناء الثقة. قبل كل شيء، سوف يتطلب الأمر ضغوطاً إقليمية ودولية لتعزيز هذه الخطوات لبناء الثقة. في 12 شباط (فبراير) الفائت، على سبيل المثال، أقدم كير على الخطوة الأولى بتعيين مشار نائباً للرئيس. وعلى الرغم من أن هذا الأخير لم يعد بعد إلى جوبا لأداء اليمين الدستورية لمنصبه، فقد دعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون مشار إلى العودة لتولي منصب نائب الرئيس. من جانبهما، تحتاج الولايات المتحدة والإتحاد الأفريقي إلى بذل المزيد من الجهد لدفع مشار إلى العودة. ولكن حتى الآن، فإنهما ركزا بشكل كبير على الحاجة لفرض عقوبات وقطع الأموال على هذين الزعيمين. لسوء الحظ، لم تتمكّن هذه السياسة سوى في تعزيز عدم الثقة لدى الزعيمين بالمسؤولين الدوليين وخوفهما من النهاية أن يقدما إلى المحاكمة.
الآن كل الأنظار مركّزة على 18 نيسان (إبريل) الجاري لمعرفة ما إذا مشار سوف يعود إلى جوبا، وعلى أي أساس.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.