بعد كورونا: إِعادةُ هندسةِ العقل البشري

بقلم هنري زغيب*

 خلال تَعريبي سنة 1973 كتابَ الوزير الفرنسي آلان ﭘـيرفيت “يوم تَنهض الصين يَهتزُّ العالم” (عبارة منسوبة إِلى بوناﭘـَرت ترجيحًا سنة 1816) إكتشفتُ دقَّةً كانت تلك “القارة” الصينية تتطوَّر بها وتنمو، وهدفُها الأَبعد: السيطرة على هذه القرية الكونية المسمّاة “الكرة الأَرضية”.

ومع اندلاع الكورونا في الصين وتَفَشِّيه إِلى سائر “القرية الكونية” واكتشافِ أَنها بدأَت تسيطر عليه فينحسر فيها ويتمدَّد في سواها، يبدو كأَنَّ الصين فعلًا “هزَّت العالم” فربحَت الحرب العالمية الثالثة دون إِطلاق صاروخ واحد ولا قنبلة “هيروشيمية” واحدة، وكأَن الأَميركا الْكانت، بعد الحرب الباردة، “القوة العظمى” الوحيدة وقائدة العالم، لم تعُد تلك “العظمى” فيما نيويوركُها مقبرة “سَدومية” مُرعبة تُربك المعنيين بدءًا من دونالد البيت الأَبيض.

هكذا، بعد القضاء (متى؟) على جرثومة خفيةٍ أَشدَّ فتكًا من سلاحٍ نوَويٍّ يهدِّد به واضعوه أَعداءَهم، سنكون أَمام نظام عالمي جديد يُهندس سلوكياتٍ ستقلِب المفاهيم السائدة راهنًا.

سنشهد الكون كلَّه تغيَّر إِلى مفاهيمَ جديدةٍ تلاقي نعمةَ الإِنسان لا نقمتَه، وقيمٍ تعلِّمنا دروسًا قاسية، فتتبدَّل أَولويات أَنماطنا على مستوى السياسة والصحة والتربية والاجتماعيات والبيئة والتربية والتعليم، وترتدي العلاقات الإِنسانية وجهًا آخر من التعاطي مع الآخر، مع الطبيعة، مع البيئة، وستسقط الأَقنعة عن حكَّام وسياسيين وزعماء وقادة وأَحزاب وإِيديولوجيات لن تعود مُجْديةً ولا مُقْنِعةً ولن يَنْجَرَّ وراءَها مُحازِبون ولا يَنقاد إِليها “رفقاء”، وستُولَد أَنماط علْمية وقيمٌ أَخلاقية ومفاهيمُ اجتماعيةٌ جديدة تُناسب عصرًا يشقُّه العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين إِلى أَن يكون يومًا ما يُغيِّر هذا الجديد الآتي.

كأَن الكون كلَّه سيتغيَّر بعدما إِنسانُه الحالي شوَّه الطبيعة ومحا الغابات بَترًا وحرائقَ، ودمَّر البيئة بالتلوُّث النوَوي والأُوزوني، واستغلَّ الإِيمان والأَديان والعبادات وطقوسَها وممارساتِها ومؤْمنيها، وأَشعل الإقتتال بالحروبِ الْمُدمّرةِ البرَّ والبحر والجو والإِنسان، ثم… جثا مرعوبًا من أَوبئة داهمتْه فأَربَكتْه وأَعادتْه إِلى عناصره الأُولى يفتكرها من جديد.

كأَنَّ بعض التكنولوجيا قتَل الإِنسان ولم يُنقذْه إِلى استباقٍ يَرتقب قبل أَن يُعالِج، ويَقي قبل أَن يُداوي. وبقدْر ما تَجَبَّر الإِنسان وتَكَبَّر وتَأَلَّه وغزا الفضاء والكواكب، واغتال أُمِّيُّوهُ سقراط وغاليليو، إنهار عاجزًا أَمام جرثومة كورونية جامحة جائحة فاضحة فَخَرَّ صريعَ إِنجازاته وادعاءَاته، وانحَجَرَ مرعوبًا متلازًّا في قريته الكونية حيال وباءٍ خفيٍّ يغتال إِنسانها كما كان إِنسانها يغتال حيواناتها ونباتاتها وطيورها وأَشجارها وكنوزها وعطايا طبيعتها الأُمِّ التي كأَنها اليوم تعاقبُه على مجازره الفظَّة.

وإِذا الكورونا صدَم الناس فبات تعاطيهم إِلكترونيًّا “عن بُعد”، فهذا الــ”عن بُعد” سيُعيد هندسةَ العقل البشري، بنِظرةٍ مغايرةٍ إِلى المرئيات والماورائيات في كوكب قادر على العودة إِلى عصوره الأُولى، جليديِّها وحديديِّها، حتى إِذا عاد إِليه الإِنسان خصَّص أَولوياته للصحة الأَدنى قبل حُلمه الأَقصى بالترجُّل على أَرض القمر.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه: henrizoghaib.com
  • يَصدُر هذا المقال في “أَسواق العَرَب” تَوَازيًا مع صُدُوره في صحيفة “النهار” – بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى