البِناءُ على أنقاضِ لبنان

مايكل يونغ*

أكدت عملية تشكيل الحكومة في لبنان مرّة أخرى قدرة “حزب الله” على اللعب على مستويين منذ الانتفاضة الشعبية القصيرة جداً في تشرين الأول (أكتوبر) 2019. لقد تلاعب الحزب في كثير من الأحيان بالأحداث ليترك أمامه خيارين، أيٌّ منهما سيُعزّز مصالحه. إنه يفعل ذلك مرة أخرى اليوم.

في تشرين الأول (أكتوبر) 2019، حشد الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصر الله، وحليفه الشيعي الرئيس نبيه بري، لتحييد احتجاجات الشوارع وحماية حكومة سعد الحريري. وبهذه الطريقة، عملا وسعيا إلى الحفاظ على التوازن الواسع القائم في المكان الذي حافظ على الطبقة السياسية، ومعه النظام السياسي اللبناني الذي رسّخ فيه “حزب الله” هيمنته الداخلية.

عانت تلك الخطة من انتكاسةٍ مؤقتة عندما استقال الحريري. فاجأت خطوته “حزب الله”، وأعطت نصراً عابراً لما يُسمى بـ”الثورة”. لملء الفراغ، أوصلت الطبقة السياسية إلى السلطة حكومة حسان دياب الكارثية التي لا أسنان لها. في غضون أسابيع، قوّض السياسيون وحلفاؤهم برنامج الحكومة الاقتصادي، الذي سعى إلى إلقاء عبء خسائر لبنان المالية على القطاع المصرفي، وبالتالي على السياسيين أصحاب المصالح المصرفية.

من جهته، راقب “حزب الله” كل هذا برباطة جأش. إذا نجح دياب، فإنه يُحقّق الاستقرار في بلدٍ يُسيطر عليه الحزب. إذا فشلت الحكومة، فسيؤدي ذلك إلى مزيد من تدمير النظام السياسي الذي طالما رحّب “حزب الله” بزواله. فنصر الله هو الذي قال في مقابلة مع صحيفة الخليج الإماراتية في آذار (مارس) 1986: “نحن لا نؤمن بأمّة حدودها 10,452 كيلومتراً مربعاً في لبنان؛ إن مشروعنا يتصوّر لبنان كجزءٍ من خريطةٍ سياسية لعالمٍ إسلامي تنتهي فيه الخصوصيات، ولكن تُضمَن فيه حقوق الأقليات وحرّياتها وكرامتها”.

قد يُجادل البعض بأن موقف نصرالله قد تغيّر منذ ذلك الوقت. حقاً؟ متى أظهر زعيم “حزب الله” يوماً أنه يعتقد أن لبنان ونظام التوافق الطائفي فيه شرعيان؟ متى فعل أي شيء سوى الدفع لتحويل البلاد إلى بؤرةٍ أمامية لمشروع إيران التوسّعي في المنطقة – وهو مشروع يرى لبنان كجزءٍ من خريطةٍ سياسية لعالمٍ إسلامي تُهيمن عليه طهران؟ إذا كان نصرالله برهن على شيءٍ فهو ثبات تفكيره. كل ما نراه اليوم يُوحي بأنه إذا تفكّك النظام اللبناني فإن “حزب الله” سيُرحّب بذلك.

وهذا يُفسّر موقف الحزب الغامض تجاه الاتفاق على الحكومة. لا يبدو أن “حزب الله” يعارض تشكيل حكومة، وقد دعم مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري في هذا الصدد، لكنه لم يفعل أي شيء لضمان نتيجة ناجحة. جادل البعض بأن الحزب غير راغبٍ في الإضرار بعلاقته مع الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل من خلال إجبار الرجلين على تقديم تنازلات في المواجهة التي دامت أشهراً مع الحريري. هذا كلامٌ فارغ بلا معنى. باسيل في أمس الحاجة إلى دعم “حزب الله” في محاولته الرئاسية لذا لن يجرؤ على الخلاف معه.

على الأرجح، يرى “حزب الله” أنه لا يُمكن أن يكسب إلّا من الصدام بين الزعماء الموارنة والسنّة البارزين. هذا الخلاف، الذي انجرف إلى ساحة الصلاحيات الدستورية، أبرَزَ الإجماع على أن النظام السياسي اللبناني آخذٌ في الانهيار. إذا أدّى هذا الانجراف نحو إعادة النظر في دستور ما بعد الطائف الحالي، وبالتالي إصلاح العقد الاجتماعي الطائفي، فسيكون “حزب الله” في وضعٍ جيّد للمطالبة بحصّة أكبر في النظام للطائفة الشيعية. وقد يُترجَم هذا إلى قوة أكبر مما يتمتع به الحزب اليوم.

علاوة على ذلك، فإن الاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني من شأنه أن يُحرّر التمويل الإيراني لوكلاء طهران الإقليميين. وهذا سوف يسمح ل”حزب الله” بملء الفراغ المالي والاقتصادي في لبنان جزئياً. يُمكن للحزب استخدام هذا الأمر كوسيلةِ ضغطٍ لفرض نظامٍ مُوالٍ لإيران بشكلٍ أكثر صراحة ومن ثم تأمينه وضمانه بالتغييرات الدستورية التي يرغب فيها.

يُركّز عون وباسيل والحريري بشكلٍ كبير على خلافاتهم لدرجة أنهم لا يستطيعون رؤية أن “حزب الله”، من خلال سماحه بفشل النظام، يُحقق طموحاً طويل المدى لإعادة تشكيل لبنان. قد يعني انهيار الاقتصاد أن القطاعات المالية والاقتصادية التي لعب فيها المسيحيون والسنّة دوراً كبيراً يُمكن أن تتعرّض لضربة حاسمة، ناهيك عن الهجرة الجماعية التي رافقتها. كما يشير إلى أن الجيش اللبناني، المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تتمتع بمصداقية وطنية ويهيمن عليها السنّة والموارنة، قد يضعف. وهذا يُناسب “حزب الله”، كما هو الحال مع الدفعة التي يقوم بها المُغفّلون في مراكز الفكر اليمينية في الولايات المتحدة لوقف تمويل الجيش، على افتراضٍ خاطىء وفظ أن هذا سُيضعِف الحزب.

لبنان جديد يبرز على أنقاض القديم، و”حزب الله” يُريد تشكيل البلد على صورته. ثلاثُ كلمات غائبة بشكل ملحوظ اليوم: “صندوق النقد الدولي”. لن يلجأ لبنان قريباً إلى شروط صندوق النقد الدولي ويصلح ماليته العامة لتأمين خطة إنقاذ. “حزب الله” لا يريد أن يخضع لبنان لمؤسسةٍ تكون للدول الغربية فيها كلمة رئيسة. في ذلك، سيحصل الحزب على دعم طبقة سياسية لبنانية مُحتَقَرة ترفض تقديم أي تنازلات تُقلّص أو تُنقِص من سلطتها.

هذا الأمر يُترَك الآن للبنانيين. هل يريدون أن تتحوّل بلادهم إلى قاعدة دائمة لنظام ديني استبدادي في طهران، مما يؤدي إلى تنفير الغرب وجزء كبير من العالم العربي؟ هل هم مستعدون للتخلّي عن نظام التسوية الطائفي وتقاسم السلطة من أجل نظامٍ يُهيمن عليه “حزب الله” بشكلٍ دائم؟ لقد مرّ عامٌ ونصف العام أدرك فيه اللبنانيون أن سياسييهم قد سلبوهم كل شيء، وفي كثيرٍ من الحالات حرموا أبناءهم من المستقبل. ومع ذلك، ظل المجتمع صامتاً. إن الشعب الذي لا يُناضل من أجل مستقبل أطفاله من غير المرجح أن يفعل ذلك من أجل بلده.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى