مأساة الفلسطينيين

منذ ثلاثينات القرن الفائت والفلسطينيون يحاولون الحرب والسلام، العنف وغصن الزيتون، للوصول إلى إقامة دولتهم، لكنهم لم يحصدوا إلّا خيبات الأمل من العالمين العربي القريب والدولي البعيد، ومن زعمائهم الذين قسّمتهم السياسة وأعمتهم المحسوبية والفساد. من هنا لم يجد شباب القدس الشرقية سوى العنف بالسكاكين أمامهم لعلّ وعسى.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس: فقد مصداقيته
الرئيس الفلسطيني محمود عباس: فقد مصداقيته

بيت لحم – سمير حنضل

إن تصاعد العنف الحالي بين الفلسطينيين في الأراضي التي إحتلتها إسرائيل في العام 1967 غير عادي في كثير من النواحي. ديموغرافياً فهو يتركّز بشكل كبير بين الشباب، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و16 عاماً في المقام الأول، ويتركّز جغرافياً في القدس الشرقية. وهو بلا قيادة إلى حد كبير، وفي الغالب تبدو أعمالهم عفوية صادرة من غضب فردي. إذا كانت هناك قوة تنظيم من أي نوع، فإنها تتمثّل بوسائل الإعلام الإجتماعية، مثل “تويتر” و”واتساب” و”فايبر” و”فايسبوك”، التي من خلالها يتواصل هؤلاء الشباب على هواتفهم النقالة. ولكن هذه الوسائل لا تشكّل هيكلة قوية أو عاملاً توجيهياً. وتلك المنظمات مثل “حماس” وأولئك الأشخاص مثل الدعاة الدينيين المتطرفين الذين يحاولون الإستفادة من الوضع، وتأجيج نيران الغضب، يُظهرون كل بصمات الإنتهازيين الذين يسعون إلى وضع اليد على الظاهرة القائمة. إن الفكرة بأنهم ملهمون حقاً، ناهيك عن القيادة أو التوجيه، للعنف من المرجح أنه غير صحيح. كما لا يبدو أنهم إستفادوا مباشرة إجتماعياً أو سياسياً من الإضطرابات، حتى الآن على الأقل.
وقد إقترح كثيرون أن هناك صلة للغضب بالأماكن المقدسة، نظراً إلى أن القدس الشرقية تمثّل نقطة محورية في تصاعد الهجمات. وقد يكون هذا الأمر وارداً، ولكن ليس أكيداً. ولأن طبيعة الهجمات هي عمليات طعن فردية عشوائية ضد اليهود الإسرائيليين، فإن هناك تفسيراً مختلفاً تماماً للتركيز على القدس الشرقية. إنه المكان الوحيد في الأراضي المحتلة حيث أن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم العسكري الإسرائيلي يمتزجون مع اليهود بحرية وسهولة. بالمقارنة مع معظم المدن الأخرى في العالم، فإن القدس الشرقية التي تحتلها إسرائيل هي معزولة بشكل جذري، وكذلك منفصلة وغير متكافئة لدرجة كبيرة. ولكن بالمقارنة مع باقي مناطق الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً المراكز السكانية الفلسطينية في المنطقة “أ” “A،” فإن العرب واليهود يتفاعلون بإنتظام في القدس الشرقية، وبالتأكيد إلى حدّ لم يُسمَع به، على سبيل المثال، في رام الله. ولذلك قد يعكس الطعن العشوائي في القدس أيضاً فرصة أكبر، فضلاً عن شعور أقوى للوجود الإسرائيلي عموماً.
هذا التمييز بين القدس الشرقية و”المنطقة أ” يكشف أيضاً الكثير عن طبيعة الغضب الفلسطيني. إن “المنطقة أ” ترمز إلى المناطق الفلسطينية التي تُدار ذاتياً التي وضعتها إتفاقات أوسلو في العام 1993، تحت سيطرة هيئة حكم إنتقالية لمدة خمس سنوات والمعروفة ب”السلطة الفلسطينية”. وأصبحت الفترة الإنتقالية لمدة خمس سنوات دائمة منذ العام 1993، نظراً إلى مرور 1998 من دون أي إمتعاض يشير إلى تذمر. ومع بعض التعديلات الطفيفة، فقد ثبت أن التسوية التي أدخلها أوسلو على ممارسة الإحتلال لن تكون بداية النهاية لحكم إسرائيل، وإنما بداية لممارسة الفلسطينيين حفظ النظام والأمن بأنفسهم في مراكزهم السكانية نيابة عن اسرائيل وبرنامج مستعمراتها المستمر. لم يحقق الفلسطينيون الإستقلال الذي توقعوه أن يتبع إتفاقات أوسلو في العام 1993، والذي إعتقدوا بأنهم سيحصلون عليه من خلال تلك الترتيبات. بدلاً من ذلك فقد وجدوا أنفسهم في وضع، بإستثناء القدس الشرقية، مجبرين فيه على العيش تحت الحكم المباشر لقيادة فلسطينية محلية فاقدة المصداقية، وسيطرة أوسع للجيش الإسرائيلي، مع عدم وجود نهاية في الأفق.
هذا بالضبط هو الشعور بالركود التام الذي يبدو أنه يقود الغضب الذي أُعرِب عنه في هجمات الطعن. الفلسطينيون ليسوا بطبيعتهم عدميين. لكن الشبان الفلسطينيين، والكثير من بقية المجتمع، يشهدون ويعيشون لحظة عدمية، التي لا يؤمنون بها أو التماهي مع الكثير من أي شيء خارج الأسرة الذرية المباشرة، لأن ليس هناك حقاً شيء لهم يفيدهم سياسياً أو إجتماعياً. إن السلطة الفلسطينية التي يتزعمها الرئيس المسن محمود عباس، قد فقدت كل مصداقية لدى الفلسطينيين العاديين. فإنهم ينظرون إليها على أنها فاسدة، غير فعّالة، وأنها تمثّل نهجاً ديبلوماسياً وسياسياً إلى التحرر الوطني والإستقلال فشل فشلاً ذريعاً وكاملاً. وقد أثبتت المفاوضات مع إسرائيل بأنها عقيمة تماماً، والحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ينظر إليها الفلسطينيون عالمياً على أنها معادية علناً للسلام على أساس حل الدولتين. وتُعتبر تصريحات نتنياهو خلال الإنتخابات الإسرائيلية الأخيرة نهائية وقاطعة وإنعكاساً لسياسات تل أبيب الحقيقية، التي ترفض تماماً فكرة إقامة دولة فلسطينية. ويُعتبَر تعيين نتنياهو للمتطرف وزعيم المطالبين بضم المستوطنات داني دانون لتمثيل إسرائيل في الأمم المتحدة، مزيداً من التأكيد على أن الدولة العبرية ترفض تماماً إحتمال العيش في سلام مع دولة فلسطينية مُستقلة. إن تصريحات نتنياهو بأنه مستعد للتفاوض في أي وقت، من دون شروط مسبقة، وأنه لا يزال ملتزماً بحل الدولتين ليست لديها عملياً أي مصداقية بين أي دائرة إنتخابية فلسطينية على الإطلاق.
إن إنهيار الأفق السياسي بشأن محادثات السلام مع إسرائيل قد تفاقم بإنتشار الشعور على نطاق واسع بين الفلسطينيين أن نهج عباس “البديل” من المبادرات في المؤسسات المتعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية هو في طريق مسدود مماثل. لقد سمع الفلسطينيون وشهدوا ما يكفي من الخطب وتوقيع الإتفاقات التي تعكس هذا النهج الذي لم يسفر عن أية تغييرات من أي نوع على أرض الواقع للفهم بأن هذا المسار ليس بديلاً مجدياً لتحقيق حقوقهم الوطنية والسياسية. وعلاوة على ذلك، إن الإنهيار المأسوي لبرنامج بناء الدولة والمؤسسات التي قادها رئيس الوزراء السابق سلام فياض دمَّر المسار الموازي الذي كان واعداً لتطوير المؤسسات، الذي ينظّم الأطر والهياكل الإقتصادية لدولة مستقلة، على الرغم من الإحتلال ومن أجل وضع حدّ للإحتلال. كانت الإستجابة الإسرائيلية والغربية قصيرة النظر بشكل مثير للدهشة للمبادرات الفلسطينية المتعددة الأطراف من خلال مهاجمة موازنة السلطة الفلسطينية وتدمير قدرة فياض على تأمين الأموال ليس فقط لبرامجه ولكن حتى لدفع الرواتب وتدمير مصداقيته كمحاور مع الجهات المانحة الدولية، الأمر الذي سمح لكوادر حركة “فتح” وغيرها من منافسيه الفلسطينيين التخلص من هذا المُصلِح المزعج وسياساته الفعّالة والمُستقلة أيضاً.
الواقع أن الهجوم الإسرائيلي والغربي ضد فياض في محاولة مضلّلة لإنتقاد المبادرات المتعددة الأطراف الفلسطينية، حيث كان من المفارقات تقريباً أنه وحده يُستجوَب، يعكس فشل واشنطن المستمر للنظر في تأثير سياساتها في السياسة الفلسطينية والثقافة السياسية. وهكذا بالنسبة إلى الموجة الحالية من الإضطرابات. إن تصاعد العنف الحالي هو مأسوي ومضلّل، ولكن أيضاً عملياً لا مفرّ منه تقريباً، رداً على عدم قدرة الجيل الفلسطيني الجديد العثور على أي شيء يستطيع من خلاله تحديد نفسه، أو يمكنه من خلاله التعبير عن هويته السياسية والوطنية. كل مبادئ شباب هذا الجيل المُحتملة تعرضت للقمع، أو قُلّل من أهميتها، أو صارت مصدراً للسخرية من قبل قيادتهم الفاشلة، أو الإحتلال المستمر، والإنعدام التام لأي أفق سياسي أو ديبلوماسي لوضع حد لها. لم يعثر الفلسطينيون الشباب على شيء يؤمنون به من “حماس” أو غيرها من الجماعات المتطرفة. سياسات هذه المنظمات لا تقدم شيئاً سوى المعاناة الكبيرة التي تتضح بسهولة في غزة، وفشل خطابها بالمثل الذي يضرب على الوتر الحساس، ربما بإستثناء الغضب الخام والعنف. ولكن ليس هناك دليل على أن هذه المنظمات تستفيد بأي معنى هادف من التشنج الحالي للعنف، وهناك أسباب تدعو إلى الإعتقاد بأنها على قدم المساواة، أو ربما حتى أكثر من ذلك، تفقد مصداقيتها بين الشبان الفلسطينيين.
إن الرسائل المُوجَّهة إلى الفلسطينيين العاديين من جميع الجهات تُشعل هذا الغضب واليأس. رسالة إسرائيل لا لبس فيها وهي: “لقد هُزمتم وقُهِرتم، والآن عليكم بقبول نصيبكم”. ويُنظّر إلى رسالة القادة السياسيين الفلسطينيين تقول أساساً: “نحن أبطالكم، ولكن ليس لدينا أي فكرة حول كيفية تعزيز مصالحكم، وتعزيز قضيتكم أو الحصول على إستقلالكم”. ويبدو الغرب، والمجتمع الدولي عموماً، يقولان: “سوف نعود إليكم في أقرب وقت عندما يبدو أن إسرائيل مهتمة بالسلام مرة أخرى، والآن في هذه الأثناء هنا بعض الكلمات الرقيقة والمساعدات المحدودة”. وإلى حد كبير، فإن العالم العربي ليس لديه رسالة واضحة للفلسطينيين، إذ أنه مهتم تماماً في الأزمات الأكثر إلحاحاً مثل الحروب في سوريا وليبيا والعراق واليمن، وصعود الحركة الإرهابية “الدولة الإسلامية” (داعش). إن الفلسطينيين، مثل كل العرب، يحصلون على المعلومات السياسية الدولية بشكل رئيسي من القنوات الإخبارية الفضائية العربية مثل القناة القطرية “الجزيرة” والسعودية “العربية”. لذلك لديهم شعور قوي عن أن قضاياهم هي إلى حد كبير تجلس في المقعد الخلفي العربي، حيث فقدت إهتمام حتى أشد أبطالها المتحمّسين. ومن الصعب المبالغة في الشعور بالعزلة واليأس والهجر واليأس.
هذا هو السياق المباشر لتصاعد العنف الفلسطيني، الذي يجري أيضاً تغذيته بقوة بواسطة القمع العنيف من قوات الإحتلال الإسرائيلي وحتى الهجمات الأكثر عنفاً من قبل المستوطنين اليهود المتعصّبين. وفي قمة الأزمة الوجودية التي تواجهها الهوية السياسية الفلسطينية تأتي دورة متبادلة من الإنتقام المتبادل مع المستوطنين، وإلى حد ما حتى مع الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي يزيد الوقود على لهيب الغضب. من دون الحاجة إلى القراءة، أو حتى تقريباً عدم السماع، كتب فرانتز فانون مقالته التي لا تزال ذات صلة “في ما يتعلق بالعنف”، حيث تبدو سكاكين الشباب في القدس الشرقية تتوجّه حسب فكرته: “على مستوى الأفراد، إن العنف قوة تطهير. إنه يحرر السكان الأصليين من عقدة الدونية ومن اليأس والتقاعس عن العمل، وهذا ما يجعله لا يعرف الخوف ويعيد له إحترام الذات”. ومن المؤكد أن هذا الكلام يبدو أنه يشكل إجابة الأمر الواقع التي يفرضها العنف عن رسائل اليأس التي تحفز الهزيمة المقبلة من الجهات المذكورة في الفقرة السابقة.
بالطبع إنه وهم مأسوي. لا يوجد تاريخ بشري يوضّح آثار الهزيمة الذاتية والنتائج العكسية للعنف، سواء كان جماعياً أو فردياً، عشوائياً أو منتظماً، أفضل وأكثر من التجربة الفلسطينية المعاصرة. هزيمة بعد أخرى – بدءاً من الإنتفاضة ضد البريطانيين في منتصف ثلاثينات القرن الفائت وصولاً مباشرة إلى حروب غزة في السنوات الأخيرة – كانت الإرث الحقيقي الوحيد الذي ترك للجيل الجديد من الفلسطينيين. ولكن، بسبب الحقيقة النفسية في تركيبات مقالة فانون المُرعبة، عندما يرى الشباب أن لا وجود لبدائل معقولة وليس لديهم أي شيء يمكنهم من خلاله تحديد أنفسهم، أو الذي يمكن من خلاله توجيه معظم إحتياجاتهم الوجودية والسياسية الأساسية، يصبح العنف البديل الوحيد الذي لا مفر منه. إن العنف يعرّف الواقع الفلسطيني. والإحتلال الإسرائيلي هو بطبيعته نظام عنف، وليس فقط لأنه بنية هيمنة وحكم عسكري على ملايين المحرومين غير المواطنين، فهو يسهّل ويفرض المشروع الإستيطاني المستمر، والذي يقع في قلب الإحتلال، والذي يعتمد على واقع ثابت وتهديد بإستخدام القوة الغاشمة. حاول تخيّل برنامج تسوية لا عنفية التي تستخدم المنطق لإقناع الفلسطينيين بالتخلي طواعية عن ممتلكاتهم، وأراضيهم سواء الفردية أو الجماعية، وتسليمها للوافدين الجدد من بروكلين ولاتفيا أو إثيوبيا. إن العبثية لمثل هذا السيناريو توضّح بسهولة العنف الذي يكمن وراء المشروع الإستيطاني، كما يُعرَب عنه مباشرة يومياً عند نقاط التفتيش وغيرها من نظم المراقبة والإنضباط والسيطرة الذي يحدد حياة الفلسطينيين، بما في ذلك في القدس الشرقية.
أكبر مأساة هي أنه بالنسبة إلى الشباب الفلسطينيين الذين يشنون هجوماً عنيفاً، فإن الحقيقة هي أنهم يفعلون ذلك عبثاً، أو حتى أنهم يشاركون في مشروع هزيمة ذاتية، يكاد يكون من المؤكد أنه غير ذي صلة تقريباً. المنطق النفسي الذي عبّر عنه فانون ينسخ هذه الحجج الدامغة، وخصوصاً بالنسبة إلى الجيل الجديد من الشباب في القدس الشرقية، المحاط والمُختنق تماماً من قبل الإحتلال. إنها لحظة عدمية حيث العنف الفردي العشوائي ضد الإسرائيليين كشكل من أشكال إثبات الذات يصبح أكثر أهمية من الواقع حيث لا يمكن الدفاع عن هذه الأعمال ليس فقط من الناحية السياسية والناحية الأخلاقية، ولكن أيضاً لأن لها نتائج عكسية على أي شيء بنّاء. إن الواقع الرهيب للإحتلال الذي لا نهاية له في الأفق، مع غياب أي إطار معقول أو حتى غير قابل للتصديق في الأفق لوضع حد له، قد فرض عملياً ظهور وضع مرعب “طبيعي جديد” بين الإسرائيليين والفلسطينيين. في تلك الأماكن حيث يتفاعلون يومياً وبشكل روتيني، مثل القدس الشرقية، هذا يعني أنه سيكون من المؤكد وجود تهديد مستمر للعنف الفردي والعشوائي من قبل الفلسطينيين رداً على العنف الجماعي والمنهجي للإحتلال الإسرائيلي. فقط تغيير في الواقع الأساسي للإحتلال، وتغيير الشروط الأساسية التي يتفاعل من خلالها المحتل والواقع تحت الإحتلال، المُهيمِن والمقهور، في الوقت الحاضر، أو ظهور مفاجئ وغير متوقَّع لأفق سياسي جديد، من المرجح أن تنجح في تجنب هذا الروتين الجديد والمأسوي “الطبيعي” بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين الذين يعيشون تحت سيطرتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى