مغامرة إيران الأوراسية

بعدما وسّعت هيمنتها في الشرق الأوسط تسعى إيران الآن إلى نشر نفوذها في أوراسيا من طريق تحالفات جديدة ومشاريع نفطية ضخمة قد تؤدي في النهاية إلى نشوء ما يسميه بعض المراقبين “أوبك مع قنابل” كما يروي التقرير التالي:

المرشد الأعلى للثورة آية الله علي خامنئي: أمر بزيادة موازنة الدفاع
المرشد الأعلى للثورة آية الله علي خامنئي: أمر بزيادة موازنة الدفاع

طهران – هشام الجعفري

بدأت الصفقة النووية التي تمت في الصيف الفائت، بين طهران ومجموعة الدول الخمس في مجلس الأمن (أميركا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، والصين) زائد ألمانيا، تؤتي ثمارها فعلياً وتشكّل نعمة إقتصادية لإيران. بإعادتها الحياة إلى التجارة، بعد رفع العقوبات، مع بلدان في أوروبا وآسيا، والوصول إلى الأرصدة المالية البالغة حوالي 100 مليار دولار من عائدات النفط التي كانت مُحتَجَزة، فقد وضعت الإتفاقية (المعروفة رسمياً بخطة العمل المشترك الشاملة) الجمهورية الإسلامية على الطريق نحو الإنتعاش الوطني المُستدام.
لكنها فعلت أيضاً أكثر من ذلك بكثير. فيما توسّعت الآفاق الإقتصادية الإيرانية، فقد كبرت معها طموحات البلاد العالمية. والشرق الأوسط بدأ بالفعل يستشعر التداعيات. هناك في تلك المنطقة الجارة، إتبعت طهران سياسة خارجية عدوانية على نحو متزايد حيث قامت بمغامرة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك التدخل الموسّع في سوريا واليمن. الواقع أن خطط طهران لا تتوقف عند هذا الحد، إن آيات الله مشغولون الآن بتوسيع هيمنة نظامهم الإستراتيجي إلى مجموعة متنوعة من المسارح العالمية الأخرى — وأوراسيا هي الأبرز بينها.

إتصالات جديدة في القوقاز

لما كانت طهران ترى المنطقة الأوراسية كوسيلة للتحوّط ضد العزلة الدولية، فإنها ركّزت إهتماماً كبيراً للقيام بدور أكبر في ما يسمى فضاء ما بعد الإتحاد السوفياتي. مع ذلك، فقد قيَّد وضع إيران الدولي المنبوذ لسنوات — والحذر من جانب دول المنطقة من أن تكون على الجانب الخطأ مع الولايات المتحدة وأوروبا — إتصالاتها الإقليمية. ولكن الآن، من دون قيود العقوبات الدولية، فإن إيران تجد فرصاً جديدة.
إقتصادياً، تتسلل البلاد بعمق أكثر من أي وقت مضى في أسواق المنطقة الأوراسية. بشكل أكثر وضوحاً، فقد قامت بلعبة ديبلوماسية للإنضمام إلى مشاريع الطاقة الإقليمية الرئيسية، مثل خط أنابيب الغاز عبر الأناضول (TANAP) والذي يمتد من أذربيجان إلى تركيا. إن الإستراتيجية، كما يراها المسؤولون في طهران، هي ربط إحتياطات الغاز الطبيعي الضخمة في بلادهم إلى الأسواق الأوروبية عبر جنوب القوقاز، الأمر الذي من شأنه أن يساعد على تحويل الجمهورية الإسلامية إلى مصدر للطاقة لا غنى عنه لمنطقة اليورو.
وكجزء من هذا الجهد، فقد بدأت إيران في الأسابيع الأخيرة محادثات ديبلوماسية جديدة مع كلٍّ من جمهوريات جنوب القوقاز الثلاث (أرمينيا، أذربيجان، وجورجيا) حول ترتيبات الطاقة التي من شأنها أن تجعلها لاعباً رئيسياً في خطوط الأنابيب الإقليمية المُحتملة الأخرى. تلك المفاوضات بدأت تؤتي ثمارها فعلياً. فقد وقّعت إيران وأذربيجان 11 مذكرة تفاهم وإتفاقات في العاصمة طهران في شباط (فبراير) الفائت لتعزيز العلاقات في مجالات متنوعة ذات أهمية. ووفقاً لهذه الإتفاقات، سيتعاون البلدان في إدارة حالات الطوارىء وشؤون الجمارك والطب البيطري وصحة الماشية. كما وقّعا إتفاقات إطارية لبيع الكهرباء وتبادلها وربط السكك الحديدية بين البلدين، وإقامة جسر يربط مدينة أستارا الايرانية بالمدينة التي تحمل الاسم نفسه في أذربيجان. كما وقّع مسؤولو الجارتين مذكرتي تفاهم للتعاون في مشروعين للنفط والغاز. بدورها تستعد المنافِسة الإقليمية لأذربيجان، أرمينيا، لتعزيز إتصالاتها مع إيران أيضاً. ذلك البلد، الذي هو جزء من الإتحاد الإقتصادي الأوراسي، يسعى إلى الإستفادة من عضويته في كتلة تهيمن عليها موسكو لتوسيع علاقاته التجارية مع طهران.
وتعكس هذه التحركات توافق الآراء في جنوب القوقاز بأن إيران التي لم تعد معزولة، يمكن أن تتحوّل إلى أن تكون شريان الحياة الإقتصادي للإقتصادات الراكدة في المنطقة.

من موسكو مع الحب

في الوقت عينه، فإن علاقة إيران مع شريكتها الإقليمية الرئيسية، روسيا، تنمو بإطراد يوماً بعد يوم. إن الروابط الإستراتيجية بين البلدين تعود إلى أوائل تسعينات القرن الفائت، عندما كانت موسكو تعاني من إنهيار الإتحاد السوفياتي، وتسعى إلى كسب شريك إستراتيجي جديد في طهران. وقد كان البلدان وثيقي العلاقة خلال الجزء الأخير من الحرب الباردة، ولكن التعاون الثنائي إزدهر حقاً بعد حقبة الحرب الباردة في شكل تعاون عسكري (وفي النهاية نووي) وعلاقات إقتصادية، ومشاركة العداء للولايات المتحدة.
في أعقاب الإتفاق النووي، توثّقت العلاقات بين طهران وموسكو أكثر. منذ التوقيع على هذا الإتفاق في تموز (يوليو) 2015، حلّت العاصمتان الخلاف الذي طال أمده، والمثير للجدل، حول تسليم بطاريات صواريخ S-300، مما مهّد الطريق أمام إيران لتلقّي الدفاعات الجوية الروسية المتقدمة في هذا الربيع. وقد أطلق البلدان أيضاً محادثات جديدة حول واردات إيران من تكنولوجيا الدبابات الروسية، فضلاً عن إنتاج مشترك للمقاتلة الروسية االمتقدمة سو 30. ولعل الأهم من ذلك، كان الانتهاء من وضع خطط لشراء إيران لمعدات عسكرية ودفاعية روسية تبلغ قيمتها التراكمية نحو 8 مليارات دولار.
بالنسبة إلى إيران، هذا التوسع في العلاقات هو جزء من جدول أعمال إستراتيجي أكبر. في حزيران (يونيو) الماضي، فقط قبل أسبوعين من الإختتام الرسمي للمحادثات النووية، كشف المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي رسمياً عن الخطة التنموية السادسة للحكومة التي أرسلها ضمن رسالة إلى رئيس الجمهورية حسن روحاني، والتي تتضمن زيادة نحو 5 مليارات دولار في الموازنة الدفاعية للبلاد. وإذا تم وضع هذه الخطة موضع التنفيذ، فإن موازنة الدفاع الوطني الإيراني ستساوي خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتجعل من الممكن مواصلة برنامج التحديث العسكري الهائل. وتتطلع روسيا لكي تكون المورّد المفضل لهذا الجهد.
بالنسبة إلى موسكو، في الوقت عينه، أصبحت إيران شريكاً لا غنى عنه على نحو متزايد. فمع العقوبات الغربية الموضوعة على البلاد بسبب أزمة أوكرانيا وإنخفاض أسعار النفط، فقد رأى الكرملين بأن شراكته مع إيران تشكّل أصولاً مهمة في الإقتصاد وبالمعنى الإستراتيجي. وهذا هو السبب بأن المسؤولين الروس، مثل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، قد أوضحوا بأنهم حريصون على تعاون إستراتيجي أعمق مع الجمهورية الإسلامية كوسيلة لمواجهة “التحديات والتهديدات المشتركة” في سوريا وغيرها.

شنغهاي على الخط

ولعل الأهم من ذلك، هو أن إيران تستعد الآن لكي تصبح عضواً كاملاً في الكتلة الأمنية الأكثر أهمية في المنطقة، والمعروفة باسم “منظمة شنغهاي للتعاون”.
أُنشِئت “منظمة شنغهاي للتعاون” في العام 2001، وكانت ثمرة ما يسمى تجمع “شانغهاي الخمسة” الذي إنطلق في تسعينات القرن الفائت بهدف تعزيز الأمن المشترك للبلدان الأعضاء فيه: الصين، كازاخستان، قيرغيزستان، روسيا، وطاجيكستان. لكن عضوية ومهمة “منظمة شانغهاى للتعاون” هما أوسع إلى حد كبير. ظاهرياً، إن هدف التكتل الجديد، الذي يضم الآن أوزبكستان، هو توسيع التعاون الإقليمي في مجال الإقتصاد، والثقافة، ومكافحة الإرهاب. مع ذلك، فإن الغرض غير المعلن للكتلة يكمن في العمل على تضاؤل النفوذ الغربي في الدول التي كانت سابقاً جزءاً من الإتحاد السوفياتي.
كانت إيران، أيضاً، جزءاً من الكتلة منذ العام 2005 عندما — جنباً إلى جنب مع الهند، ومنغوليا، وباكستان — مُنحت صفة مراقب. لكن تعميق العلاقات، بما في ذلك التنسيق الأمني الكامل مع (وضمانات أمنية من) أعضاء الكتلة، حتى الآن منعته القوانين الداخلية للمنظمة، التي تحظر على أي دولة تخضع لعقوبات الأمم المتحدة من أن تصبح عضواً كاملاً فيها.
الآن بعدما رُفعت هذه القيود، فإن مسؤولي منظمة شانغهاي للتعاون ينظرون بشكل متزايد إلى الجمهورية الإسلامية في شكل جديد. “ترغب المنظمة نجاح إيران في وضع اللمسات الأخيرة على الجهود المتعلقة بالبرنامج النووي حيث تنفّذ على أساسها الإجراءات النظامية الجوهرية التي تؤدي إلى رفع جميع العقوبات في أقرب وقت ممكن”، قال أمينها العام ديمتري ميزنتسيف. مؤكداً: “أعتقد أن المنظمة سوف تقبل طلب ايران للحصول على صفة عضو كامل فوراً بعد ذلك”.
المسؤولون الإيرانيون، من جانبهم، حريصون على إستغنام هذه الفرصة. وكما قال متحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية: “إن رفع العقوبات يفتح أمام إيران الفرصة لكي تصبح عضواً في منظمة شنغهاي للتعاون ويزيل القيوداً الأخرى التي كانت تواجهها الجمهورية الإسلامية في السياسة الخارجية الإقليمية”.
بعبارة أخرى، تستعد إيران الآن لكي تصبح جزءاً من تحالف غني بالنفط يمتد من مضيق تايوان إلى مضيق هرمز — تجمّعٌ جيوسياسي وصفه البعض ب”أوبك مع قنابل” — مع كل ما يحمله هذا للأمن الإقليمي والمصالح الغربية هناك.
إن الأبعاد من وراء كل التحركات الإيرانية واضحة. طهران، التي كانت مقيّدة سابقاً في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، تبرز كلاعب مهم على نحو متزايد فيه. والإتفاق النووي، الذي كان الهدف منه أصلاً لكي يكون وسيلة للحد من طموحات ايران الإستراتيجية، قد يفعل العكس، مما يمهد الطريق أمام الجمهورية الإسلامية لكي تصبح أحدث قوة وسيطة في أوراسيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى