هنري ماتيس: حكاية “الستوديو الأَحمر” (1 من 2)

المرأَة ذاتُ القبَّعة (1905)

هنري زغيب*

يبدو أَن الموسم التشكيلي الأَميركي هذا العام سيكون نجمُه الفرنسيُّ هنري ماتيس.

فبين العاشر من هذا الشهر (أيار/مايو) والعاشر من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، تنفتح أَبواب “متحف الفن الحديث” في نيويورك لمعرض “الستوديو الأَحمر” وهو من ركائز أَعمال ماتيس.

وفي تشرين الأَول/أُكتوبر المقبل تنفتح أَبواب “متحف فيلادلفيا للفنون” لمعرض “ماتيس في الثلاثينات” جامعًا عددًا من اللوحات التي وضعَها ماتيس في ذاك العقد من القرن الماضي.

ماتيس ناحتًا (1909)

مؤَسس الحداثة

عن النقاد المكرَّسين أَنَّ الرسام والنحات هنري ماتيس (1869-1954) يبقى “من أَبرز التشكيليين في القرن العشرين”، و”ذا تأْثير رئيس على هذا الفن في النصف الآخَر من القرن الماضي، باعتماده أُسلوبَ الإِيجاز، وتركيزه على أَهمية الأَلوان كموضوع مستقلّ في اللوحة”. وهو ما اتَّبعه معه وبعده عدد من التعبيريين والتجريديين. كما كان رائد “الفن الجامح” (انفلات الرسام برُقْشات = ضربات ضربات قوية من ريشته، وبأَلوان قوية على سجيَّته بدون ضوابط). وهي حركة لم تَعِشْ سوى خمس سنوات (1905-1910).

بذاك الأُسلوب بَرز ماتيس، مع كوكبة من معاصريه بينهم بيكاسو، على رأْس تيار الحداثة في الموجة الحديثة التي عصفت بباريس فشكلت انعطافًا مهمًّا كرَّس ماتيس أَحد أَكبر طليعيـي القرن العشرين.

وعن كتّاب سيرة الفنانين أَن ماتيس كان مُدمنًا كلِّيًّا، وبشكل مَرَضيّ، على العمل المتواصل ليل نهار، ما سبَّب له حالات انهيار عصبي وحالة توتُّر دائم. كان شعاره “وحدَه الرسم ذو معنى في هذه الحياة”، فترسَّل له كأَيِّ مُريدٍ لأَيّ رسول. من ذلك أَيضًا قولُه في إِحدى المقابلات نحو أَواخر حياته: “من اللحظة التي حملتُ فيها علبة الأَلوان بين يَدَيّ، أَدركتُ أَنَّ هذه هي طريقي في الحياة، فانكببتُ إِليها في انغماس كُلّيّ بدون تردُّدٍ ولا راحة”.

وهو بدأَ يرسم قبل أَيِّ دراسة أَكاديمية، دليلُه حسُّه الفطريّ الميَّال إِلى التجديد التصويري خارج معايير السابقين. وحيثما وَجَد التكعيبيين يزوغون في تصوير الوجوه، دخَل يُجدّد. من هنا قولُه لطلابه يومًا: “على الرسام أَن يتَّبع رغبتَه في التعبير الفوري التلقائيّ بدون تحضير ذهنيّ ولا أَفكار مسْبَقة أَيًّا تكُن تلك الأَفكار”. وإِزاء انصراف معاصريه إِلى الاعتناء الدقيق بــ”الخطوط أَولًا”، نحا ماتيس صوب “الأَلوان أَوَّلًا”، وهذا ما جعله رائدًا في حقبته، خصوصًا لبراعته في خلق الشعور برؤْية الأَبعاد الثلاثة في اللوحة.

من أَعمال المرحلة الأَخيرة (1952)

غرابة تثير الأَسئلة

وفي مسيرة ماتيس، كانت دائمًا غرابةٌ ومفاصل أَسئلة. فولادتُه شمال شرقيّ فرنسا جعلَتْه وسْط أُسرة تتعاطى صناعة الأَقمشة، فنشأَ الصبيُّ في مطالعه هاوِيَ تجميعِها في مجموعات متمايزة.

بدأَ دراسة الحقوق في باريس، ووجدَ وظيفةً لدى مكتب محاماة، لكنَّ ضجَره من ذاك الجو أَخذَه إِلى الرسم، حتى إِذا كان يومًا مريضًا بالزائدة الدودية، جاءَتْه أُمُّه بلوحةٍ من رسمها، هي التي كانت هوايتُها الرسم على الخزف. الْتَقط تلك الهواية وانصرف إِليها قائلًا لعروسه الشابة آميليا بارير (كان تزوَّجها سنة 1898): “أُحبُّكِ جدًّا يا آنسة، لكنني أُحبُّ الرسمَ أَكثر”. وبالرغم مما في هذه العبارة من جُرح نفسي، اقتبلَتْها عروسه، ودعمَت ما “يُحب أَكثر منها”، وأَكثر: كانت مديرة أَعماله في السنوات الأُولى من زواجهما.

لم ينتسب ماتيس إِلى معهد فنون أَكاديمي، لكنه تلقَّى دروسًا خاصة، مع بعض الآخَرين، لدى الرسام الرمزيّ الفرنسي غوستاف مورو (1826-1898)، وتردَّد إِلى متحف اللوفر ينسخ بعض اللوحات. وفي لوحاته تلك الفترة الباكرة (شارك ببعضها في معرض باريس1901) كان اللون القاتم غالبًا، وواضحًا تقليدُه أَعمال الكبار من الانطباعيين، منها مثلًا لوحته “تفاح وليمون” (1899).

آخر صورة له قبل وفاته (1954)

ذاك الصيف الحاسم

المنعطف الحاسم في مسيرته كان في صيف 1905 فيما كان، مع صديقه الرسام أَندريه دورين (1880-1954)، يرسم في بلدة الصيد البحري المتوسطية كوليُور (جنوبي فرنسا). كانت أَعماله قبلذاك تتراوح بين رقشات (ضربات ريشة) فان غوخ، وأَلوان جورج سورا الساطعة، وتقطيعات بول سيزان الخاصة. أَخذ يستخدم الأَلوان خارجةً مباشرةً من أَنابيبها دون مزجها كالعادة على الـمَلْوَن.

لوحتُه عامئذٍ في معرض باريس (امرأَة ذاتُ قبعة) أَحدثت ضجة مغايرة. وهو رسم فيها زوجته آميليا تعتمر قبعةً وتلبس قفازَين وتحمل مروحة يدوية. وكان في استعماله الأَلوان القوية الفاقعة والضربات المتوترة والمتوهجة ما دعا الناقد التشكيلي لويس فوكسيل إِلى تسمية ماتيس “الجامح” (الحيوان البري)، فانطلقت تلك التسمية على تلك الحركة التشكيلية فترتئذٍ (حركة الجامحين)، واقتنَت تلك اللوحةَ جرترود شتاين وزوجها ليو ما شهر اللوحة أَكثر لأَنهما كانا من أَشهر مقتَني اللوحات في عصرهما.

في هذا الجو انطلقت حركة الجامحين، وكانت تلك مرحلة “الستوديو الأحمر”، موضوع الجزء الثاني من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى