التوافُقُ ليس حلًّا

راشد فايد*

كلُّ قولٍ يُزَيِّنُ للبنانيين حسناتٍ مزعومة لتوافقٍ على اسم مُرَشَّحٍ لرئاسة الجمهورية، هو تورية لإرادة خبيثة تبغي تمديد سيطرة حزب السلاح على قرار البلاد، ومقدّراتها.

تكرّرت هذه البدعة مرّتَين، بعد انسحاب الوصاية الأسدية. أولاهما عند “التوافق” على ميشال سليمان في قطر، لتأكيد مصالحة سياسية أشبه باستراحة المتصادمين، والأخرى بالتوافق على ميشال عون، بصفقات محاصصة بيّنت انتهازية الطامع بالرئاسة، واستعداده لأيِّ وعد، ولأيِّ كذبة، توصلانه إلى سدّة بعبدا.

عمليًّا، لم يكن التوافق إلّا إغتيابا للديموقراطية، ومواراة لها، لتثبيت هيمنة الحزب على الحياة العامة، تحت رهبة تهديد السلم الأهلي، بالسلاح المُشَهَّر، والقمصان السود، بحسب ما يتيحه التوازن الداخلي، في لحظته، وكذلك التوازن الإقليمي، والمواجهة النووية بين الغرب وايران.

حين كان ميزان القوة يميل لمصلحة “حلف الممانعة”، لم يقدم الحزب “هدايا سياسية” لخصومه، بل تمسّك بـ”رؤيته” وجاء ميشال سليمان إلى بعبدا رئيسًا، فجامله (الرئيس) في أول سنتين من ولايته، ووازن بينه وبين خصومه في السنتين التاليتين، ليصادمه في السنتين الأخيرتين تحت عنوان “الثلاثية الخشبية”، فكان الرد على هذه “التجربة” بميشال عون، حليفًا موثوقًا يمكن المراهنة على “إخلاصه” المثبت في “تفاهم مار مخايل”، إلى حد المزايدة سوريًا وايرانيًا.

في معركة الرئاسة الراهنة، لا يملك الحزب القدرة على فرض رئيس من لدنه، ليس لعدم توافر عديد الأصوات في مجلس النواب، ولكن للعجز عن تكرار ممارسات الغزو والإغتيالات، واستخدام السلاح والقوة والتعطيل، لذا اتبع خطة جديدة استباقية تهويلية بعنوان مبهم هو “رفض مرشّح تحدٍ”، من قبل أن يظهر أي مرشح وهو بذلك رمى الحرم على من لا يأتي من تحت إبطه، وأرفق ذلك بعدم التصريح باسم مرشحه، ولو وشى باسم سليمان فرنجية من دون تبنيه رسميًا، مراعاة لحليفه الملتبس، اليوم، جبران باسيل.

ترك الحزب لحليفه الأول رئيس مجلس النواب الإدارة التشريعية للعبة التعطيل انتظارًا لوحيٍ سيأتي في يوم يناسبهما، لذا تنعقد الجلسات النيابية المتتالية ويظل محضرها مفتوحًا بحيث لا تسمى جلسة أولى، وتاليًا لا تسمى أي جلسة تالية جلسة ثانية تُلزم النواب بفوز مرشح باصوات نصف عدد المقترعين زائدًا صوتًا واحدًا وفق نص الدستور.

يدعو الحزب الخصوم إلى “مرشح توافقي”، لن يقبل أن يأتي من صفوفهم، يحدد مهمته بأنها “حماية ظهر المقاومة”، بعدما رعى ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، والتزم تجاهها، منذ 2006، باحترام ما سمياه “قواعد الإشتباك” التي تماري هدنة جديدة فرضها على لبنان، فيما يتجاهل هدنة 1948، التي ترعاها الأمم المتحدة، ولم يتذكر يومًا في أدبياته السياسية معركة المالكية التي خاضها الجيش اللبناني حينها وانتصر.

لو كان في مستطاع الحزب أن يتخطى المطالبة بمرشح توافقي إلى فرض مرشح من صناعته لما تأخّر، لكنه يعرف أن الكلفة السياسية عليه، وعلى البلاد، ستكون عالية، وها هي قمم الرياض مع رئيس الصين تتمسك بسيادة لبنان على كامل أراضيه، ومركزية قرار السلم والحرب بيد الدولة اللبنانية، فيما الاشتباك النووي الاميركي – الغربي مع طهران يتعمّق، إلى حد أن الرئيس الأميركي جو بايدن أبدى رغبته بتحرير ايران، فيما الحرب الإقتصادية الغربية ضدها في حدودها القصوى.

الدعوة إلى رئيس توافقي، كما إلى طاولة حوار، هي تمكين للحزب من خنق الديموقراطية، واستمرار هيمنته على الحياة العام، وتورية كل ذلك بمشاركة الخصوم، وإلّا فلتسقط لعبة تهريب النصاب، والمحاضر المفتوحة، وليأت برئيس من فبركته، إن كان يستطيع، أو يوقف وحلفاؤه، استرهان البلاد لمشروعه الإقليمي، وتعطيل الحياة العامة، وخنق اللبنانيين.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى