الإنهيار الآتي إلى إقتصادات الخليج؟

إنخفاض أسعار النفط، وإتساع العجز المالي، وإرتفاع عدد السكان والإضطراب السياسي والإرهاب، وإرتفاع بطالة الشباب … تلك العوامل تستحضر وصفة لكارثة إقتصادية لمنطقة الخليج العربي التي كانت تسيطر علي إمدادات الطاقة الرئيسية في العالم والتي أظهرت إمكانية لتحقيق نجاح إقتصادي حقيقي طويل الاجل. فهل اصابت لعنة النفط المنطقة و دفعتها الى الهاوية الإقتصادية مع ارتفاع العجز المالي؟

النفط في الإمارات: تنوع الإقتصاد خفض الإعتماد عليه
النفط في الإمارات: تنوع الإقتصاد خفض الإعتماد عليه

أبو ظبي – عمّار الحلّاق

قبل خمس سنوات، تشاركت دول مجلس التعاون الخليجي، البحرين، الكويت، عُمان، قطر، المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، في فائض مالي بلغ 600 مليار دولار. وبحلول العام 2020، يتوقّع صندوق النقد الدولي أن تُراكم هذه البلدان عجزاً مجتمعاً قدره 700 مليار دولار. وربما قد يجعل إستمرار إنخفاض أسعار النفط الأمور أكثر سوءاً. هذا الخبر السيئ هو تذكير آخر إلى حاجة الدول العربية الغنية بالموارد إلى بناء إقتصادات حيوية متنوعة التي يمكنها أن تتحمّل آثار صدمات أسعار النفط والغاز.
على الرغم من أن الحكومات العربية قد أدركت منذ فترة طويلة الحاجة إلى الإنتقال بعيداً من الإعتماد المُفرط على النفط والغاز، فقد حققت نجاحاً قليلاً لا يُذكر في هذا المجال. العراق، على سبيل المثال، وضع التنويع الإقتصادي كهدف من أهداف السياسات الأساسية في واحدة من الخطط الأولى الخمسية للتنمية في العام 1965- مع ذلك فقد أصبحت البلاد أكثر إعتماداً على النفط مع مرور الوقت. في قطر، والكويت، والمملكة العربية السعودية، أيضاً، كان التنويع هدف التنمية المركزي، ولكن لم يتحقق منه شيء كبير منذ سبعينات القرن الفائت. حتى إقتصاد دولة الإمارات العربية المتحدة، الذي يُعتبر من أكثر الإقتصادات تنوعاً في منطقة الخليج، يعتمد إلى حد كبير على صادرات النفط.
لماذا فشلت الحكومات الخليجية العربية بإستمرار في تنويع إقتصاداتها على الرغم من الوعود الطويلة الأمد والخطط الكبرى؟ الاجابة لها علاقة بالسياسة أكثر من الإقتصاد. في الواقع، إذا كان التنويع بسيطاً مثل إستيراد المخططات التقنية من الدول التي تنوعت بالفعل إقتصاداتها، مثل بوتسوانا وماليزيا والنروج، فسيكون قد تمّ فعلياً إنجاز ذلك.
المشكلة هي أنه في كثير من الإقتصادات العربية في الخليج نادراً ما تشكّل السياسات الإقتصادية الجيدة سياسة جيدة، خصوصاً بالنسبة إلى النخب الحاكمة. ذلك لأن التغييرات الهيكلية التي يتطلبها التنويع الإقتصادي — على وجه التحديد، إنتاج عدد أكبر ومتنوع ذات قيمة عالية من السلع — تَعِد بتمكين الدوائر الإنتخابية التجارية التي، مع تدفق الدخل الجديد، من المحتمل أن تتحدّى الحاكم. فمثلاً في الكويت، إن صعود طبقة تجار مستقلة يمكن أن تقوّض قوة النظام الأميري. إذا كان الحكام في دولة الإمارات العربية المتحدة قد قبلوا بالتنويع، في الوقت نفسه، فإن ذلك يرجع جزئياً إلى القطاع الخاص الإماراتي الذي لا يشكل تهديداً سياسياً، لأنه يعتمد بشكل كبير على العمالة الأجنبية.
لكي يتحقق التنويع وينجح، فإن هناك تكاليف سياسية يجب دفعها للنخب الحاكمة في المقابل: إن هؤلاء يحتاجون إلى معرفة أنهم سوف يكسبون أكثر مما سيخسرون من الإصلاحات. لذا يجب أن تبدأ أي مناقشة جادة بشأن التنويع الإقتصادي من خلال الإعتراف بأن النخب التي تعتمد على الموارد ستحصل على تعويض عن الخسائر التي ستتعرض للخطر.

متطلبات التنويع

إن البلدان التي نوّعت إقتصاداتها بنجاح كانت لديها عموماً الأطر السياسية التي تسمح بذلك وتسهّل عملية التحول بالإضافة إلى البيئات الإقليمية التي تشجّعها. على سبيل المثال تأمّل في وضع بوتسوانا، التي كانت عند إستقلالها في العام 1966 تعتمد إعتماداً كبيراً على إستخراج المعادن، وخصوصاً إستخراج الماس، ومنذ ذلك الحين طوّرت قطاعات الزراعة والسياحة بشكل قوي. ويُمكن أن يُعزى نجاح بوتسوانا إلى عدد من العوامل: لقد ورثت البلاد دوائر إنتخابية مع مصالح إقتصادية متنوعة، من بينها المزارعون والرعاة؛ وإستفادت أيضاً من المنافسة السياسية والإئتلافات المستقرة. كما أن عضوية بوتسوانا في الإتحاد الجمركي لجنوب أفريقيا خدمت كحافز خارجي مهم لإصلاح معقول للإقتصاد الكلي، إذ أنها قيدت البلاد ومنعتها من إتباع سياسة نقدية وتجارية غير حكيمة. وهكذا، فقد شجعت هذه المكونات معاً على تطوير قطاعات إقتصادية جديدة ومتنوعة.
من ناحية أخرى، فإن حالة ماليزيا تعطي دروساً مماثلة. في فترة ما بعد الإستقلال في العام 1957، كانت الأقلية العرقية الصينية في البلاد تسيطر على الكثير من شركات القطاع الخاص الماليزي، عاملةً بمثابة قوة موازِنة لقطاع الموارد الطبيعية، الذي هيمنت عليه مصالح المطاط وزيت النخيل والقصدير. وقد إنعكس هذا الوضع في السياسة الماليزية، حيث تمكّنت العرقية الصينية من حماية مصالحها الإقتصادية على الرغم من كونها أقلية ديموغرافية، وقد ساعدها على ذلك إتفاق تقاسم السلطة التوافقية مع المجتمع العرقي الملايو (أو الملاي). وكانت سياسة الإقتصاد الكلي – خصوصاً سعر الصرف المبالغ فيه الذي ينتج عادة من قطاع موارد طبيعية مزدهر ويحدّ من القدرة التنافسية للقطاع الخاص الصناعي – غير مقبولة من قبل المصالح الصينية. في الوقت عينه، سمح قرب ماليزيا من طرق التجارة العالمية الرئيسية للشركات الماليزية الإستفادة من التجارة الإقليمية، والإستثمار، وشبكات سلاسل التوريد، مع فوائد إقتصادية قوية. هذه العوامل مُجتمعة فتحت الطريق أمام الإقتصاد الذي إزدهر ليس فقط بسبب السلع الأساسية، ولكن أيضاً نتيجة التصنيع الموجَّه للتصدير.
وأقرب إلى العالم العربي، توفّر التجربة الإيرانية دروساً مماثلة. مثل بوتسوانا وماليزيا، كانت إيران منذ فترة طويلة موطناً لمصالح إقتصادية متنوعة التي شكّلت بعمق سياستها الإقتصادية، والتي حوّلتها من إقتصاد البازار الشهير الذي كانت تديره الطبقات التجارية الحضرية الإيرانية، إلى قطاع سيارات قوي وقاعدة صناعية صلبة من السلع الإستهلاكية. كما شجع الوضع الجيوسياسي طهران على التنويع، لأن العزلة التي واجهتها في أعقاب ثورة العام 1979 والعقوبات الدولية اللاحقة لم تترك للنخب الحاكمة خيارات أخرى سوى التطلع إلى أبعد من النفط، إلى قطاعات مثل البتروكيماويات والسلع الإستهلاكية. وكانت النتيجة إقتصاداً أكثر تنوعاً من كثير من جيرانها العرب.
تفتقر الدول العربية النفطية في الخليج إلى جميع هذه المكوّنات الثلاثة التي سهّلت التنويع الإقتصادي في قصص النجاح هذه: الدوائر الإنتخابية المختلفة الإقتصادية، والتحالفات السياسية القوية، والآثار الإقليمية المفيدة. في الواقع، في فترة ما بعد الإستقلال، العديد من الإقتصادات الخليجية العربية لم يرث الدوائر الإنتخابية الإقتصادية التي يمكنها أن تكسب أدواراً سياسية قوية. بدلاً من ذلك، بقي النشاط الإقتصادي محصوراً في الأوساط الملكية الحاكمة. وقد أدى إكتشاف النفط إلى تفاقم المشكلة، حيث أنه مكّن الحكام من تقييد طبقة التجار في عقود مع الدولة وغيرها من أشكال المحسوبية. كما أن الصراع المتفشي في المنطقة قوّض آفاق الإنتاج الخاص من طريق تعطيل روابط السوق بين الدول.

ملعقة من السكر

للإبتعاد من الإعتماد على النفط، مع ذلك، تحتاج المجتمعات العربية الخليجية إلى تطوير تسوية سياسية جديدة تُجبر النخب للتنازل وإفساح المجال للقطاع الخاص. غير أن ذلك يثير سؤالاً صعباً: إذا كان الإقتصاد المغلق المعتمد على الموارد يفيد النخب، فما هو الشيء الذي يمكن فعله لإقناع تلك النخب بالسماح للتنويع؟
الجواب المُحتمل يكمن في السياسات التي تعوّض النخب عن الخسائر التي ستعاني منها جراء تحويل وتسوية المجال الإقتصادي. من جهتها تقدّم الصين مثالاً توضيحياً لهذه العملية: من خلال دمج قادة الأعمال في بنية الحزب الشيوعي، تمكّنت بكين بمحاذاة وربط الإصلاح الإقتصادي مع مصالح النخب السياسية. أو لنأخذ قضية إثيوبيا، والتي تُعتبر الآن بين الإقتصادات العشرة الأسرع نمواً في العالم، التي أنشأت شركات مملوكة للحزب بدعم من أوقاف متخصصة لتشجيع الإستثمار في المناطق المتخلّفة. مثل هذه النماذج الرأسمالية الحزبية تثير أسئلة صعبة حول المنافسة في السوق. لكنها مع ذلك تثبت أن النخب تميل إلى صالح توسيع الكعكة الإقتصادية عندما تشعر بأنها مستفيدة وتقود المستفيدين.
يوفّر إنخفاض أسعار النفط لدول الخليج فرصة للإصلاح المؤسسي الخلّاق المماثل. لقد نظرت دول عدة في المنطقة إلى القطاع المالي بإعتباره السبيل الرئيسي للتنويع؛ حتى الآن، مع ذلك، فقد ترددت في تنفيذ السياسات القانونية والتنظيمية التي من شأنها أن تضع هذا القطاع على أسس سليمة، وما زالت الأسواق الثانوية الإقليمية للدين متخلّفة. وفيما يستعد بعض دول الخليج لإصدار سندات لتعويض التحديات المالية التي نتجت من إنخفاض أسعار النفط، ينبغي عليها النظر أيضاً في السعي إلى تحقيق هذه الإصلاحات المالية التي طال إنتظارها، من بينها وضع لوائح تحوطية للإقتصاد الكلي. يمكن للدول العربية الغنية بالنفط أيضاً أن تنظر في فتح القطاعات المحمية، مثل السلع الإستهلاكية، والإسكان، وأسواق العقارات … للمنافسة المحلية والأجنبية. لكن لنجاح تحقيق أي تنويع، فإن النخب الحالية بحاجة إلى أن تصبح أصحاب مصلحة في الإصلاح من خلال تصميم ذكي مؤسسي.
تالياً، من غير المرجح أن ينجح التنويع من دون روابط أوثق بين الإقتصادات الخليجية العربية. إن المؤسسة الخاصة تزدهر على الإتصالات والروابط الإقليمية التي تدعم سلاسل التوريد الكثيفة، وتمنح، كما تضمن، أسواقاً أكبر لمنتجي القطاع الخاص، وتحفّز الحكومات على مواصلة الإصلاحات التجارية. في آسيا وأميركا اللاتينية، على سبيل المثال، تسهّل الأسواق الإقليمية المترابطة التصنيع من طريق السماح للشركات بالمشاركة في سلاسل التوريد العالمية. إن الحديث عن التعاون الإقليمي قد يبدو غير عملي في المناخ الأمني الحالي في الشرق الأوسط، ولكن سيكون من الصعب تجنب السؤال الإقليمي في المستقبل. في الواقع، ينبغي أن يكون التكامل الإقتصادي عنصراً أساسياً في أي محاولة للفرار والهروب من العنف في المنطقة. وعلى الرغم من أن دول الخليج العربي مستقلة إقتصادياً فيمكن أن يُنظر إليها بإعتبارها تحدياً لمصالح القوى الغربية، التي ستكون لها فوائد أيضاً: فكما أظهرت أزمة اللاجئين الأخيرة، فإن الآثار غير المباشرة للصراع الإقليمي يصعب إحتواؤها، لذا فإن نظاماً سلمياً وإجتماعياً مزدهراً سيفيد القوى الإقليمية والأجنبية على حد سواء.
إن التنويع الإقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي لم يصل حتى الآن إلى مرحلة تكنوقراطية. وهو يحمل آثار قوة عميقة للنخب الحاكمة والديناميات الإقليمية الأوسع. وإذا كانت الدول الخليجية تأمل في جني الفوائد التي يعد بها التنويع، فينبغي عليها تخفيف التكاليف التي قد تُفرَض على النخب الحاكمة وزيادة التحفيزات لها وإستغلال الفوائد التي يتيحها للمنطقة ككل.
ويبقى، هل نشهد لعنة الإعتماد على النفط، وخلق الموت البطيء في المنطقة فيما يجري إستنزاف صناديق الثروة السيادية تدريجاً لتمويل العجز المالي؟
لقد فشلت دول عدة في دفع جيل الشباب العاطلين الي العمل، والآن سيكون لديها القليل لتقدمه إلى الجيل المقبل. الإقتتال الداخلي الإقليمي، والفساد، والإنقسام الطائفي المتزايد، جميع هذه العوامل تغذّي عادة طريق التدخل الأجنبي وغالبها ناجم عن الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، وتلوح في أفق المنطقة أجيال من الفقر، إلا إذا كان شكّل الوضع اليوم نداء لإيقاظ الحكام والقادة العرب في الخليج وغيره لتحمل المسؤولية الإقتصادية وأعباء التنمية والأمن والرعاية الإجتماعية، وقبل خسارة كل شيء أمام الإرهاب والإجرام.
لقد أثبتت دولة الإمارات العربية المتحدة إلى حد كبير أن الأمن الإقتصادي ممكن، ولكن عدداً قليلاً من الدول الآخرى في المنطقة لديها سياسيون وقادة أصحاب رؤية وبصيرة مثل حكام أبوظبي ودبي السابقين و الحاليين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى