الجَبهَةُ اللبنانية تَسبَقُ جَبهَةَ غَزَّة

الدكتور ناصيف حتّي*

مِن تداعياتِ الحَربِ الإسرائيليةِ على غزّة على الصَعيدِ الإقليمي، الرسائل الرَدعِيّة المُتَبادَلة بينَ إسرائيل وإيران، كما شاهدنا في الهجومِ الإيراني بالمُسَيَّرات والصواريخ التي لم تَكُن مُوَجَّهةً ضدَّ أهدافٍ إسرائيلية عسكرية أو مدنية مُحَدَّدة وذات أهمّيةٍ استراتيجية،  والرَدِّ الإسرائيلي ضدّ القاعدة الجوية في أصفهان القريبة من إحدى المنشآت النووية الإيرانية: إنّهُ نوعٌ من حوارِ الرسائلِ الرَدعيّةِ والتي خرجت عن قواعدِ المُواجَهة التي كانت قائمةً بين الطَرَفَين، من دون أن يعني ذلك أنها أسقطت تلك القواعد.

الهجومُ الإيراني جاءَ ردًّا على العملية العسكرية الإسرائيلية ضدّ القنصلية الإيرانية في دمشق التي هدفت القضاء على ما تعتبره إسرائيل “عقل” القيادة القتالية العملانية لحَربِ “وحدة الساحات”. الحوارُ الردعي هو بمثابةِ تبادُلِ رسائل تحذير تلافيًا للانزلاقِ نحوَ حَربٍ مفتوحة بين الطَرَفَين. حَربٌ لا تُريدُها إيران وحلفاؤها ضمن استراتيجية “وحدة الساحات”، ولا تُريدُها القوى الغربية وفي طليعتها الولايات المتحدة والقوى الدولية الأُخرى المَعنية بالاستقرارِ في المنطقة، ولو لكلٍّ أسبابه.

صحيحٌ أنَّ إسرائيل تُريدُ توريطَ الولايات المتحدة في حربها المفتوحة في الزمان والمكان لإرساءِ توازنِ قوى إقليمي جديد في المنطقة يكون لمصلحتها كُلِّيًا. لكن الضغوط الأميركية، والأُخرى الدولية، ساهَمَت في رَدعِ هذا التوجّه الإسرائيلي لِما يحملهُ من مخاطر على الاستقرارِ والأمن الإقليميَين بشكلٍ عام، اللذين هما مصلحة للجميع أيًّا كانت اولويات هذه القوى الدولية. كما إنَّ أصدقاءَ طَرَفَي لُعبةِ تبادُلِ الرسائلِ الرَدعيّة وَجَّهوا رسائل طمأنة مباشرة وعبر أصدقاءٍ مُشتَرَكين للطرفِ الآخر باحتواءِ الموقفِ وبعَدَمِ وجودِ الرغبة بالانزلاقِ نحوَ حَربٍ مفتوحةٍ لا يُدرِكُ أحدٌ أبعادَها وتداعياتها.

بعدَ أشهرٍ ستة من الحربِ على غزّة، والتي توسَّعت منذ البداية لتشمل جبهة الجنوب اللبناني، تبدو إسرائيل في صَدَدِ إعادةِ صياغةِ مُقاربتها الاستراتيجية في هذه الحرب. صحيحٌ أنَّ السيطرةَ الأمنية والعسكرية المفتوحة على غزة تبقى عنوانَ تلك الاستراتيجية التي من أهمِّ بنودِها الدخول إلى رفح “وتنظيفها من حماس”. لكن بدأت بوادرُ تغيير بالظهور في المقاربة الإسرائيلية، منها مثلًا إعطاء أولوية لجعل شمال القطاع “منطقة آمنة” كُلِّيًا، أي خالية من الفلسطينيين، كمرحلةٍ أولى في الحرب المستمرة، الأمر الذي يفترضُ عزل الشمال كُلِّيًا عن باقي مناطق القطاع. يقابل ذلك إنتقال التركيز وإعطاء الأولوية القتالية للحرب على الجبهة اللبنانية حتى في عُمقِها السوري من حيث استهداف مراكز الإسناد والدعم التسليحي واللوجِستي.

التخفيضُ التدريجي للقتال على جبهةِ غزّة يُقابلهُ التصعيد المفتوح في الأهداف والجغرافيا والقوّة النارية على الجبهة اللبنانية. وإذا كانت استراتيجية “وحدة الساحات” تقومُ على الرَبطِ بين جبهة لبنان وجبهة غزّة، فلا يتوقّف القتال على الجبهة الأولى إذا لم يتوقّف على الجبهة الثانية حسب هذه الاستراتيجية، فإنَّ استراتيجيةَ إسرائيل تقومُ على الفصلِ بين الجبهتَين. تعتبرُ إسرائيل أنه حتى إذا حصلَ وقفُ إطلاق نار على جبهة غزّة فإنَّ الحربَ لن تتوقف على جبهة لبنان قبل تحقيقِ أهدافِ إسرائيل على هذه الجبهة. هذه الأهداف تتمثّلُ في رَفضِ العودةِ إلى الوَضعِ الذي كان سائدًا حتى السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وإبعاد القوة المسلّحة ل”حزب الله” عن الحدود (أوَّلًا كان العنوان إلى شمال الليطاني وثم تراجع للحديث غير المباشر وعبر الوسطاء عن حوالي عشرة كيلومترات من الحدود). الوَضعُ الراهن في الجنوب اللبناني يُمكِنُ وصفهُ اليوم بأنّهُ أكبر بكثير من حَربِ استنزاف وأقل بقليل من حربٍ شاملة. إنها حربٌ تقومُ على تصعيدٍ مُستَمرٍّ من حيث الكثافة النارية وجغرافية القتال وطبيعة الأهداف، وقابلة للانزلاق إلى حَربٍ مفتوحة في أيِّ لحظة.

جبهةُ لبنان اليوم تقدّمت على جبهة غزّة كأولوية للحربِ الإسرائيلية الدائرة. وإذا كان العنوان للاتصالات والتحرّكات الديبلوماسية القائمة بأشكالٍ وصِيَغٍ مختلفة هو تنفيذ قرار مجلس الأمن ١٧٠١ الخاص بلبنان، والذي لم يجد طريقه للتنفيذ الكُلّي بالطبع مُنذُ صدوره في ١١ اب (أغسطس) ٢٠٠٦، فإنَّ المنحى الواقعي والفعلي للقرارِ المَعني ياتي تحت عنوان التنفيذ التدريجي وبشكلٍ أكثر تقدُّمًا من الماضي على طريق التنفيذ الكامل للقرار لتحقيق الاستقرار في الجنوب. الأمرُ الذي يعني البحث عن صيغةِ تفاهُمٍ بين الأطراف المُتَواجِهة والفاعلة بشكلٍ مباشر أو غير مباشر على الأرض، برعايةٍ ودَعمٍ وتَحفيزٍ من القوى الدولية والإقليمية المُؤثّرة، للتوصّلِ إلى تفاهُمٍ شبيهٍ بتفاهُمِ نيسان (إبريل) لعام ١٩٩٦، مع تغيُّرِ الظروف على الأرض بين تلك الفترة واليوم ولكن بدون تغيّرٍ في طبيعة اللعبة في “مسرح الصراع “. تفاهُمٌ يُنظّمُ ويضمَنُ التهدئة والسلام الذي يعني غياب الحرب، آخذًا بعين الاعتبار المُتغَيِّرات العديدة التي حصلت على الأرض منذ ذلك التاريخ. تفاهُمٌ يُنظّمُ هدنةً مفتوحةً في الزمان، بانتظار ولوج باب السلام الشامل وهو بعيد ولم تتبلور شروطه بعد. البديل هو ما يُعرَفُ بالصفقةِ الكبرى بين القوى الفاعلة في الإقليم. صفقةٌ إذا ما تمَّ التوصُّلُ إليها فهي تُعزّزُ الهدنة أو تفتحُ بابَ السلام وتُزيلُ العديدَ من العوائق أمامه، من دون أن يعني ذلك الوصول إلى تحقيقه. وسيبقى لبنان، بين  جاذبية جغرافيته السياسية وانقساماته المجتمعية والسياسية الحادة، أسيرًا لهذه التجاذبات والتفاعلات في محيطه .

طريقُ الإنقاذ الوطني يستدعي الخروج من منطق الانتظار لبلورةِ خطّةِ عملٍ وطنية شاملة للإصلاح الذي يقومُ أوَّلًا على تعزيزِ مَفهومِ دولةِ المؤسّسات. الدولة التي تقومُ على تحديدِ الأولويّات الوطنية وكيفية التعامل معها. خطةٌ يُشاركُ فيها مختلفُ القوى الفاعلة. إنّها عمليةٌ دونها الكثير من التحدّيات ولكنها أكثر من ضرورية لصيانة الأمن الوطني. الأولوية في هذا المسار المطلوب يجب أن تقوم على إنهاءِ حالة الفراغ في السلطة، والشلل في المؤسّسات. خطةٌ هي البديل الوحيد الذي دونه الكثير من الصعاب، ليتحوّل لبنان من مجرّدِ “ملعب” للكثيرين، إلى لاعبٍ فاعلٍ وناشطٍ ومُبادِر في محيطهِ وفي العالم.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى