طائفة الروم الكاثوليك في لبنان: من الإشعاع الى الإنحسار

أُقيم بين 22 و25 من الشهر الجاري في الربوة في لبنان السينودس المُقَدّس لكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، دعا إليه بطريرك الطائفة يوسف العبسي الذي عرض في كلمته الإفتتاحية “أهم الأحداث التي عاشتها كنيستنا في السنتين الأخيرتين، وما واكبها من أزمات وبائية واقتصادية وسياسية دفعت أبناءنا ولا سيما الشباب منهم إلى التفكير في الهجرة حين تسمح الظروف…”

فيليب تقلا: تبوّأ منصب وزير خارجية لبنان سبع مرات

السفير يوسف صَدَقة*

يمرّ لبنان بعاصفة كيانيّة لم يشهدها منذ استقلاله على كل الصُعُد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد طالت هذه العاصفة جميع مؤسساته الاستشفائية والتعليمية والاجتماعية والمالية، كما طالت جميع الطوائف، ومنها إحدى الطوائف المُؤسِّسة للكيان اللبناني، الروم الملكيين الكاثوليك. فبعدما شهدت هذه الطائفة حتى نهاية الثمانينات الفائتة تألّقاً في لبنان، من حيث الحضور السياسي والاقتصادي والاجتماعي عبر نُخَبٍ رائدة  أدّت دوراً طليعياً في البلاد، بدأ بعدها انحسار الدور نظراً إلى ظروفٍ موضوعية وذاتية أثّرت في مشاركتها الفاعلة في المسيرة اللبنانية.

ويحضرني في هذا المجال، ما ذكره احد أعضاء وفدٍ علماني ماروني زار السفير البابوي السابق غبريال كاسيا، وراح يشرح أعضاء الوفد الأزمة التي تمرّ بها الطائفة المارونية على صعيد المؤسسات الدينية والسياسية، وقد صمت السفير فترة قبل أن يوجّه كلامه للوفد قائلاً: ما يحدث في البطريركية المارونية هو أخطاء إدارية بسيطة مقبولة يعالجها البطريرك الراعي بحكمة وثبات. ولكن الخلل الكبير هو ما يحدث في طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، حيث باعت البطريركية عن إهمالٍ أو عدم إدراك أراضٍ في منطقة الشوف تعادل أكثر من مليون ونصف المليون متر مربع من دون أخذ موافقة المجمع الشرقي في روما. وقد عرف عدد قليل من النخبة في الطائفة بهذه المُخالفة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انحسر دور الطائفة على صعيد الدور السياسي بعد وفاة الوزير جوزف سكاف. ولا بدّ في هذا المقام من عرض موجز عن تاريخ طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في الشرق.

تاريخ الكنيسة الملكية

إتّحدت الكنيسة الملكية الكاثوليكية بروما بعد معاناة واضطهادات، لتبقى على الولاء للكرسي الرسولي، وعلى استمرارها في الحفاظ على التراث الثقافي والليتورجي والقانوني.

بدايةً، إعترف الحبر الروماني بالكنيسة الملكية المنفصلة عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، عندما أرسل البطريرك أتناسيوس الثالث صك إيمانه الكاثوليكي الى روما سنة 1687.  ثم في العام 1743 أصدر البابا بنديكتوس الرابع عشر رسالته العامة (DEMANDATUM) يلتزم فيها المحافظة التامة على الطقس الشرقي للكنيسة الملكية.

وعلى أثر حرب الاستقلال اليونانية في العام 1830، ضغطت الدول الغربية على السلطان العثماني للمطالبة بإقرار نظامٍ يُراعي استقلالية الطوائف الشرقية الكاثوليكية ويرفع عنها سلطة البطاركة الأرثوذكس.

في العام 1833 إنتُخِب مكسيموس مظلوم بطريركاً ودخل دمشق دخولاً رسمياً في العام 1834، حيث أعاد تنظيم البطريركية وعقد مَجمَعَين لتوضيح الأنظمة القانونية في سينودس عين تراز في العام 1835 وسينودس اورشليم في العام 1849، ونال الولاية البطريركية على كرسي أورشليم والإسكندرية.

وفي عهد البطريرك غريغورس يوسف في العام 1856، دافع في المجمع الفاتيكاني الأوّل عن مطالب الكنيسة الملكية أمام اللَّيتَنة (الطقس اللاتيني) باستقلالية الطقس البيزنطي.

أما البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ ( 1878 – 1967) فقد دافع عن الحركة السكونية، وكان له دور ريادي في المجمع الفاتيكاني الثاني ( 1958 – 1963) في التمسك بالليتورجية البيزنطية، وفي التمسّك باستقلالية الكنيسة الملكية إزاء الطقس اللاتيني.

وقد برز المطران كيرلس مغبغب (الذي صار بطريركاً في ما بعد) في مؤتمر الصلح عام 1919 في باريس، حيث رافق البطريرك الماروني الياس الحويك، ودافع بقوة في المؤتمر عن الكيان اللبناني.

وقد أسهم أعلامٌ من الروم الملكيين في القرن التاسع عشر في قيام النهضة العربية إزاء الهيمنة العثمانية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ ناصيف وابنه ابراهيم اليازجي ، والشاعر خليل مطران وسليم تقلا مؤسس صحيفة الأهرام في مصر.

على صعيد المؤسسات الرهبانية ، برز دير المُخلّص كمركز إشعاعٍ روحي ووطني واجتماعي في منطقة الشوف، حيث حافظ على التراث الملكي على مدى الأجيال.

كما برز دير مار يوحنا الخنشارة كمركز اشعاع ثقافي وديني مهم في منطقة المتن، حيث أسس الأخ عبدالله زاخم أول مطبعة باللغة العربية.

وفي كتابه المرجعي “الإكليروس والملكية والسلطة” للمؤرخ الدكتور جوزف بو نهرا، يؤكد أن الأملاك الواسعة التي تخصّ الرهبان، وبخاصة دير مار يوحنا – الخنشارة، إمتلكوها بالشراء، وخصوصاً من الأمراء اللمعيين، وليس من طريق هبات المؤمنين، كما هو الرأي الشائع بين الناس.

وقد برزت النخبة السياسية في الطائفة، حيث تسلّمت منصب وزارة الخارجية مرات عدة منذ الاستقلال. وعندما يُحكى عن وزارة الخارجية يُسأل أين الكاثوليكي ليحمل لواءها؟

الواقع أن شخصيات عدة من الطائفة تحمّلت مسؤوليتها ولمعت فيها منها سليم تقلا (1943-1945)، وهنري فرعون الذي شارك في رسم العلم اللبناني (1945)، وفيليب تقلا الذي تبوّأ المنصب سبع مرات في خلال الفترة الممتدة بين العام 1946 والعام 1975، وهناك أيضاً يوسف سالم (1969) وخليل أبو حمد (1970-1973) ونصري المعلوف (1992) … وقد برز أيضاً من هذه النخبة الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير نجيب صَدَقة، والتي ما زالت بصماته حاضرة في وزارة الخارجية اللبنانية. وكان وطنياً راسخاً، لا يُهادن في الدفاع عن لبنان، وقد رافق قائد الجيش العماد إميل البستاني في العام 1969 لتوقيع اتفاقية القاهرة مع الجانب الفلسطيني، وعندما لاحظ ان البستاني قدّم تنازلات في الاتفاقية، رفض صدقة التوقيع، وأبلغ الرئيس شارل حلو أنه لا يقبل بمتابعة المفاوضات ورجع إلى لبنان. وقد حظي باحترام الرئيس جمال عبد الناصر والمسؤولين المصريين، كما برز السفير فؤاد الترك، الذي لعب دوراً أساسياً في تحمّل مسؤولية الوزارة في أصعب الظروف في ظلّ القطيعة بين الرئيس أمين الجميّل ورئيس الحكومة رشيد كرامي . وكان أيضاً من العاملين على رفع شأن الانتشار اللبناني في العالم.

كما برز من الطائفة الكاتب والأديب العالمي أمين معلوف، أول لبناني يدخل حرم الاكاديمية الفرنسية الذي أسسها الكاردينال ريشّيلو، ولا يسع المقال لذكر كل الأعلام من الطائفة الملكية وهم كثر.

وضع الطائفة راهناً

تواجه طائفة الروم الكاثوليك اليوم تحديات كثيرة على صعيد الحفاظ على الأوقاف حيث يقوم البطريرك يوسف العبسي بجهودٍ كبيرة للحفاظ عليها واستثمارها للخير العام، والسينودس الأخير الذي عُقدَ في الربوة هو من الخطوات لمواجهة المصاعب التي تواججها الطائفة.

أما على الصعيد السياسي، فعلى الطائفة التي يبلغ عدد أفرادها في لبنان حوالي 160 ألفاً، أن تواجه تحديات كبيرة في تكريس وجودها الوطني السيادي، فالنواب الكاثوليك متساوون مع الدروز في مقاعد النواب. وقد قام المجلس الأعلى للروم الكاثوليك بدور رائد في حماية مصالح الطائفة، إلّا أن الخلافات السياسية عصفت فيه أخيراً أدّت الى تجميده من قبل البطريرك العبسي بتاريخ 22/2/2021. فهل يكتفي المطارنة الكاثوليك باجتماعهم الشهري حيث يصدرون بياناً وطنياً أسوة بالمطارنة الموارنة؟

في المحصلة النهائية، فإن الكنيسة الملكية لا تزال تعيش التراث الروحي والليتورجي النابع من كنيسة الشرق القديمة والتي هي ثروة الكنيسة جمعاء  في الانتماء الى التاريخ البيزنطي والى الشركة الرومانية.

فهل تجدّد الكنيسة الملكية الكاثوليكية تاريخها الديني والوطني العريق كما عهدته في الماضي القريب؟

  • السفير يوسف صدَقة هو ديبلوماسي لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى