لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (49): القضاءُ الغافِل!

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

سجن رومية: كثيرون من ساكنيه مسجونون مَنسيون بدون محاكمة.

سليمان الفرزلي*

في عَهدِ الانتداب الفرنسي، (1920 – 1943)، كانَ القضاءُ في لبنان مُختَلَطًا، لكنّهُ كانَ منارةً تشعُّ بالعدلِ والثقافةِ والتنوير.

لم تَكُن في ذلك الوقت وسائلُ ترفيهٍ ثقافي كثيرة كما في الوقتِ الحاضر، فكانَ الناسُ مِمَن لديهم قدرٌ من المعرفة يقصدون المحاكم العدلية لحضورِ المحاكمات، حيث يتبارى المحامون الكبار أمامَ كبارِ القضاة بأفصَحِ لسانٍ للبلاغة والبيان، باللغتين العربية والفرنسية، في عَرضِ مطالعاتهم القانونية بأرفعِ ما تكون عليه قواعد الخطابة واللغة. وهذه عادةٌ قديمة في الغرب من أيام الجمهورية الرومانية منذُ القرون الأولى قبل الميلاد، وعلى تقاليدها أنشأت تاليًا كلية بيروت للحقوق التي كان يقصدُها الطلاَّب من جميع أنحاء الإمبراطورية.

وقد كَشَفَت أعمالُ التنقيب في مدينة “بومبايي”، التي طمرتها حِمَمُ بركان “فيزوفيوس” في جنوب إيطاليا، عن مجمعٍ قضائي كان يأتي إليهِ المحامون الجُدُد المغمورون، مُتبَرِّعين بخدماتهم للمتقاضين مجّانًا من أجل أن يكتسبوا الشهرة في المُرافعة كوسيلةٍ إعلانية عن مهاراتهم لاجتذاب المُوَكِّلين في المستقبل.

في بيروت، ظلَّ الناسُ يقصدون المحاكم لحضورِ المُحاكماتِ للاستمتاعِ بمُرافعاتِ مشاهير المحامين، وأحكامِ أرفعِ القضاة ثقافةً ونزاهةً حتى عهد الرئيس شارل حلو في النصف الثاني من الستينيات. وقبلَ تخرُّجي من الجامعة، في العام 1960، حضرتُ مُحاكمةَ صديقٍ لي لم يُكمِل دراسته الجامعية، وعَملَ مُدرّسًا في مدرسةٍ ابتدائية في قريته، كان حُكِم بالإعدام لجريمةِ قَتلٍ لم يرتكبها، بناءً على إفاداتٍ مُغرِضة. وكان ذلك أمام محكمة التمييز برئاسة القاضي محمود البقاعي، حيث ألقى محامي الدفاع مُطالَعة بليغة، لفتت انتباه رئيس المحكمة ببلاغتها، وحججها، فأخذَ قلمه وراح يخطُّ به ملاحظاتٍ على دفترٍ أمامه. فقال له المحامي: “عندما أراكَ تكتبُ بالقلمِ أمامك أجدني أفرح، لكنني أيضًا أرتعد”. وقد سُرِرتُ كثيرًا يومها لأنَّ صاحبي خرج بريئًا، ولأنني ذُهِلتُ بمستوى الحضور، من محامين وقضاة ومشاهدين.

هذه السمعة النقيَّة والعالية للقضاة والمحامين فقدها لبنان مع الأسف الشديد، كما فَقَدَ أشياءً كثيرة جميلة وراقية بفعلِ الحربِ الأهلية المُستَدامة حتى اليوم، بحيث تجرّأ مسلحون في مدينة صيدا، في أواسط تسعينيات القرن الماضي، على مهاجمةِ قاعةِ للمحكمة وقتلوا بالرصاص أربعة من القضاة وهم بلباسهم الرسمي على قوس العدل. ومن ذلك الوقت صار القضاء في لبنان وكأنه “مَذعور”!

لقد سقطَ القضاءُ اللبناني، مذذاك، في حالةٍ غير مفهومَةٍ من الانفصام القانوني، ما يسمح بالقول إنها “حربٌ أهلية بين القضاة”، بلغت أشدّها في مهزلة التحقيق العدلي بحادثِ تفجيرِ مرفَإِ بيروت صيف العام 2020. ومع أنَّ هذه الحالة غريبةٌ ومُستَهجَنة، لكنها في بلد مثل لبنان حيث الدولة ومؤسّساتها واقتصادها، والكيان السياسي والاجتماعي العام، في وضعٍ من الفشل والشلل والانحلال، تبدو وكأنها “طبيعية”. ففي هذا الوضع المتدهور منذ سنوات، فإنَّ كلُّ ما هو غير طبيعي (بالمفهوم الحضاري) يبدو طبيعيًا. فالحربُ الأهليةُ القائمةُ بين القضاة على مسرح قصر العدل، بعد إضراب القضاة لأشهرٍ طويلة، ما هي إلّاَ انعكاسٌ للحرب الأهلية العسكرية، والسياسية، والاقتصادية.

فلو كانَ تحقيقُ العدالة هو التوجُّهَ الأساس للقضاة المُتحاربين، لكان عليهم البتُّ في قضية انفجارِ المرفَإِ، وفي غيرها من القضايا النائمة في الأدراج منذ سنين عديدة، وخصوصًا البت في مصائر عشرات الموقوفين في السجون من غير أن يَنظُرَ في أمرهم أحد خلال وقتٍ معقول، وليس على أساس “الوقت المفتوح” إلى حين وقوعِ كارثةٍ ما، فكأنَّ القضاءَ غافلٌ والعدالةَ منسيةٌ أو تغطُّ في نومٍ عميق، بعدما هجرها حرَّاسها.

لكن ما يُثيرُ الدهشة والقلق لدى اللبنانيين عمومًا، ظالمين ومظلومين، أنَّ العدلَ اللبناني بات انتقائيَّاً أو استنسابيَّاً، حسب مؤثّرات من خارجه. وهو ما سمح لوزيرِ داخلية سابق أنْ يُعلِنَ على الهواء مباشرة، وعلى مسمع العالم كله، أنَّ أكثر من تسعين في المئة من القضاة في لبنان فاسدون. وحتى هذا التصريح مرَّ وكأنَّه لا يعني أحدًا.

وقد عالجَ هذا الموضوع في القرن الخامس قبل الميلاد المؤرّخ والمفكّر الإغريقي ثوقيديدس في كتابه العظيم عن الحربِ الأهلية بين أثينا وإسبارطة “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”، الذي قال في مقدّمته إنه كتبه لجميع الأزمنة، بما فيه زماننا الحاضر بعد أكثر من ألفي سنة، وتحت عنوان “الطبيعة البشرية والسلطة والعدالة”، حيث قال:  “إنَّ الطبيعةَ البشرية يُمكِنُ أن تنحَدِرَ إلى الفوضى الشاملة، عندما تُصابُ المؤسَّساتُ العامَّةُ بالفشل، في حالةِ الحرب الأهلية وانتشارِ الأوبئة القاتلة للناس بصورة جماعية”.

فعندما تكونُ الدولة في أوجِ عظمتها، تُحقق الطبيعة البشرية، مع السلطة، وتحت ضوابط العدالة، إنجازاتٍ خارقة. لكن ذلك يُمكِنُ بلحظةٍ أن يَنقَلِبَ إلى أفعالٍ جرمية شنيعة عندما تتهاوى مقوّمات المجتمع وتنحدرُ إلى الفوضى.

إذ بانهيارِ عظمةِ الدولة تنحلُّ أخلاقيات المجتمع، وتختفي القوانين والأنظمة، وتتوارى العدالة. وبالتالي تنحَلُّ الديموقراطية، وتنشأ الفوضى، وتختفي الفضائل، ويسودُ حُكمُ الرعاع، وتتشكّلُ الجماعات أو العصابات العَصيَّة. وعندما تسودُ عقليَّةُ الرُعاع تسقطُ الفضائل المُكتَسَبة من حالاتِ التميُّز والتألُّق السابقة، فكأنها لم تكن.

إنَّ العدالةَ في لبنان باتت مُهلهَلة إلى درجةٍ تبدو معها أوضاعها أيام القاضي عدنان عضُّوم في مرحلةِ الوصاية السورية مَشهَدًا لائقًا. ومن أوضَحِ الأدلّة على ذلك مسألة الموقوفين في سجن رومية لسنواتٍ طويلة من غير محاكمة. وبعدَ أخذٍ ورَدّ، ومُداولاتٍ عَقيمة، قرَّر القائمون على العدلية بناءَ قاعةٍ للمحكمة داخل أسوار السجن (لئلا يهرب السجناء عند نقلهم إلى محاكم خارجه) كلَّفت خزينة الدولة ملايين عدة من الدولارات، وإلى اليوم بعد أكثر من عشر سنوات لم تُدشَّنْ تلك القاعة بأيِّ مُحاكمةٍ عَلَنية.

ولذلك يُمكِنُ الجزم، بدرجةٍ عالية من اليقين، بأنَّ العدالةَ الانتقائية أو الاستنسابية لا تنطبقُ عليها مواصفات العدالة لبلدٍ يزعمُ أنّهُ تحت نظامٍ ديموقراطي برلماني، حيث مفتاح البرلمان في جيب رئيسه المُزمِن يفتحه متى شاء ويغلقه متى شاء. فلا عجب، والحالة هذه، أن يُغلِقَ المحقّقُ العدلي في قضية انفجار مرفَإِ بيروت ملف تحقيقاته لسنوات، ليعود ويفتحه، بما يُشبه العاصفة الهوجاء، ثم يُغلقه من حديد لينام في الأدراج العميقة، فسقطت هيبة القضاء، ومعها مستقبل العدالة في لبنان. وبالتالي لم يَعُد مُمكِنًا لأيِّ مواطنٍ أن يحصلَ على حقّه الطبيعي أمامَ أيِّ محكمة.

وهذا يعني أنَّ مبدأَ فَصلِ السلطات في لبنان هو كلامٌ وَهمي، طالما أنَّ الأقوياء من السياسيين (أي الذين يستندون إلى ميلشيات أو قوى مسلَّحة خارج إطار القوى الأمنية النظامية)، يستطيعون أن يتحكّموا بملفات القضاء، كما يتحكّمون بملفات التشريع في البرلمان، وكما يتحكّمون بعمل الإدارة العامة، بالإضافة الى مختلف أنواع التزوير والتبرير المخالفة أخلاقيًا للانتظامِ العام.

طبعًا، لا يُمكِنُ للبنانيين أن يجنوا من الشوكِ عنبًا، لأنَّ السلطة الميليشياوية المافيوزية لا تستطيع، ولا تُريد، إقامةَ قضاءٍ مستقلٍّ وعادل، لأَنَّ ذلك يُعطِّلُ مصالحها غير المشروعة. فالنظام الفاسد، بطبيعته، منافٍ لمبدَإِ القضاء النزيه، أو الإدارة النظيفة.

فالقضاءُ اللبناني يعمل اليوم (أو هو معطَّل عن العمل) خارج إطار العدالة، ولذلك يبدو ظالمًا في وجهٍ من أوجهه، كما حدث بالنسبة إلى الموقوفين تعسُّفًا في قضايا عديدة مُزمِنة. ومن هذه الناحية فهو قضاءٌ غير سوي، ولو أنه ما زال في عداده قضاةٌ فوق الشبهات.

لذلك فإنَّ القضاءَ في لبنان الميليشياوي هو مفهومٌ افتراضي، طالما أنّهُ عاجزٌ عن تحقيقِ العدالة للمواطنين كأفراد، وللجميع كمجتمع. فهو يحمي مصالح حقيقية غير شرعية للمُتَنَفِّذين، لأنه عاجزٌ عن الوقوفِ في وجههم.

إنَّ الاستقواء على الضعفاء ليس عدالة.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكِن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى