على عَتَبَةِ الدّار

عبد الرازق أحمد الشاعر*

الذين سرقوا مِفتاحَ بيتِكَ ووثيقةَ مُلكيته وغَيَّروا الأقفالَ والستائر وألوانَ الجُدران، لن يستطيعوا تغيير وقائع التاريخ ولا بوصلة قلبك ولا ألوان عيونهم. وإن استطاعوا أن يُغَيِّروا عَتَبة بيتك، فلن يتمكّنوا من الجلوس هناك ليتبادلوا أقداح القهوة العربية والضحكات والأهازيج البدوية، ولن يعشقوا السَمَرَ حتى منتصف الليل مثلك، وإلّا فضحتهم لكنتهم الوافدة، وأنكرتهم أشجار الزيتون والميرمية. “على عتبة الدار” لك ذكريات أسمار ورائحة ياسمين لا تختلط أبدًا بعرق الغزاة ورائحة بارودهم، ولك تاريخ لا يُنسى. وإن نسي جيلٌ أو جيلان، فسيأتي ثالثٌ ليدقّ الأبواب التي أَلِفَت الصمتَ عقودًا ليُذكِّر الجالسين فوق صدور الخرائط إن للبيت ربًّا يحميه، وإن للحق مُطالِبًا. هذا ما تؤكده ساهرة درباس في فيلمها الجريء “على عَتبة الدار”.

يروي الفيلم قصة فاليري – فتاةٌ فلسطينية تبلغ من الوعي واحدًا وعشرين عامًا – سليلة عائلة بشارات، تلك العائلة التي أخرجتها عصابات الهاغناه من أرضها وديارها في العام 1948 بِغَيرِ حقّ. بعد جيلين من الصمت المُطبِق، تُقرّر الفتاة في خطوةٍ مُتَهَوِّرة أن تُغادِرَ أرض المهجر – الولايات المتحدة الأميركية – وأن تتوجّه إلى القدس الغربية لتفتح شرايينها على قلب الأرض المُغتَصَبة. وبعد تمكّنها من اجتياز عوائق الدخول، تقف فاليري أمام بوابة “هارون الرشيد” لتتأمّل أحجار ال”فيللا” التي كانت لأجدادها قبل أن يُشَرعِنَ الإنكليز مُلكِيّتها للغزاة.

وتتمكّن الفتاة من الدخول إلى مخزنِ الذكريات، لتلتقي بجيزيل أرازي – امرأة يهودية تبلغ من العمر ستة وتسعين عامًا – التي لا تُشبِهُ المكان في شيء، وكأنّها تمثالٌ من صلصالٍ داخل معرضٍ للموبيليا. ولأنه في بلادنا المغلوبة على ضعفها يُعطي دوما مَن لا يملك مَن لا يستحق، استطاعت التسعينية يوم جاءت مع الغزاة أن تحصلّ على مفاتيح “هارون الرشيد” من المُستأجِرين البريطانيين بدون مقابل.

لم يكن الفيلم مُجَرَّد فانتازيا تاريخية، فقد كان أقرب إلى الفيلم الوثائقي منه إلى العمل الدرامي، حيث استغرق الأمر من ساهرة درباس سنواتَ بحثٍ شاقة سافرت خلالها إلى الولايات المتحدة للبحث عن آخر المُعمّرين من عائلة بشارات والالتقاء به من أجل توثيق روايتها الشيِّقة. واستطاع الفيلم أن يحصلَ على تنويهٍ خاص من لجنة تحكيم مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” في العام 2018، وتنويهٍ آخر من لجنة تحكيم الفيلم الوثائقي الطويل في مهرجان القدس السينمائي الدولي الرابع الذي أُقيمَ في مدينة غزة في العام 2019.

ليس الأمرُ مُجرّد بكاءٍ على الأطلال إذًا، يشهد بذلك حيّ الطالبية الذي تدور في أروقته أحداث الفيلم، وفيللا “هارون الرشيد” التي تحدّثت عنها غولدا مائير باعتبارها أحد المعالم المهمة. ولم تكن الضفة الغربية صحراء بلقع كما يحلو للغزاة أن يصوروها؛ تشهد على إفكهم حجارة الفيللا العتيقة وتصميمها العربي الأصيل.

الفيلمُ مُواجَهَةٌ كُبرى بين وعي شاب وباطل عجوز؛ بين فتاة يافعة وامرأة أكل عليها التاريخ وشرب. وفي الصراع، كما في الواقع الأليم، ينتصر القبح والتاريخ الزائف والمفاتيح المُزَوَّرة على أصحاب الدار والأعتاب القديمة. في الفيلم، تُحرَمُ الفتاة من الدخول إلى حقّها التاريخي حين تطرق الباب للمرة الثانية، لتتأكد الغلبة لأصحاب العيون الخضر والبشرة البيضاء والأسلحة الرشاشة والخُوَذ الحديدية والبيادات الغليظة.

الفيلمُ تصويرٌ للواقع من وجهة حق فلسطينية، وبرؤيةٍ أقرب إلى الصرخة منه إلى الحكاية. ففي ظلِّ تراجُعِ الحقّ أمام فوهات المدافع والطائرات المُسَيَّرة، وفي ظلِّ تكالبِ الأنظمة العربية على لَعقِ أحذية المُحتَل والتذلّل أمام سلطانه الغشوم، وفي ظلِّ تراجُعِ الوعي العربي واكتفاءِ المواطن بالعيش بدون الحرية والرغيف بدون الأمل، وفي ظل هبوط حاد في بورصة الفن، الذي بدأ يخلع من دون حياء آخر قطعه التحتية في إفلاسٍ مُدقِع، ما الذي يمكن لفتاةٍ عشرينية أن تفعله أمام باطلٍ قديم يزداد رسوخًا كلّ يومٍ فوق أرضٍ لا تُشبِهه؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى