العام 2023 أظهرَ لنا تَكلِفَةَ التَدَخُّلِ الإيراني في الشرق الأوسط

لينا الخطيب*

ينتهي العام 2023 بشكلٍ مأسَوي في الشرق الأوسط، حيث تستمرُّ إسرائيل في الردِّ على الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت بحربٍ على غزة مُدمِّرة بشكلٍ فريد من حيث وتيرة وحجم الخسائر في صفوف المدنيين. لقد أدت هذه الحرب إلى تعظيم الديناميكيات السياسية الدولية التي كانت تُمارَس في المنطقة لفترة من الوقت، خصوصًا في ما يتعلق بالتدخّلات الإيرانية، ودور الأمم المتحدة في الصراعات الإقليمية، والسياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط. وستستمر هذه القضايا الثلاث في لعبِ دورٍ في تحديدِ المشهد للمنطقة في العام 2024. وإلى جانب التحديات المستمرة في أماكن مثل ليبيا وسوريا ولبنان، فإنها تُمثّل سيناريو قاتمًا لما ينتظرنا في المستقبل. لكن هناك أيضًا تغييرًا إيجابيًا يحدث على مستوى الحزم الديبلوماسي من قبل دول الخليج الكبرى.

عندما انتشرت أخبار هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، اختارَ العديدُ من المراقبين اعتبار وتأطير الهجوم كرَدِّ فعلٍ أساسي على احتلال إسرائيل الطويل للأراضي الفلسطينية. ورُغمَ عدم إنكارِ أهمّية هذا السياق، فإنَّ مسارَ الأحداث في المنطقة منذ ذلك الحين سَلَّطَ الضوءَ أيضًا على دورِ إيران كلاعبٍ مُزَعزِعٍ للاستقرار في الحرب. شارك الحوثيون المدعومون من إيران في سلسلة من الهجمات على السفن في البحر الأحمر بحجّةِ استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل. وإيران نفسها، بحسب الجيش الأميركي، هاجمت سفينة بطائرة مُسَيَّرة في المحيط الهندي تحت الذريعة نفسها.

هذه الحوادث وغيرها المُتعَلِّقة بتدخّلات إيران الإقليمية في الشرق الأوسط تحدثُ على خلفيةِ استعادة علاقاتها الديبلوماسية مع المملكة العربية السعودية في آذار (مارس) الفائت؛ ومحاولات إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي أنهته إدارة دونالد ترامب؛ والاتفاق الأميركي الذي تمَّ التوصّلُ إليه في آب (أغسطس) والذي شهدَ إطلاق إيران سراح رهائن أميركيين مقابل الحصول على 6 مليارات دولار من عائدات النفط. ويحدث ذلك أيضًا بينما تواصل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فَرضَ عقوباتٍ على إيران. وفي أعقاب الهجوم الإيراني الأخير بطائرةٍ مُسَيَّرة على السفينة في المحيط الهندي، قال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إن إيران ووكلاءها بحاجة إلى “رسالة واضحة بشكل جدي مفادها أنه لن يتمَّ التسامح مع هذا التصعيد”.

ومع ذلك، خصوصًا مع اقتراب موعد الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024، لا توجد حتى الآن شهية في واشنطن لتطوير استراتيجية شاملة تجاه تدخّلات إيران في الشرق الأوسط، أو الاعتراف بأهمّية إيران كعاملٍ في الحرب المستمرة بين إسرائيل و”حماس”. يتضمّن هذا التعامل الانتقائي مع إيران اعتمادَ واشنطن على نهجٍ غير مُنخَرِطٍ إلى حدٍّ كبير في التعامل مع دور طهران في لبنان وسوريا واليمن، وهو أحد العوامل التي دفعت الدول العربية إلى محاولةِ احتواءِ مخاطر هذا الدور من خلال الديبلوماسية. وتُعَدُّ استعادة المملكة العربية السعودية للعلاقات الثنائية مع إيران أحد مظاهر ذلك، كما كان الحال مع تطبيع الجامعة العربية للعلاقات مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد المدعومة من إيران في أيار (مايو).

ما سَلَّطَ العام 2023 الضوءَ عليه هو مركزية النفوذ الأميركي في المنطقة، سواء من خلال الفعل والنشاط أو التقاعس عن أي فعل. سيستمر العام الجديد في رؤية الآثار الطويلة الأمد للوضع الراهن في سوريا، مع استمرار الاحتجاجات المناهضة للحكومة التي بدأت في السويداء في آب (أغسطس)، واستمرار قصف إدلب من قبل القوات الحكومية وروسيا، والهجمات التي تشنّها الميليشيات المدعومة من إيران على القواعد الأميركية شمال شرقي سوريا. ولن يتوقَّفَ أيٌّ من هذه الأمور ما لم تُقرِّر واشنطن تصميم وتنفيذ استراتيجية شاملة للشرق الأوسط تعالج الدور المُزَعزِع للاستقرار الذي تلعبه إيران ووكلاؤها وحلفاؤها. كما إنَّ الحربَ بين “حماس” وإسرائيل لن تنتهي من دون توجيهٍ واضح من واشنطن.

لكن في الوقت نفسه، أظهر العام أنَّ الدولَ العربية لا تقف على الهامش. إن تقديم الإمارات العربية المتحدة لقرار لمجلس الأمن الدولي بشأن غزة في كانون الأول (ديسمبر)، وقيادة قطر لمفاوضات الرهائن بين “حماس” وإسرائيل، وجمع المملكة العربية السعودية لزعماء العالم العربي والإسلامي في تشرين الأول (أكتوبر)، هي أمثلة على الكيفية التي تحاول بها الدول الكبرى في المنطقة تأكيد ثقلها الديبلوماسي. وتُهَيّئ هذه الديناميكية المشهدَ لعام 2024، والذي من المرجح أن يشهد زيادة ديبلوماسية هذه الدول ونفوذها.

وبالتوازي مع ذلك ستكون هناك إخفاقات مستمرة. لقد سلّطت الحرب بين إسرائيل وغزة الضوءَ على ضعف نظام الأمم المتحدة وحاجته الماسة إلى الإصلاح. في وقتٍ سابق من هذا العام، أظهرت الفيضانات المُدَمِّرة في درنة الآثار المُرَوِّعة للحكم السيئ الذي يتغلغل في ليبيا. كما إنَّ تورّطَ “حزب الله” في شنِّ هجماتٍ على إسرائيل ــعلى الرُغم من محدوديتهاــ يُشَكّلُ تذكيرًا بالغياب الفعلي للدولة اللبنانية.

إن العام 2023 قد سلّطَ الضوءَ على الفجوة الواسعة الموجودة بين الدول العربية. الغالبية منها ضعيفةٌ سياسيًا وتتصارع مع الصراعات والمشاكل الداخلية أو الإقليمية. لقد تحوّلَ الثقلُ الجيوسياسي والديبلوماسي في الشرق الأوسط بقوّة إلى الخليج. وتُعَدُّ استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة الناجحة لمؤتمر تغيّر المناخ “كوب 28″، والتي أسفرت عن اتفاقٍ تاريخي بشأن الانتقال بعيدًا من الوقود الأحفوري، مثالًا رئيسًا على هذا التحوّل.

وبينما يبدو من المرجح أن يحمل العام المقبل أعباءً مُماثلة لتلك التي حملها العام 2023 في جميع أنحاء الشرق الأوسط، فمن المُهِمّ ألّا يقتصر فَهمُ المنطقة والاهتمام بها على تحدّياتها العنيدة. إن تأثير القوى ذات الثقل في المنطقة آخذٌ في النمو، وهذا يزرع بذور تكوينات جديدة للقوة والتي سوف تلعب دورًا أكثر وضوحًا في العام 2024 وما بعده.

  • لينا الخطيب هي مديرة معهد الشرق الأوسط في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. يمكن متابعتها عبر منصة (X) على: @LinaKhatibUK

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى