لا حقيقة غير حقيقةِ الموتِ في حقولِ القتل!

البروفسور بيار الخوري*

حين نَقِفُ على جبلِ الآلام منذ 1948، عام النكبة في فلسطين حتى اليوم، نعرفُ أننا في حقول القتل!

أرضٌ لحقولٍ استُصلِحَت قبل ذلك العام واستمرّت بعده.

نحنُ نعيشُ في منطقةٍ قُتِلَ فيها الملايين بلا شفقة، ولكن الأهمّ بلا حساب. وجميع مَن قتلهم الزعيم الموتور للخمير الحمر، بول بوت، في حقولِ قَتلِ كمبوديا يموتون في سنة واحدة في الشرق الاوسط.

الأرواحُ لا حساب لها هنا، نحنُ وُلِدنا في حقول القتل وأحد (فقط أحد) احتمالات ما بعد ولادتنا هو… الحياة بانتظار الموت كل لحظة.

يُقتَل العامة بلا حساب طبعاً، وكلّ عقدٍ ونيِّف هناك مصالحة بين القاتل والقاتل اللذين تُشير ضحكاتهما ومصافحاتهما الحارّة إلى أنهما كأنهما كانا لا يعلمان بأن هناك بشراً قد قُتِلوا.

وفي حقولِ القتلِ هناك أيضاً المسؤولية غير المُعلَنة والتي تطال الجماعات والأفراد وحتى السياسيين، وحين نقول أنه لا جريمة سياسية في لبنان قد وصلت الى خواتيمها في حكمٍ قضائي، علينا ان نتذكّر ان لا جريمة سياسية في الشرق الاوسط، بافتراض إحالتها أصلاً إلى القضاء، قد وصلت الى خواتيمها.

الموتُ هو احد أشكال صناعة السياسة، والعالمُ يُحاسِب القتلة على كلمةٍ عنصرية أو ذكورية زلّت بها ألسنتهم، ولكن ليس على القتل. أيّ جريمة حاسب العالم عليها  القاتل هنا؟ وأي مجزرة حاسب العالم عليها “الجزّار” هناك؟

إنه قانونُ حقول القتل في الشرق الاوسط: لا حساب على القتل! فهذه الحقول صُنِعت أساساً للقتل، أكنتَ تعرفُ القتلة أو لا تعرفهم، وحين تعرفُ القاتل تعرفه لأنه اختار أن يكشف عن جريمته بنفسه. فكشفُ الجريمة أيضاً هو حسابُ ربحٍ وخسارةٍ في السياسة.

ليست جريمة الرابع من آب (أغسطس) 2020 في بيروت سوى حقلِ قتلٍ جديد، يُضاف الى مئات حقول القتل، – والتي صدّقتم أم لا –  لن نصل الى خواتيم الحقيقه فيها إلّا إذا خرج القاتل مُختاراً، لحسابِ ربحٍ ما، وقال: انا القاتل!

الغربُ يذرف دموعه علينا، واعداؤه هنا يذرفون الدموع ايضاً، وكلّهم كانوا يعلمون. أجهزتهم وعيونهم الكثيرة كانت تعلم ماذا في المرفأ، وإن كان حصل هجومٌ ما أو إهمال ما أو تجارة ما، فهم بالتأكيد يعلمون. عجيبُ أمرِ تلك الأقمار الاصطناعية التي لم يكن أيٌّ منها مُوَجَّهاً الى لبنان في تلك اللحظة! وعجيبُ أمرِ مَن يعرف عدد الميكروفونات التي سلّمتها السفارات للمتظاهرين ولا يعلم الخطر الجاسم في المرفأ!

عجيب امر كل تلك الجرائم التي تحصل ثم تضيع عند ضياعِ خَيطٍ صغير.

أنتَ لا تقتل لأن هناك مَن قرّر قتلك، بل أيضاً لأن هناك مَن عَرَفَ وقرَّر إغماضِ عينيه. هكذا قُتِلَ كمال جنبلاط، وهكذا قُتِلَ بشير جميل وهكذا قُتِلَ رفيق الحريري. كان جورج حاوي يقول أنه حين ياتي الأمرُ بقتلك فلا تُحاوِل حماية نفسك لأنك مقتولٌ حُكماً، لقد رُفِعَ الغطاء عنك”

القتلُ أداةٌ لاستمرار السياسة تماماً كما الحرب.

هذه هي حروب وجرائم الشرق الاوسط: أهلاً بكم فى حقول القتل!

نقتلُ الناس كل يوم، ويُقتَل السياسيون حين ينتهي دورهم ولا يجدون مَن يحمي لهم رؤوسهم. كان صدام حسين يقتل الأكراد والشيعة والشيوعيين ونخبة مؤسسي البعث، وكان يقصده ممثلو زعيمة العالم الحرّ لدعمه وتعزيز حكمه، وحين جاءت الساعة أُعدِمَ ضحيّة العيد. وكان العقيد معمّر القذافي مُتورّطاً في قمع وقتل شعبه وإسقاط طائرات مدنية وإخفاء رجل دين جليل، الإمام موسى الصدر، ورُغمَ ذلك نصب خيمته في عاصمة الثورة الفرنسية، ويوم إنتهى دوره شُطِب بطريقة شديدة البشاعة.

قد يقتلك قريبك المُختل عقلياً، أو تُقتَل على المنبر من مُتحمّس لمنافسك الصهيوني، أو تذهب بسقوط طائرة أو بحادث سيارة  او تسمّماً أو تُعدَم أو تُسحَل، كل ذلك تفاصيل فتبعاً لقانون حقول القتل يُقتَل القاتل أيضاً إذا انتهى دوره.

تحسّسوا رقابكم جيداً، أنتم لا زلتم أحياءً لسببٍ ولوظيفةٍ ودورٍ لا زال عليكم تأديتها، لكن دوركم آتٍ.

ستموتون كما مات مَن كان أقوى منكم بكثير.

إن الانتصار للرابع من آب (أغسطس) هو انتصارٌ للحقّ وليس لكشف الحقيقة. فلا حقيقة غير حقيقة الموت في حقول القتل!

  • البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: info@pierrekhoury.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى