صوابير الغاز الأميركي تحرّر أوروبا من النفوذ الروسي

بعدما وافق الكونغرس الأميركي على السماح بتصدير الغاز الطبيعي المُسال إلى الخارج، فقد توقع العديد من الخبراء بأن ذلك سيؤثر في وضع السوق العالمية الهيدروكربونية ويهدّد بعض القوى الكبرى في هذا المجال، كروسيا وقطر، بالنسبة إلى حصتها في هذه السوق، وبالتالي يحرّر أوروبا من نفوذ موسكو.

الغاز القطري: لن يكون مهيمناً كما كان
الغاز القطري: لن يكون مهيمناً كما كان

واشنطن – سمير الحلو

في كانون الثاني (يناير) 1959، أبحرت “ميثان بايونير”، السفينة التي حُوِّلت بعد الحرب العالمية الثانية لنقل السلع، من ولاية لويزيانا الأميركية إلى المملكة المتحدة. كانت المناسبة تاريخية: لقد كانت “ميثان بايونير” أول ناقلة بحرية لنقل الغاز الطبيعي المُسال، حيث مثّلت هذه الرحلة بداية لحقبة جديدة في تجارة الطاقة العالمية. وخلال نصف قرن بعد ذلك، إزدهرت تجارة الغاز الطبيعي المُسال عالمياً، بقيادة دول مثل الجزائر وأوستراليا وإندونيسيا وقطر. لكن ما عدا محطة صغيرة في ألاسكا، فإن الولايات المتحدة بقيت على الهامش – حتى الآن.
في أواخر شباط (فبراير) الفائت، أبحرت أول شحنة على نطاق واسع من الغاز الطبيعي المُسال من الولايات ال48 السُفلى إلى الخارج. ومثّل المَعلَم تحوّلاً مُذهلاً. منذ عقد من الزمن، كان المطوّرون في أميركا يخططون عشرات المشاريع لإستيراد الغاز الطبيعي المُسال لتلبية الطلب المحلي المتزايد وتقلّص الإمدادات. إعتقد معظم المحللين بأن إيران وقطر وروسيا سوف تهيمن على توريد الغاز لسنوات مقبلة. تملك تلك البلدان أكبر إحتياطي للغاز في العالم حتى الآن وقد إستخدمت وضعها كمورّدة إحتكارية للعديد من الدول لتوسيع نفوذها الجيوسياسي. في العام 2008، أعلن وزير النفط الإيراني في حينه، غلام حسين نوذري، بأن هذه البلدان قد تشكل تكتلاً للغاز يعادل منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، “الكارتل” الذي يسيطر على إمدادات النفط ويؤثّر في أسعار النفط منذ ستينات القرن الفائت.
ولكن بعد ذلك جاءت ثورة الغاز الصخري في الولايات المتحدة. إن طفرة الصخر الزيتي في العقد الأخير قد خفّضت أسعار الغاز الطبيعي للمُستهلكين الأميركيين بشكل كبير وساعدت على تهجير الفحم والإبتعاد منه وبالتالي إنخفاض إنبعاثات الكربون، على الرغم من أنها قد أثارت مخاوف بشأن الآثار البيئية المحلية. وما هو أكثر من ذلك، سوف تصبح أميركا قريباً مصدراً صافياً للغاز الطبيعي. بحلول العام 2020، سوف يرتفع حجم التبادل التجاري للغاز الطبيعي المُسال عالمياً بنسبة تصل إلى 50 في المئة، بالكامل تقريباً بفضل الولايات المتحدة وأوستراليا. من جهتها تكافح إيران وقطر وروسيا للحفاظ على حصتها في السوق. وعلى الرغم من أن الكثير لا يزال غير مؤكد، فإن صادرات الغاز الطبيعي المُسال الأميركي قد تحوّل الجغرافيا السياسية للطاقة في السنوات المقبلة.

سوق واحدة

خلافاً للنفط الخام، الذي هو سهلٌ للشحن والتخزين، فإن نقل الغاز الطبيعي عالمياً هو عملية تجارية صعبة. أولاً يجب تحويل الغاز إلى شكل سائل من طريق التبريد إلى حوالي 260 درجة فهرنهايت تحت الصفر. ثم لا بدّ من تحميله إلى ناقلات مُصممة خصيصاً لشحنه، قبل أن يتم تحويله مرة أخرى إلى غاز في محطات الإستيراد. ونتيجة لهذه التحديات، فقد تخلف تطوير السوق العالمية للغاز الطبيعي الُمسال عن اللحاق برَكب النفط.
بدلاً من ذلك، تم نقل الغاز الطبيعي عادة عبر خطوط الأنابيب بين نقاط ثابتة. وغالباً كان سعر الغاز الطبيعي مُرتبطاً بأسعار النفط لأن الوقودين كانا يشكّلان بدائل وثيقة في مجال توليد الطاقة في الأيام الأولى لتجارة الغاز الطبيعي.
وقد أعطى نظام خطوط الأنابيب مورّدي الغاز الطبيعي الذين هم على إستعداد لتوسيع هيمنتهم المزيد من النفوذ على الدول المستوردة أكثر من مورّدي النفط. الواقع أن غالبية المستوردين لا يمكنها ببساطة شراء الغاز من بلد آخر في حالة نشوء نزاع. وإذا هدد المصدّرون بإيقاف التزويد، فإن أمام المستوردين فقط خيارات قليلة اذا كانوا يريدون إبقاء الأضواء مشتعلة في بلادهم.
ولكن يبدو أن ثورة الغاز الصخري لديها القدرة على تغيير كل هذا. وبالفعل، لقد أزالت طفرة الصخر الزيتي الحاجة إلى واردات الغاز الطبيعي المُسال الخارجية إلى الولايات المتحدة، وحرّرت التزويد من أماكن مثل قطر للتدفق إلى أماكن أخرى، وخلقت المزيد من المنافسة. إن تصدير الغاز الطبيعي المُسال الأميركي سوف يسرّع هذه العملية، ذلك أنه يمكن أن يُباع في أي مكان في العالم بأسعار السوق الفورية (سبوت)، مشجّعاً ظهور سوق عالمية متكاملة. الآن، يعكس سعر الغاز العرض والطلب على السلع بشكل أكثر دقة، وسوف تبدو سوق الغاز العالمية تدريجاً أكثر مثل سوق النفط. وفيما يزداد العرض، فإن الدول المستهلكة ستتمتع بمزيد من القوة.

الخاسرون والرابحون

يعرف الزبائن الأوروبيون جيداً معنى النفوذ الجيوسياسي المهيمن لموردي الغاز كالذي إستطاعت روسيا ممارسته عليهم. توقّفت موسكو عن تصدير الغاز إلى أوكرانيا في العام 2006 والعام 2009 بعد خلافات بشأن مدفوعات سابقة. كما كشف تحقيق أخير للجنة مكافحة الإحتكار التابعة للمفوضية الأوروبية، بأن شركة غازبروم، أكبر شركة للغاز الطبيعي في روسيا، قد إستخدمت أيضاً قوتها السوقية المهيمنة في أوروبا الوسطى والشرقية لمنع تكامل أسواق الغاز في المنطقة، حيث حاولت الحفاظ على السيطرة على خط أنابيب عبور رئيسي للغاز في بولندا من طريق تهديد بلغاريا بوقف إمدادات الغاز عنها إذا دعمت هذا المشروع.
مع تدفق الغاز الطبيعي المُسال بشكل غزير إلى السوق العالمية، مع ذلك، فإن المزيد من الغاز الطبيعي المُسال الأميركي سيتوجه إلى أوروبا — وسوف يشكّل هذا الأمر تحديات خطيرة بالنسبة إلى روسيا. على مدى السنوات القليلة الماضية، راهنت موسكو على مشاريع خطوط أنابيب الغاز الإستراتيجية الواسعة، مثل خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يربط روسيا إلى ألمانيا من خلال تجاوز أوكرانيا؛ ومشروع تيار تركيا، الذي يهدف إلى ربط روسيا مع تركيا وجنوب شرق أوروبا؛ وخط أنابيب سيبيريا للطاقة الذي يربط شرق سيبيريا مع الصين. مع ذلك، في عصر الغاز الطبيعي المُسال الرخيص والمرن والوافر، فإن روسيا بالكاد يمكنها تبرير أثمان وتكاليف هذه المشاريع العملاقة، وبخاصة إذا كانت سوف تجلب إلى موسكو قليلاً من الفائدة الجيوسياسية.
في الوقت عينه، كانت روسيا بطيئة في الدخول في لعبة الغاز الطبيعي المُسال. لقد ركّزت شركة غازبروم على بناء مشاريع خطوط أنابيب إستراتيجية، بينما “نوفاتيك”، أكبر منتج مستقل للغاز في روسيا، لم تُمنَح رخصة لتصدير الغاز الطبيعي المُسال إلّا في العام 2013. ونتيجة لذلك، فإن روسيا من المحتمل أن تستكمل مشروعاً واحداً إضافياً للغاز الطبيعي المُسال فقط حتى نهاية العقد. ومن المرجح أن يتم تأجيل العدد القليل المُقترح لمحطات أخرى بسبب الموجة الحالية للمشاريع الأميركية والأوسترالية، والأسعار المُنخفضة المرتبطة بالنفط لعقود الغاز، التي تجعلها غير قادرة على المنافسة.
منذ إندلاع الأزمة الأوكرانية في العام 2014، ضاعفت أوروبا جهودها للحد من تعرّضها للتغيرات والإضطرابات في إمدادات الغاز الروسي، والتي تشكل أكثر من 40 في المئة من واردات الغاز الأوروبية. في شباط (فبراير) 2016، أصدرت المفوضية الأوروبية أحدث إستراتيجية أمنية لها حول الطاقة في الإتحاد الأوروبي، التي تقوم على محاولة خلق سوق مشتركة للطاقة في جميع أنحاء أوروبا. وكررت دعوات سابقة لإضافة المزيد من خطوط الأنابيب المتصلة مع بعضها وعكس قدرة التدفق، والتي سوف تسمح للغاز بالسفر من بلد إلى آخر بشكل أكثر كفاءة. ودعت إلى بناء المزيد من المحطات المُستقبِلة للغاز الطبيعي المسال، حيث يمكن للبلدان الأوروبية إستيراد الغاز الذي يتم شحنه من الولايات المتحدة وأماكن أخرى. ويمكن لهذه المحطات أن تكون رافعة في المفاوضات مع المورّدين: بنت ليتوانيا أخيراً محطة جديدة لإستيراد الغاز الطبيعي المُسال وإستخدمتها للتفاوض على خصم 25 في المئة من شركة غازبروم.
إذا لم ترقَ قدرة الغاز الطبيعي المُسال الأميركي وإنتاج الغاز الأوروبي إلى مستوى التوقعات، فإن روسيا قد تكون قادرة على الحفاظ على أحجام صادراتها إلى أوروبا من دون تقديم أي تنازلات كبرى. مع ذلك، فإن السيناريو الأكثر إحتمالاً، هو أن روسيا ستحاول الحفاظ على حصتها في السوق من طريق خفض الأسعار وبإستخدام أكثر من 150 مليار متر مكعب في العام من الطاقة الإنتاجية الفائضة المُنخفضة التكلفة لديها للحد من صادرات الولايات المتحدة إلى السوق الأوروبية.
إذا حدث هذا، قد يكون تأثير صادرات الغاز الطبيعي المُسال الأميركي مضاداً حيث سيؤدي إلى زيادة إعتماد أوروبا على الغاز الطبيعي الروسي. ومع ذلك، فإن المستهلكين الأوروبيين قد يرون أسعار الغاز المنخفضة أصلاً تهبط أكثر مما هي عليه، إذا قررت روسيا شن “حرب أسعار” على الغاز الطبيعي المُسال الأميركي. طالما هناك وفرة في إمدادات الغاز الطبيعي المُسال والولايات المتحدة بقيت مورداً هامشياً، فإن القدرة التصديرية للغاز الطبيعي المُسال الأميركي يمكن أن تحدّد بفعالية أسعار الغاز الفورية الأوروبية حسب التكلفة المتغيّرة لتسليم الغاز الطبيعي الأميركي إلى أوروبا، حتى لو وصلت كميات قليلة من غاز بلاد العم سام إلى محطات القارة العجوز.
بالقدر عينه من الأهمية، فإن الخيار لإستيراد الغاز الطبيعي المُسال من الولايات المتحدة سوف يساعد أوروبا على تقليل النفوذ الجيوسياسي لروسيا. إذا هددت موسكو بإيقاف الصنابير، فإن سوق الغاز الأوروبية الأكثر ترابطاً وتكاملاً يمكنها أن تجد مصادر بديلة للغاز بسهولة أكثر.
روسيا ليست الدولة الوحيدة التي سيضعفها الغاز الطبيعي المُسال الأميركي. فقد تمتعت قطر بدرجة من قوة التسعير في بعض أسواق صادراتها، وتمكنت من إستغلال الفرق في الأسعار بين أسواق الغاز الطبيعي المُسال الأوروبية والآسيوية لإختيار المكان الذي سترسل إليه صادراتها. مع ذلك، فإن الغاز الطبيعي المسال الأميركي سوف يكون أيضاً قادراً على “التأرجح” بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، وسوف يتجاوز قريباً قطر كأكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال ذي العرض المرن، مما يقوّض بالتالي قدرة الدوحة على ممارسة سلطة التسعير. في العام الماضي، على سبيل المثال، تحدّت الشركة الهندية “بترونت” تنفيذ أحد عقودها للغاز الطويل الأجل غير المواتي مع الشركة القطرية “راس غاز” وفازت بتنازلات كبيرة. مثل هذه الخطوات ستكون أكثر حدوثاً وسط تزايد المنافسة من الغاز الطبيعي المُسال الأميركي وموردين آخرين.
ونتيجة لزيادة العرض العالمي، فإن حصة قطر في سوق الغاز الطبيعي المُسال سوف تتقلّص وأسعار الغاز الطبيعي المنخفضة سوف تقلّل من عائدات صادراتها. إن الدول التي تشتري الغاز من قطر ستدفع نحو مزيد من الطلبات للحصول على عقود أكثر مرونة ورفض الأسعار التقليدية المرتبطة بأسعار النفط، على الرغم من أن غالبية عقود قطر الطويلة الأجل لن يحلّ موعد تجديدها قبل العام 2020. وسوف يتحوّل الحساب الجاري والفوائض المالية الضخمة في قطر على الأرجح إلى عجز في المدى القريب.

أوقات غير مؤكدة

يعتمد التأثير الجيوسياسي الحقيقي على كيفية تطور سوق الغاز على مدى السنوات المقبلة. بالنظر إلى التاريخ الحديث، فإن قلة يمكنها التنبؤ بكثير من الثقة حول التوقعات بالنسبة إلى الغاز الطبيعي المُسال في الولايات المتحدة والطلب العالمي على الغاز.
في العام 2011، بشّر تقرير خاص صادر عن الوكالة الدولية للطاقة بوصول “العصر الذهبي للغاز”. “إن مستقبل الغاز الطبيعي يبدو مشرقاً”، أعلنت وكالة الطاقة الدولية بثقة. ويبدو أنها إفترضت أن الطلب سيبقى قوياً، بدعم من مخزون وفير من الصخر الزيتي والتجارة المتنامية في قطاع الغاز الطبيعي المسال. بعد خمس سنوات، تراجع الطلب على الغاز في أوروبا، والطلب الآسيوي يتباطأ، حيث يتحداه الفحم الرخيص، والطاقة المتجددة الأرخص، وحتى، في بعض الحالات، سياسة المناخ التي دعمت مصادر الطاقة المتجددة لكنها فشلت في وقف إستخدام الفحم.
علاوة على ذلك، ترك الإنهيار في أسعار النفط (وبالتالي أسعار الغاز المرتبطة بالنفط) والزيادة المقبلة لإمدادات الغاز الطبيعي المسال بعض المحللين يشكّكون بالنسبة إلى أنه سوف يكون هناك حتى طلب عالمي بما فيه الكفاية لصادرات الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة. فيما الفجوة بين أسعار الغاز الأميركية وأسعار الغاز الآسيوية تضيق، فإن بناء محطات جديدة لتصدير الغاز لا يبدو جيداً ومشجعاً من الناحية الإقتصادية.
في الوقت الحالي، مع ذلك، فإن المشاريع الخمسة الجارية حالياً في الولايات المتحدة من المرجح أنها ستكون مُربحة وتمضي قدماً، مورّدةً إلى العالم ما يقرب من تسعة مليارات قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي، تقريباً كقطر، أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، تضعها في السوق كل يوم. إذا إرتفع الطلب على الغاز الطبيعي المسال في المستقبل، كما تشير التوقعات الحالية، فإن أميركا ستكون في وضع جيد يؤهلها لتلبيته: لديها بيئة سياسية مستقرة وبناء محطاتها هو رخيص نسبياً.
الواقع أن الولايات المتحدة، التي توقّع الخبراء لها قبل عقد من الزمن أن تصبح بين أكبر مستوردي الغاز الطبيعي في العالم، تبدو الآن كأنها قوة عظمى في مجال الغاز الطبيعي العالمي. وهذا التحول التاريخي سوف يحسّن أمن الطاقة لدى حلفائها ويقوّض النفوذ الجيوسياسي لخصومها. وربما الأهم من ذلك، فيما تظهر سوق للغاز أكثر كفاءة، فإن الناس في جميع أنحاء العالم ستكون لديهم فرص أفضل للوصول إلى الطاقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى