صناعة النفط والغاز تمرّ في مرحلة إنتقالية

فيما تجمع أهل صناعة النفط والغاز العالمية في أبو ظبي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وأعضاء منظمة “اوبك” في فيينا في كانون الأول (ديسمبر) الفائت، فقد ظهرت إستراتيجية واضحة وموحّدة للردّ ومكافحة الأسعار المنخفضة أكثر من أي وقت مضى. ولكن هل ستنجح هذه الإستراتيجية؟

إجتماع "أوبك" الأخير في فيينا: لم ينتج إلا الخلاف
إجتماع “أوبك” الأخير في فيينا: لم ينتج إلا الخلاف

أبو ظبي – عمّار الحلاق

أفادنا معظم الخبراء بأن الصناعة الهيدروكربونية هي في ركود وستبقى كذلك لفترة طويلة. فقد أُلغِيت مليارات الدولارات من إستثمارات المنبع وجُمِّدت مشاريع ضخمة كثيرة. ومع ذلك، فإن الصناعة كما تبدو لا تزال على قيد الحياة، وهي إذا لم تنطلق أو تنتعش بالضبط، فهي على الأقل ما زالت تعمل و”تُتكتك” – إنها صناعة تمر بمرحلة إنتقالية حيث إتخذت الحكومات والشركات الوطنية وشركات النفط والخدمات الدولية بعض الخطوات لتعديل أحوالها لكي تتلاءم مع الوضع الطبيعي الجديد.
الواقع إن الجاذبية الدائمة لصناعة النفط والغاز، في الأوقات الجيدة والسيئة، هي التي جذبت أخيراً القيِّمين والمهتمّين والخبراء في القطاع الهيدروكربوني إلى قوائم الإنتظار أمام مداخل ما صار يُعتبر الآن أكبر معرض للنفط في العالم الذي أقيم في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت في أبو ظبي. لقد شارك أكثر من 2000 عارض في “مؤتمر ومعرض أبوظبي الدولي للبترول” (أديبك) للعام الفائت، وفقاً للمنظمين، مما يجعل الحضور أكبر نسبة إقبال على المعرض من أي وقت مضى وسط واحدة من أقسى وأطول أزمة عرفتها الصناعة. كما كانت قائمة المتحدّثين وأعضاء اللجنة في المؤتمر رفيعة المستوى وواعدة لإطلاق نقاطٍ للحوار، وهي بالتالي لم تخيِّب الآمال.
يمكن القول بأن الجلسة التي جاءت أكثر جدية ومنيرة من جلسات المؤتمر كانت في اليوم الأول التي شارك فيها وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي المنصة نظيره العُماني محمد بن حمد الرمحي، جنباً إلى جنب مع زميليهما من مصر والغابون.
“نحن نجتمع في وقت مثير جداً للإهتمام لصناعة النفط، وهو وقت يتميز ببعض التردد من قبل البعض، والألم للبعض الآخر”، قال المزروعي بأسلوب ديبلوماسي.
وكان الرمحي أقل تحفظاً: “هذه هي سلعة حيث أنه إذا كان لديك مليون برميل يومياً إضافية في السوق، فإنك تدمّر هذه السوق”، قال. مردداً كلمات المزروعي مضيفاً: “إننا نتأذّى، ونشعر بالألم ونعتبر الأزمة مثل أزمة يديرها الله. عذراً انا لا أقبل هذا – أعتقد أننا قمنا بإنشائها بأنفسنا. يمكننا إلقاء اللوم على روسيا والمملكة العربية السعودية والصين [لإنخفاض أسعار النفط] ولكن بيت القصيد هو أن ما آلت إليه الأمور هو من مسؤوليتنا”.
إن سلطنة عُمان، التي ليست عضواً في منظمة “أوبك”، والتي تضخ حوالي مليون برميل يومياً من النفط، تشعر حالياً بالألم المالي الذي تصل قيمته إلى حوالي 55 مليون دولار في اليوم الواحد. وهذا هو مقدار الإيرادات التي تنزفها نتيجة لإنخفاض أسعار النفط، وهي خسائر تجبر صناعة النفط العُمانية على خفض التكاليف.
“نحن نخفّض التكاليف ولكننا لم نُوقف المشاريع”، أوضح الرمحي.
على الصعيد العالمي، مع ذلك، يتم إلغاء العديد من المشاريع أو تأجيلها، فيما شركات النفط الكبرى تُخفِّض موازناتها وإستثماراتها بهدف توليد تدفقات نقدية. وقد كشف رئيس قسم الإستكشاف والإنتاج في شركة “بي بي” (BP) البريطانية “لامار مكاي” في مؤتمر “أديبك” في أبو ظبي أن شركات النفط الكبرى – التي تضم مجموعة بما في ذلك شركة “بريتيش بتروليوم”، شل و”إكسون موبيل” و”توتال” – قد جمَّدت أو ألغت حوالي 80 مشروعاً في العام 2015، وهو ضعف الرقم الذي كان في العام 2014، مع خفض الإنفاق الرأسمالي بنسبة 22 مليار دولار. مع ذلك، فإن هذه التخفيضات تقلق أولئك، مثل الرمحي، الذين يجادلون بأن الإستثمار في التكنولوجيات الجديدة ضرورية لإيجاد إحتياطات جديدة، أو إنتاج النفط بشكل أكثر كفاءة وبتكلفة منخفضة. كما يمكن للخفض أن يضرب مبادرات الطاقة المتجددة والمستدامة.
ويقول بعض المراقبين أيضاً أنه من خلال خفض التكاليف الآن، فإن قدرة منتجي النفط لزيادة الإنتاج للرد على إرتفاع الطلب في المستقبل يمكن أن تعوَّق، الأمر الذي يضع هذه البلدان متخلفة وراء منحنى الطلب. لذا يعتقد كثيرون بأن خفض الإنفاق غير قابل للإستمرار على المدى الطويل.
متحدثاً عن المسائل العملية التي تواجهه إدارات وأصحاب شركات النفط الوطنية في البيئة الحالية، قال بيل وايت، وهو مستشار بارز في شركة “لازارد” الأميركية التي تقدم المشورة للشركات المقرضة والحكومات في جميع أنحاء العالم، بأنها تدور في معظمها حول الإبتكار: “في الوقت الراهن هناك التحدي المتمثّل في تحقيق التوازن بين الميل التاريخي نحو التقنيات الجديدة مع الحاجة إلى السيطرة على التكاليف. كل شركة خدمات للنفط والغاز تريد الحصول على تكنولوجيا جديدة توفّر لها بعض التحسن في الإنتاجية التي على أساسها يمكنها أن تضع هامشاً عالياً للتسعير. هذه هي طبيعة السوق، وهذا بالتالي يشجع الإبتكار”.
وأضاف “وايت” أن إستخدام موظفين من الشركة مقابل متعاقدين قد مثّل مشكلة بالنسبة إلى شركات النفط الوطنية في الحاضر كما سيكون في المستقبل.
مهما كان الوضع الذي قد يحمله المستقبل، فإن الحاضر هو الذي يشكّل مصدر قلق فوري لهذه الصناعة. بعد مرور عام على مؤتمر ومعرض “أديبك” 2014، فإن أسعار النفط قد واصلت مسارها النزولي، مع تجاوز إمدادات النفط العالمية الطلب بنحو مليون برميل في اليوم في الوقت الحاضر. دول منظمة “أوبك” التي تضخ نحو 40 في المئة من النفط في العالم، قررت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 عدم خفض الإنتاج والحفاظ على حصتها في السوق بدلاً من دعم الأسعار. وقد فاقمت التخمة الإمدادات الجديدة الأميركية من الصخر الزيتي والروسية المتدفقة إلى السوق. على جانب الطلب، فقد فترت الإقتصادات الناشئة، مثل الصين والهند وغيرهما، والتي، جنباً إلى جنب مع قوة الدولار الأميركي، قد عززت تراجع أسعار النفط.
في كلمة ألقاها عالم الطاقة الأميركي الحائز على جائزة “بوليتزر”، دانيال يرغين، في أبو ظبي، فقد تطرق إلى موضوع طلب الأسواق الناشئة: “لقد وصلنا الى نهاية عصر دول “بريكس” [البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا] من عصر الأسواق الناشئة، وإنتقلنا إلى عصر النفط الحجري – من عصر ندرة إمدادات النفط إلى واحد جديد وافر”، قال مشيراً الى كتلة الإقتصادات الناشئة التي كان من المتوقع سابقاً أن تدفع نمو الطلب على النفط لعقود من الزمن.
كانت آثار صدمة أسعار النفط الحالية حادة إذ أنها جاءت بعد فترة أربع سنوات من الإستقرار النسبي للأسعار. وتوقعت الوكالة الدولية للطاقة، إحدى الوكالات الأكثر إحتراماً، في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أن الاسعار قد ترتفع إلى 80 دولاراً للبرميل بحلول العام 2020.
ويعتقد كبار المسؤولين التنفيذيين أنه من غير المرجح أن يتغيّر الوضع قريباً. وقال باتريك بويان، الرئيس التنفيذي لشركة “توتال” الفرنسية العملاقة، للحضور في مؤتمر “أديبك” أنه يمكن أن تمر “أشهر عدة” قبل إنتهاء فترة إنخفاض أسعار النفط، من دون تحديد ما يعنيه ب”إنخفاض أسعار النفط”. أما الرئيس التنفيذي للمنبع ل”إكسون موبيل”، جاك ويليامز، فقد قال بأن إنخفاض أسعار النفط سيبقى “لفترة من الوقت”. في حين قال مايكل تاونسند، مدير منطقة الشرق الأوسط لشركة “بريتيش بتروليوم”، بأن مجموعته ترى بأن النفط سيتذبذب حول 60 دولاراً للبرميل على مدى السنوات الثلاث المقبلة. هذه الآراء تتعارض مع رأي الأمين العام ل”أوبك” عبد الله البدري، الذي قال للمندوبين بأنه يرى أن هناك “زخماً إيجابياً” قد بدأ.
قال تاونسند بأن “بي بي” (BP) تواصل الإستثمار في الشرق الأوسط على الرغم من إنخفاض أسعار النفط، مشيراً الى أن سلطنة عُمان والعراق سيكونا مكانين لإستثمارات رأسمالية كبرى. وتحاول الشركة أيضاً الحصول على إمتياز للتنقيب برياً عن النفط في أبوظبي. كما قال للمندوبين: “هذا العام، تبلغ الموازنة الإجمالية في العراق 2.5 ملياري دولار، وفي عُمان حوالي 700 مليون كرأسمال”. مضيفاً: “نحن نتطلع إلى إعادة التفاوض مع المقاولين المباشرين والمقاولين من الباطن لخفض التكاليف”.
ويمكن أن يكون هناك تأثير واحد من خفض الإنفاق في الصناعة وهو لإبعاد تأثير المنتجين خارج “أوبك” في الامدادات العالمية. وتعتقد وكالة الطاقة الدولية أن نمو إمدادات النفط خارج “أوبك” يمكن أن يتوقف بحلول العام 2020 إذا إستمرت التخفيضات. وفي الوقت عينه، فإن “أوبك” تقدّر أن الإمدادات من خارج دولها الأعضاء ستنخفض بنحو 130،000 برميل في اليوم على أساس سنوي في العام المقبل، وهو أول إنخفاض منذ العام 2007 فيما تُلغي الصناعة 200 مليار دولار من النفقات الرأسمالية هذا العام والعام المقبل.
من جهة أخرى، فقد أدّى الإنخفاض التاريخي لأسعار النفط إلى إنقسام أعضاء “أوبك” بحيث لم ينتج عن المحادثات الماراثونية التي جرت في إجتماع فيينا في 4 كانون الأول (ديسمبر) الفائت سوى شيء واحد فقط: الخلاف.
في نهاية إجتماعها، فشلت الدول الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في التوافق على مقدار النفط الذي ينبغي أن تنتجه. وهذا الأمر ترك إنتاج دول المنظمة من دون تغيير عند 30 مليون برميل يومياً، على الرغم من أن الإنتاج اليومي الفعلي هو أقرب إلى 31.5 مليون برميل يومياً.
وهذا يعني أن سوق النفط المُشبَعة فعلياً سوف تبقى على حالها. وكان لخفض الإنتاج اليومي لو حصل أن يؤدي إلى تخفيف الضغط على أسعار النفط، والتي هي قريبة من أدنى مستوياتها التاريخية.
“قررنا تأجيل هذا القرار حتى إجتماع “أوبك” المقبل، عندما تصبح الصورة أكثر وضوحاً”، قال الأمين العام لمنظمة “أوبك” عبد الله سالم البدري للصحافيين.
وهذا القرار هو سيف ذو حدين بالنسبة إلى الولايات المتحدة. من ناحية، تبقي أسعار النفط والغاز منخفضة خلال عطلة الاعياد، وهو الوقت الذي يسافر فيه الكثيرون لزيارة الأسرة. ولكنه يضع أيضاً ضغوطاً مالية إضافية على الأجزاء المُنتجة للنفط في البلاد، مثل تكساس وداكوتا الشمالية، وهي الأماكن التي تعاني بالفعل بسبب الطاقة الرخيصة.
الواقع أن إنتاج النفط في أميركا قد عقّد أيضاً الأشياء بالنسبة إلى”أوبك”. ووفقاً لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، فقد أنتجت شركات النفط الأميركي في المتوسط نحو 9.3 ملايين برميل من النفط الخام يومياً في حزيران (يونيو) 2015، حسب أحدث البيانات المتاحة، مضيفة بذلك زيادة على المعروض العالمي المُشبع أصلاً.
ووفقاً ل”رويترز”، قال البدري بأن إيران قد عقّدت الجهود الرامية إلى التوصل إلى إتفاق على الإنتاج. وقال أنه من الصعب التنبؤ بالكمية التي ستضخها طهران عندما يتم رفع العقوبات الغربية ضد برنامجها النووي.
من جانبها، أعلنت إيران مراراً أنها ستضيف مليون برميل من النفط إلى السوق يومياً عندما يتم رفع العقوبات الإقتصادية. الآن، هناك 2 مليونا برميل فائض من النفط في السوق كل يوم.
من جهته طمأن وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي المقاولين في مؤتمر “أديبك” أن خطط إستثمارات بلاده لا تزال مستمرة، حتى لو أن شركة بترول أبوظبي الوطنية (أدنوك) تتطلع إلى توفير التكاليف على مشاريعها.
“لقد إنخفضت أسعار النفط الخام العالمية بأكثر من 50 في المئة، ولكن هذا لا يغير من رؤية دولة الإمارات العربية المتحدة والمنطقة على مواصلة لعب دورها كمورّدة إلى العالم”، قال. مؤكّداً: “نحن لن نلغي مشاريعنا”.
وختم قائلاً: “أنا واثق من أننا سوف نرى في العام 2016 بعض التحسن في السوق. لا تسألني كم سيكون حجمه – فإن السوق تقرر ذلك. لا تسألني من هو الذي سيلعب دوراً – فلن تكون “أوبك”. كل دولة لديها دور للعب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى