اليهود آمنون… إلّا في إسرائيل

محمّد قوّاص*

قامت نظرية إنشاء دولة إسرائيل على أنَّها المكانُ الآمن المطلوب ليهود العالم فيما هم غير آمنين في أيِّ بُقعةٍ أُخرى في العالم. استوحى مُنَظِّرو المشروع الصهيوني (أبرزهم تيودور هيرتزل) النظرية –منذ ما قبل “المحرقة” (الهولوكست) في الحرب العالمية الثانية– من حكاياتٍ تَعودُ إلى بداياتِ الدين التي تَعُجُّ بقصصِ التَنكيلِ والاضطهاد، فجعلوا من هدفِ قيامِ دولةٍ خاصة باليهود هو توفير الأرض الوحيدة الآمنة، فكانت في فلسطين (بعد احتمالاتٍ سابقة في الأرجنتين وأوغندا وأميركا وروسيا وغيرها).

تَنَبَّهَت بدايات المقاومة الفلسطينية باكرًا منذ منتصف القرن الماضي لهذه المُعادَلة. عملَ مُنَظِّرو المقاومة الأوائل على الترويج لمُعادلةٍ مُضادة مَفادُها “إن اليهود آمنون في كل العالم إلّا في فلسطين”. وقد عملت إسرائيل على التعاملِ مع الحقِّ الفلسطيني ليس بصفته نزاعًا إيديولوجيًا وتاريخيًا وقانونيًا، بل بصفته خطرًا أمنيًا يُهدّدُ بقاء اليهود يجب التعامل معه بأقصى مستويات الشراسة. واستدعى ردُّ الخَطَر شنَّ الحروب ضدّ بلدانٍ عربية مجاورة، أو ضرب أيّ أعراضٍ لأخطارٍ في بلدان بعيدة، انتهاءً بالفتك المنهجي بأيِّ مقاومةٍ فلسطينية من داخل فلسطين وخارجها، وانتهاءً بفكرة “الترانسفير” كـ”حلٍّ نهائي” للتخلّص من الوجود العربي داخل “إسرائيل الكبرى” وإعدام فكرة الدولة الفلسطينية وما تُشَكِّلُ من سرديةٍ مُضادة للسردية الصهيونية.

لم تَحِد كلُّ التيارات السياسية التي شهدتها إسرائيل منذ نشوئها عن هاجس الأمن كإيديولوجيا بُنيويّة دائمة، وليس كحالةٍ طارئة كما حال أُمَمِ العالم. ومن أجل أمن اليهود وجب أن يمنح العالم الغربي إسرائيل السلاح النووي باكرًا وعلى نحوٍ استباقي وقبل أن تَظهَرَ أيُّ مشاريع لبرامج تسلّحٍ نووي في المنطقة. وإذا ما اضطرت إسرائيل إلى إبرام اتفاقاتِ سلامٍ مع مصر أوّلًا ثم مع الأردن لاحقًا، فإنّها حرصت، على الرُغمِ من الواجهات الاقتصادية السياسية لهذه الاتفاقات، على أن تعجّ تلك الاتفاقات بإجراءات مُعَقَّدة (لا سيما في سيناء) لضمان أمن إسرائيل.

وقد استولت عقائد الأمن في العقود الأخيرة على العقل السياسي والمُجتَمعي الإسرائيلي. حتى أن عقيدة الأمن هي التي تقف وراء اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين في العام 1995 لإيمان أصحاب هذه العقيدة بأنَّ اتفاقَ أوسلو في العام 1993 ورواج مشاريع السلم التي ازدهرت في تلك الحقبة يُشكّلان خطرًا وجوديًا على أمن إسرائيل وبقائها، مع العلم أنَّ مَن يَتَفَحَّص سطور الاتفاق يستنتج بسهولة أنه اتفاقٌ أمنيّ يوفّر أوّلًا وأخيرًا أمنَ إسرائيل.

أنهت عقيدةُ الأمن تياراتَ السلم في إسرائيل، وجعلت من الحالة الفلسطينية ملفًّا أمنيًا لا يعترفُ بالنزاع في بُعدَيه السياسي والحضاري. غابت وجوهٌ اشتهرت بالتواصل والوصل مع الفلسطينيين، وتوقّفت وُرَشُ إِعمالِ العقل والفكر لإنتاجِ الأوراق تلو الأوراق في مؤتمراتٍ سرّية وعلنية لتخيّل حلول مقبولة تضمن تعايش دولتين وتضمن أولويًا أمن دولة إسرائيل. وبدا أنَّ العقيدةَ الأمنية قد تجذّرت داخل المجتمع الإسرائيلي وكتلته الناخبة، وباتت مُهَيمِنة على كل العقائد، فتناوبت على حُكمِ البلد أحزابُ اليمين واليمين المتطرّف وصولاً إلى يمين يفخر قادته بوصف أنفسهم بالفاشيين.

ورُغمَ امتلاك إسرائيل تفوّقًا عسكريًا في المنطقة، وإمساكها بقواعد الأمن في مُقارَبةِ الحالة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإهمالها أيّ مفاوضات تسوية مع السلطة الفلسطينية، وتمتّعها بغيابِ أيِّ ضغوطٍ دولية يُجبرها على سلوكِ معابر الحلّ السلمي النهائي، فإنّها في مؤتمرات الأمن الكبرى في إسرائيل (أبرزها في هرتسيليا) واستشراف مستقبل دولتها، ظلت تُثيرُ أمر الأخطار الوجودية الكبرى فوجدتها خلال العقود الأخيرة في إيران وفي برنامجها النووي، لتنتهي في السنوات الأخيرة إلى التسليم بأنَّ القنبلة الديموغرافية الفلسطينية هي أخطر وأقسى وأكثر إلحاحًا على أمن إسرائيل ووجودها.

أحاطت إسرائيل نفسها بجدرانٍ وأسوارٍ تكنولوجية حديثة. يهدف الأمر إلى التحصّنِ من شرورِ أخطارٍ حقيقية ومُتَخَيَّلة ومزعومة. وتروم إسرائيل من خلال مقاربة الأمن أن تُقنِعَ نفسها والعالم بأنها ما زالت ملاذًا آمنًا يُوَفِّرُ ليهود الكوكب الأمن الذي يفتقدونه في بقية أنحاء المعمورة.

يستفيق يهود العالم منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) على واقعٍ باتَ حقيقة كان يطمح لها المقاومون الفلسطينيون الأوائل، مفادها “إن اليهودَ آمنون في كلِّ العالم إلّا في فلسطين”. وتَلَقّى الفكرُ الأمني الإسرائيلي صفعةً تاريخية قد تكونُ بُنيوية تُنهي تمامًا حصرية المقاربة الأمنية في العقل السياسي الحاكم والمعارض. ولئن لم تظهر إلّا على نحوٍ خجولٍ أعراضُ انهيارِ نظرية الأمن بانهيارِ الأمن نفسه في لحظة حصول “طوفان الأقصى”، فإنَّ أمامَ إسرائيل في القريب العاجل خيارَين، إما المضيّ في دائرة الأمن إلى حدودٍ قصوى تُحوِّلُ “الوطن” إلى قاعدةٍ عسكرية، وهذا خيارٌ يؤكّدُ أنها بلادٌ غير آمنة، وإمّا الذهابُ مُجبَرَةً إلى سلوك معابر التفاوض والتسوية والسلم، وهو خيارٌ قد لا يضمن في العقل الإسرائيلي السلم والأمن والأمان.

وفيما تزدهر هذه الأيام الهمم الأميركية والأوروبية للتبشير بتسويةٍ سياسية وفق حلّ الدولتَين ضمانًا أيضًا لأمن إسرائيل، فإنَّ لسانَ حالِ بعض هذا الفكر الإسرائيلي يقول: وهل تبقى إسرائيل دولةً استثناءً إذا ما سقطت عقائد الأمن والوجود والبقاء التي برّرت يومًا منطق وشرعية قيام دولة لليهود في العالم؟

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى