حَربُ غزَّة: بداياتٌ سَيِّئة تَنفي النهاياتَ الجَيِّدة

سليمان الفرزلي*

بدأت الرواية الإسرائيلية بكذبة هي: “شَعبٌ بلا وطن (اليهود)، وبَلَدٌ بلا شعب (الفلسطينيون)”. وكلُّ الذين في العالم، خصوصًا في الغرب، وعلى الأخص في الولايات المتحدة، الذين قدَّموا غطاءً أخلاقيًا لهذا الادِّعاء، وقدّموا جميع ما لديهم من إمكانيات لجعله مشروعًا قائمًا على هذا الأساس يتحمّلون المسؤولية عن جرائم الإبادة والتمييز العنصري التي مارسها الإسرائيليون بحقِّ الشعب الفلسطيني المُحاصَرِ في أرضه.
بل إنَّ داعمي الاغتصاب الصهيوني في العالم، ارتكبوا جنايةً أكبر بحقِّ شعوبهم وبقيّة شعوب العالم، لأنهم أجازوا تَدميرَ القوانين الدولية، وكشفوا خَطَلَ ادعائهم المشروخ بالدفاع عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان ودعاوى أخرى من هذا القبيل. حتى الدعاوى الصهيونية التي قامت على “تجارة الهولوكوست” كسدت تجارتهم بفعل جرائم الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل في حرب غزة من خلال اعتماد سياسة الدمار الشامل بأسلحتهم.
ولا يُخفّف من هول ما حدث في غزة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، بل خلال الحصار الخانق الذي فُرِضَ على الشعب الفلسطيني هناك طيلة سنوات، لإذلاله وكَسرِ إرادته، قول القائلين بأنَّ الدول الغربية الداعمة لإسرائيل، والدول العربية الساعية الى التطبيع معها، وتلك المُطَبِّعة معها سابقًا، فوجئت بردِّ الفعل الجنوني الذي قامت به إسرائيل على عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في غزة لتذكير العالم بمأساة الشعب الفلسطيني. ذلك أنَّ من طبيعة العالم أنه ينسى أيَّ حقٍّ ليس وراءه مُطالِب.
وقد تبيَّنَ الآن أنَّ جميعَ الدعوات السابقة للسلام، والتسوية العادلة، والشرق الأوسط الجديد، وغير ذلك من الادِّعاءات المُماثلة، كانت كلّها بمثابةِ تقطيعٍ للوقت بغية إضفاء الشرعية على الاغتصاب الصهيوني لفلسطين، وعزل الشعب الفلسطيني من خلال تطبيع علاقات إسرائيل مع العالمَين العربي والإسلامي، وهو مشروعٌ اكتسب ركيزتَين أساسيتَين، واحدة في العالم الإسلامي والثانية في العالم العربي هما تركيا ومصر.
لكن البدايات السيِّئة، أو السَيِّئةِ النية، لا تنتجُ نهاياتٍ جيدة، لا للمُغتَصِب ولا لمعاونيه أو المُعتَرِفين به. وهذا المسارُ القائم على البدايات السيّئة، من طبائعه الفوقية أنه لا يهمّه النظر الى المدى البعيد، مُفتَرِضًا أنَّ القوة الغاشمة المُتاحة له من شأنها أن تَحسُمَ الأمرَ لصالحه في المدى المنظور. ومن مثل مسار من هذا النوع تنشأ إشكالية تاريخية من خلال التضارب بين نوعَين من التاريخ، وليس مجرد قراءتَين مُختلفتَين للتاريخ. نوعٌ عنوانه البغي، باعتباره صراعًا بين فريقٍ مُتفوِّق وفريقٍ مُنحَط. ونوعٌ عنوانه الحق والعدل، باعتباره صراعًا بين فريقٍ مظلوم وفريقٍ ظالم. ولذلك تخفق كل المحاولات التضليلية القائمة على التساوي بين الظالم والمظلوم، مما يعطي انطباعًا خادعًا بأنَّ أيَّ تناقضٍ وجودي، كالقضية الفلسطينية، يمكن أن يُصَحِّحَ نفسه بنفسه. وليس في التاريخ القديم أو الحديث أيّ شاهدٍ أو برهان على أنَّ التناقضات المصيرية يمكن أن تحلَّ نفسها بنفسها. فلو كان الأمر غير ذلك، لما نشبت في الأصل أيُّ حروب، وما كانت هناك أي حاجة للمؤتمرات والتسويات، أو للقوانين والهيئات الدولية الناظمة للخلافات والصراعات.
والبدايات السَيِّئة هذه تنطبق أيضًا على الدول العربية المُطَبِّعة مع إسرائيل أو الساعية الى التطبيع معها، لأنها تقوم ضمنًا على التخلّي العربي عن القضية الفلسطينية. وقد كان من الممكن أن يكون التطبيع العربي مُبرَّرًا لو أنه أعقبَ أيَّ حلٍّ للقضية الفلسطينية يرضى به الفلسطينيون وينتهي به الصراع العسكري. لكن أن يجري التطبيع مع استمرار الصراع، من شأنه أن يُعطي انطباعًا بأنه يتجاوز التخلّي عن القضية الفلسطينية إلى انحيازٍ ضمني داعم ليس فقط لإسرائيل، بل للحالة الصهيونية العالمية برمّتها، من إسرائيل وصاعدًا، ومن أميركا ونازلًا.
ومن مخاطر هذا التوجه أنه يُحَوِّلُ السياسة الى معارك عسكرية، بدلًا من تحويل المعارك العسكرية الى سياسة.
لكن مثل هذا التحوّل، الذي يمكنه الوصول الى نهاياتٍ جيدة، من غير الممكن أن يحصل انطلاقًا من البدايات السيِّئة.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى