كي لا يسقط لبنان من المكان

رشيد درباس*

أنا لا أفَتِقرُ إلى البراهين لإثباتِ براءتي
بل إلى السفاهة والوقاحة والسلاطة.
سقراط في محاكمته

عثرتُ في مكتبتي على كتابٍ قديمٍ للمُفكّرِ والمؤرّخِ قدري قلعجي، عنوانه “أشهر المحاكمات في التاريخ”؛ حكى فيه، من جملة ما حكى، عن محاكمةِ كلٍّ من “سقراط” و”بودلير” و”غاليلييه”، التي تعبِّر نتائجها الكارثية عن سوءِ التقاضي في ظروف العشوائية والعشوائيين. وفي اللغة أنَّ “الأعشى” هو المُصاب بسوء البصر في الليل والنهار.

كان بمقدورِ سقراط أن ينجو من تجرّعِ السم، لو أظهرَ في الحديثِ بعضَ طلاوة، وفي الموقف جانبًا من مرونة. لكنه آثر أن يدفعَ ما تبقّى له من حياة، في سبيل حيوات القرون المقبلة، حين أكّدَ أنه استجوَبَ جميع الأشخاص الذين يسمّونهم علماء، فوجدهم لا يعلمون شيئًا، لأنهم يزعمون علمهم أشياء بعينها، أما هو فأعلم الناس، برأيه مَن يعلم أنه لا يعلم شيئًا. وقبل اختلاجته الأخيرة هَمَسَ في أُذنِ صديقه “كرتيون”: “أنا مدينٌ بديك لإله الطب “إسكولاب” كذبيحة تعني أن الموت هو الشفاء من داء الحياة”.

وحينَ حُوكِمَ شاعر “أزهار الشر”، ترافع محاميه مُدليًا بأنَّ نصوصَ الديوان لها شبيهاتها لدى (دوميسيه وغوته ورابليه)، وبأنَّ صاحبها لا يدعو إطلاقًا إلى إفساد الأخلاق، بل هو ذو نيّة حسنة، فعلّقَ بودلير: “لست راضيًا عن المرافعة، لأنَّ الفنان لا يؤدّي حسابًا أمام الأخلاق، ولا يطلب منه حسن النية ، بل أن يكونَ ذا موهبة”. وهو، بعدما أدانته الغرفة التأديبية السادسة في باريس، برّأته محكمة التمييز الفرنسية  في 31-5-1949، أي بعد ثمانين سنة من وفاته.

أما “غاليلو ابن المرحوم فننسانزيو غاليلي من فلورنسا”، فقد تلا أمام محكمة التفتيش فعل الندامة والتوبة والتنصّل من نظرية الشمس الثابتة والأرض التي تدور؛ لكنه، بعد صدور الحكم عليه بالإقامة الجبرية خرج من قاعة المحكمة وقال لأصدقائه الذين كان يتَّكىء عليهم: “ومع ذلك فإنها تدور”.

الشاهد من نتائج هذه المحاكمات الثلاث أن أبشع أنواع الظلم يتمثل في استسلام العدالة “للجمهرة” ذات الحناجرِ والشاشاتِ والتظاهرات، لأن القاضي إذا فعل ذلك، أصبح جلادًا ينفّذُ ما يمليه عليه الغاضبون والعشوائيون والغرائزيون، في الوقت الذي من حقِّ مرتبته عليه أن تملي به على الآخرين، بمن فيهم أصحاب المقامات الرفيعة، أن يُطأطئوا رؤوسهم أمامه احترامًا. فإذا أحنى الرأس مرة واحدة، أو خفق قلبه من وَجَلٍ أو هوى، فهو ساعتئذٍ لا يهوي لوحده من مكانته، بل يبلبل الوجدان العام في مبدَإِ حيادية القضاة والتزامهم بالحق، وَيُعَرِّضُ نفسه للإدانة من قبل محكمة التاريخ التي لها النطق بالحكم الفصل، ولو بعد حين، فقد أعدم سقراط وظلَّ أعلم العلماء، وأدينت “أزهار الشر” وما زالت من أروع الشعر الفرنسي، وتراجع غاليليو وما برحت الأرض تدور وتدور.

هذا السياق في الكلام عن العدالة، ليس مستقلًّا بذاته عمّا حوله. فما يُقال عن القضاء يُقال ما هو أمرّ منه عن نظامٍ مصرفي شكّل على مدى عقود صمامَ  أمانٍ مالي، ووطّدَ ثقةً كانت سرَّ نجاحه وسبب تدفق الأموال إلى صناديقه من الداخل  والخارج، إلى أن تحالف التهتّك السياسي بمنظومته وأحزابه وحكامه، مع التهتك المصرفي المُرعب الذي مارس الغشّ الاستراتيجي، بنشرِ أرقام الأرباح الخيالية، فسلَّما ودائع الناس للهندسات المالية الجهنمية التي ليس لها مثيل في التاريخ، حتى استفاق الشعب اللبناني على يومٍ تحسّسَ فيه جيوبه فوجدها خالية بفعل القوارض التي تسلّلت من ثقوب الحواسيب، وأفرغت الخزائن من نقود الناس.

بيد أنه لا يجوز لنا أن نلومَ القضاء ولا النظام المالي وحدهما على ما فيهما من خلل، لأن أزمتيهما ليستا وليدَتَيْ سوء الإدارة وحسب، بل هما ظاهرتان طبيعيتان تدلّان على أنَّ الجسمَ السياسي اللبناني الواهن الذي فَقَدَ الآن مناعته وجدارته، بدت عليه من قبل سلسلةٌ من العوارض المرَضَيَّة في القضاء والاقتصاد والأخلاق والفن والإعلام، ناجمةٌ عن خلل جوهري في رقابة الدماغ وانتظام خفقان القلب، نتيجة عدم الالتزام بتنفيذ الإصلاحات السياسية والإدارية من اجل ضمان حوكمة صحيحة في إدارة الحكم، وكذلك في عدم احترام القواعد الاقتصادية والمالية الرصينة،  فكان انتهاك الدستور، وكانت إدارة شؤون البلاد عبر دورة دموية مسمومة تتحكّم بها الفظاظة والجهل والجشع وعدم الانتماء. ذلك أنَّ أيَّ مسؤول، لو أدرك يومًا أنه ابن الأرض التي يقف عليها، لما جحدها هذا الجحود غير المسبوق، ولما انتهك ماءها وهواءها وكهرباءها ومرافقها، ولما ترك مواردها منهوبة ومُسَيَّبة، ولما أهمل اقتصادها الذي كان يمكن تداركه لو جرت قراءة ميزان المدفوعات الذي اختل منذ العام 2011، أو قراءة حسابات مصرف لبنان الذي كانت موجوداته من العملات الصعبة تفوق المطلوبات فانقلبت الآية بعد ذلك وبدأت الاحتياطات تتحوّل الى سلبية ابتداءً من العام 2014، وانقلبت الآية من غير أن يهتز جفن، أو تمتد يدٌ توقف التداعي الذي كانت نتائجه الكارثية ظاهرة لكلِّ بصير.

والسبب في هذا أنَّ الحكّامَ لا يكونون مؤهّلين للإمساك بناصية الأمور، إذا توسّلوا الارتهان خطةً للوصول إلى السدة، لأنهم يجعلونها منقادة لخارجٍ ما، فيكتفون بالوقوف على هامش الوطن، حسبهم منه الأبّهة والعيش الرغيد وتوفير حيوات مريحة لأنسالهم وأنسبائهم والحلقات الضيقة المحيطة بهم، فيما مصير الدولة، كحاجة يومية وفردية لكل مواطن، أسير “روزنامة” أجنبية لم ترحم لبنان في أي  موسم، لا سيما في مواسم الصيف.

إن الطبقة السياسية بمعظمها تتكيّف مع الأمر الواقع كما فعلت قبلًا، لأنها لا تتمتّع باستقلالِ الرأي، ولا تنتمي إلى استقلال لبنان، وليست من قماشة رجال الدولة السابقين الذين كانت لهم في المفاصل الخطرة مواقف صارمة دفعوا أثمانها قتلًا أو تشريدًا أو تهميشًا؛ فنحن نتذكّر عهد الرئيس فؤاد شهاب، ويفوتنا ذكر خطاب عزوفه عن الترشّح الذي أعلن فيه أن الإصلاحَ لا يمكن أن يتم في ظل تركيبة يتقدم الانتماء فيها للطائفة على الانتماء للوطن. وفي السياق ذاته فإن تغييب سماحة الإمام موسى الصدر مؤشّرٌ على قيمة أصحاب المبادرات والشجاعة، وكيف يتركون أثرهم العميق عندما يتخطّون الطائفة إلى فكرة بناء الدولة الحديثة. ونستذكر أيضاً الشهيد رشيد كرامي، ويفوتنا أن الغدرَ به كان سببه محاولة تخطّيه الخلافات المستعصية باتجاه تسويةٍ ما. ونُقيمُ ذكرى الرابع عشر من كل شباط، وننسى أن رفيق الحريري لفظ نفسه الأخير وهو يستودع الوطن عناية الله. ونترحّم على ريمون إده غافلين عن أنه تجاوز منافسته للرئيس شهاب، وذهب إليه مقترحًا تشكيل الحكومة الرباعية حتى لا يعود لبنان إلى دورةِ عنفٍ جديدة.

رسم هذه الصورة، ليس فيه جديد حيث سالَ حبر كثير وامتلأ هواء فسيح بالمقولات التي تشخص الحالة بأشكال متشابهة، ثم تقف عاجزة عن تصوّر العلاج ما خلا بعض مدعي الطِّبابة الذين يقترحون بتر الأطراف التي تنتابها الآلام، أو يدعون لفيدرالية “المايوه” تمييزًا بين المتحضّرين وغير المتحضرين على ما أشار إليه جهاد الزين في مقاله في “النهار”.

أنا أحاول في السطور الآتية تظهير حقائق تختبىء خلف التمويه أو التجاهل، من أجلِ كَسرِ قشرةٍ اصبحت ركيكةً جدًّا فلم تعد صالحة لستر ما يعتمل في داخلها، فقد آن الأوان لإشهار اللغة الفصيحة في وجه اللعثمة والتمتمة والكلمات المبهمة:

أولى هذه الحقائق أن الطوائف المسيحية التي كان لها الدور الأكثر أثرًا في إنشاء دولة لبنان الكبير، تجتاحها الآن المشاعر الأقلوية والإحساس بالتهميش، وقد تفاقم الأمر بعد أن استنفد اتفاق “مار مخايل” دوره وأهدافه، فتفرّق بعد ذلك المتحابون بفعل زوال المصالح المشتركة.

هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ تضاؤلَ تأثير الدور المسيحي في الحياة العامة، عائدٌ بالدرجة الأولى إلى أنهم أنفقوا قواهم في الصراع على السلطة، على حساب عنايتهم الواجبة بالدولة التي كانت لهم ريادة في تأسيسها، فلما قامت، أهملوا مكوّناتها وعادوا إلى مشاحنات ما قبل لبنان الكبير.

والحقيقة الثانية، أنَّ “حزبَ الله” كانت له الكلمة الفصل في معظم القضايا الاستراتيجية والأمور المفصلية، لأنه بجانب قوته العسكرية والشعبية والتنظيمية، يستند إلى غطاءٍ “عوني” فضفاض، هوَّن عليه امتصاص نتائج حرب العام 2006، ومن ثمَّ استثمارها لبسطِ هيمنة شبه شاملة وللتحكّم بالاستحقاقات الدستورية والسياسية. لكن ذلك الغطاء ينحسر الآن، بعدما أُصيبَ بكثيرٍ من الثقوب، بما أدّى إلى حالةٍ مسيحية شبه عامة سِمَتُها القلق والرفض ونزوع التشتت إلى الالتقاء في وجه خيارات الحزب، وهذا يشكل انسدادًا وطنيًّا خطيرًا، ينبغي معه على الحزب أن يأخذه بعين الاعتبار.

أما الحقيقة الأخيرة فهي أنَّ المسألة اللبنانية باتت في خلفيات اهتمامات المجتمع العربي والدول الصديقة، بعد التَّغَيُّرات الحاصلة في الإقليم، والتوتر الذي يسود العالم بسبب حرب أوكرانيا. فالمرحلة الراهنة هي مرحلة تبادل المصالح، قفزًا فوق العواطف والوشائج التاريخية، وعلى ذلك فإن الدور الذي كان للبنان، وولَّى، يوجب على القوى السياسة اللبنانية، لا سيما “حزب الله” من جهة والقوى التي تعارضه من جهة أخرى، أن تلتقطَ اللحظة لئلا تضيع فرصة تدارك الكيان الذي شكل وجوده قبل قرن علامة مضيئة، ويشكل حضوره اليوم علامة تعتليها صفرة النزف الخطير.

وكي لا يلتبس الأمر أقول: إن المشكلة لا تنحصر فقط بشخص الرئيس الذي لا بدَّ من انتخابه بلا  إبطاء، بل بالبرنامج السياسي والإصلاحي الذي تتفق عليه القوى المتنازعة لينفذه الرئيس الملائم، بل الحكومة العتيدة التي في يدها زمام السلطة التنفيذية الحقيقية. وأصل الأمور يتمثّل بالاعتراف أن ازدواج السلطة معناه الانشطار، وأن إبقاء البلد في حالة حرب مستدامة أصبح مبدأ مهجورًا، وأن الشعب اللبناني الذي عانت أجياله السابقة القصف الإسرائيليّ، لا يريدُ أن تظل بقية أجياله “مُتَجَّمِعَةً” كأحدب ابن الرومي، اتقاء لاعتداءات إسرائيلية جديدة، وأن الدولة الحديثة لا يمكن أن ترتهن بعد الآن لنظام المقاطعجية والعائلات المقدسة، لأن الدول الناجحة باتت تعتمد على الكفاءات، سيان أكانت من أصول إفريقية كباراك أوباما، أم من أبناء ديانة هندوسية كرئيس وزراء المملكة المتحدة، ريتشي سوناك.

الآن نلاحظ منسوب العصبية الذي فاض عن حده في التعاطي مع المسألة الرئاسية ونشهد بأسف تراشقًا لإحراق الشخصيات المؤهلة، بما قد يفضي بنا بعد ذلك إلى رئيس لا حول له ولا طول.

فإذا عدت بكم إلى المحاكمات التي بدأت بها مقالي، قلت إن العدالة تستطيع أن تصحّحَ نفسها ولو طال الزمن، وتقدرُ أن تحاكم التاريخَ لا البشرَ وحدَهم، ولكن فقط عندما تصبحُ القيمُ قائدًا وتصلح الآلة السياسية وتتخلص من أعطابها المستعصية.

في مؤتمر القمة العربية، تداولت الأوساط أن ذكر لبنان كاد يسقط من بيان جدة لولا أن تداركه وفدنا.

أخشى ما نخشاه، أن يسقطَ لبنان من البيان والمكان.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى