ماذا تعني حَربُ غزّة للسعودية؟

بعدما اشتعلت جبهات القتال في غزة علّقت المملكة العربية السعودية محادثاتها مع الأميركيين حول التطبيع مع إسرائيل، لكن هل صار هذا الأمر خارج الطاولة؟

الرئيس محمود عبّاس يستقبل أنتوني بلينكن: العمل مع السلطة الفلسطينية لتوسيع حكمها إلى غزة.

ف. غريغوري غاوس الثالث*

ستكون حركة “حماس” قادرة على الإدّعاء بأنها حقّقت إنتصاراتٍ قليلة جدًا في حربها مع إسرائيل، لكن الانتصار الكبير الذي حققته بالفعل هو توقيف الزخم نحو التوصّل إلى اتفاقٍ بوساطة أميركية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. كان الاتفاقُ الإسرائيلي-السعودي من المتوقع أن يُحَقّقَ أرضيةً تاريخية، ويؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، وإدخال السعودية بقوة أكبر في الحظيرة الأمنية الأميركية، وانتزاع التزامات إسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية. في الواقع، ربما كانت المخاوف من التقارب الإسرائيلي-السعودي شكّلت أحد الدوافع الرئيسة لهجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر).

تتركُ الحربُ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في موقفٍ صعب، على الأقل في المدى القصير. يتوق بن سلمان إلى استقرارٍ إقليمي، الأمر الذي من شأنه أن يُسَهِّلَ عليه متابعة هدفه المتمثّل في تنويع اقتصاد المملكة وتقليل اعتمادها على صادرات النفط. إن العنفَ المُروّعَ والتهديدَ بتصعيدٍ أوسع يُهدّدان تقدّمه على هذه الجبهة. ويواجه بن سلمان الآن أيضًا ضغوطًا متنافسة في الداخل والخارج، حيث يدعو القادة الأميركيون والأوروبيون السعودية إلى القيام بدورٍ قيادي في غزة ما بعد “حماس”، بينما تحثّ المجموعات الإقليمية والمحلية الرياض على دعم الفلسطينيين بشكلٍ أكثر فعالية في ساعة حاجتهم ومحنتهم.

من المرجح أن يشعر كلا الجانبين في لعبة شد الحبل حول الرياض بخيبة أمل. لا تملك السعودية القدرة ولا الرغبة على نشر قواتٍ على الأرض في غزة ما بعد الحرب أو تمويل إعادة إعمار القطاع على نطاق واسع. كما إنّها لم تُظهِر أيَّ استعدادٍ لاستخدامِ الأدوات المُتاحة لها، مثل قدرتها على خفض إنتاج النفط أو صادراته للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة. وعلى الرُغم من أنَّ الاتفاق الإسرائيلي-السعودي غير مطروح على الطاولة في الوقت الحالي، إلّا أنَّ الحوافزَ التي دفعت السعودية إلى التفكير في الاعتراف بإسرائيل لم تختفِ. لا يمكن تحقيق أهداف بن سلمان الاقتصادية الطموحة للمملكة إلّا في شرِق أوسطٍ مُستقر وفي ظل علاقاتٍ قوية مع الولايات المتحدة. وسوف تُشكّل هذه الأجندة طويلة المدى مسار عمله في الصراع الحالي.

خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء

قبل هجوم “حماس” المفاجئ على إسرائيل، خطت إدارة جو بايدن خطواتٍ ملحوظة في جهودها للتوسّط في تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. كانت هناك عقبات كبيرة في طريق التوصل إلى اتفاق، وهي المصالح المتباينة للأطراف الثلاثة. كان السعوديون يطالبون بتحركات إسرائيلية ملموسة لتحسين الآفاق السياسية للسلطة الفلسطينية، على الأقل فتح إمكانية إجراء مفاوضات نحو حلِّ الدولتين. ونظرًا للتركيبة اليمينية المتطرفة للحكومة الإسرائيلية، فإن مثل هذه الخطوات كانت صعبة التحقيق. كانت مطالب الرياض من الولايات المتحدة أيضًا بعيدة المنال، بما في ذلك ضمان أمني رسمي والمساعدة على بناء بنية تحتية نووية مدنية سعودية من دون الضمانات التي طلبتها واشنطن من شركاء سابقين. ومع ذلك، كان هناك شعورٌ بالتقدّم. قبل أقل من ثلاثة أسابيع من هجوم “حماس”، قال بن سلمان لشبكة “فوكس نيوز”: “كل يوم نقترب أكثر” في المفاوضات.

ربما كان الأمر كذلك، لكن القضية الفلسطينية كانت ستُشكّلُ دائمًا عائقًا. على الرُغم من أن المحرّمات في دول الخليج ضد العلاقات مع إسرائيل قد تراجعت في السنوات الأخيرة، إلّا أَّن الجماهير العربية لا تزال تهتم بالقضية الفلسطينية. ونتيجةً لذلك، يتعيَّن على الزعماء العرب أن يبدوا وكأنهم يفعلون ويهتمون بالشيء نفسه على الأقل. وحتى قبل الحرب، أشارت السعودية إلى أنه سيتعيّن على إسرائيل أن تفعل شيئًا جوهريًا بشأن القضية الفلسطينية كشرطٍ أساسي للتطبيع. وفي آب (أغسطس)، وبينما كانت المناقشات مع إسرائيل تتقدّم، عيَّنت السعودية أول سفير لها لدى الفلسطينيين، وهي لفتة فسّرها الكثيرون على أنها دليلٌ على التزام الرياض بالضغط من أجل الحصول على ضماناتٍ إسرائيلية نيابة عن الفلسطينيين. ولتحقيق التقارب مع الرياض، ستحتاج إسرائيل إلى بذل المزيد من الجهد مما فعلته في الفترة التي سبقت اتفاقيات أبراهام، وهي سلسلة من اتفاقيات التطبيع بين إسرائيل والبحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة في الفترة 2020-2021. وكجُزءٍ من تلك الصفقات، وافقت إسرائيل على التخلي عن الخطط التي طرحتها لضم 30% من الضفة الغربية، موَسّعةً سيادتها على الأراضي التي تحتلها حاليًا – وهي خطوة من شأنها أن تقضي فعليًا على احتمال التوصل إلى حلّ الدولتين.

إنَّ مثل هذه الخطوات المتواضعة لن تكون كافية بعد الآن. إن الخسائر الفادحة التي ألحقها الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة بالمدنيين الفلسطينيين قد زادت من هذا الرهان. وطالما ظلت إسرائيل منشغلة بغزة، وما دام الرأي العام العربي يتم حشده لدعم الفلسطينيين، فإن الصفقة الإسرائيلية-السعودية لن يكون لها مكان.

إن استعدادَ المملكة العربية السعودية حتى للنظر في صفقةٍ مع إسرائيل يعكس تحوّلًا أوسع في سياستها الخارجية. عندما وصل محمد بن سلمان إلى السلطة مع صعود والده إلى العرش في العام 2015، وضع ولي العهد السعودي البلاد على مسارٍ طموح للتغيير الاقتصادي وبدأ في إلقاء ثقل الرياض في المنطقة، غالبًا بهدف مواجهة منافستها اللدودة، إيران. وبالتحالف مع الإمارات العربية المتحدة، شنَّ حربًا لدحر قوة حركة الحوثي المدعومة من إيران في اليمن. وقام بتنظيم حصار على قطر بسبب دعمها للجماعات الإسلامية السنية، بما في ذلك “حماس”. وعندما زار سعد الحريري، رئيس الوزراء اللبناني آنذاك، الرياض في العام 2017، أجبره بن سلمان على الاستقالة من منصبه، على أمل أن تؤدي الأزمة السياسية في لبنان إلى الإضرار ب”حزب الله”، حليف إيران. (ألغى الحريري استقالته بعد عودته إلى بلاده). وصعّد بن سلمان من خطابه تجاه طهران. وأعلن: “لن ننتظر حتى تكون المعركة في السعودية”، مُدَّعيًا أنَّ إيران تسعى إلى السيطرة على الأماكن المقدسة الإسلامية في بلاده. وبدلًا من ذلك “سنعمل على أن تكون المعركة معهم في إيران وليس في السعودية”. وبالنسبة إلى الأميركيين، فقد ولّد قتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي، المقيم في الولايات المتحدة، خلال زيارته للقنصلية السعودية في اسطنبول، مشكلة كبيرة.

أدى الموقف الدولي العدواني لمحمد بن سلمان إلى نتائج عكسية في نواحٍ عديدة، فقد فشل في إلحاق الضرر بأعدائه مع تنفير المؤيدين الدوليين، بما في ذلك الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وعد عندما كان مرشحًا رئاسيًا في العام 2020 بجعل الرياض “منبوذة” على المستوى الدولي. وفي أعقاب رد الفعل العنيف هذا، غيّرت الرياض في السنوات القليلة الماضية نهجها الإقليمي، مؤكدة على الحوار والسعي إلى الاستقرار. لقد استمر وقف إطلاق النار مع الحوثيين في اليمن لأكثر من عام ونصف. وانتهت المقاطعة التي قادتها السعودية لقطر في أوائل العام 2021. والأهم من ذلك، تواصلت المملكة العربية السعودية مع الصين للتوسط في استئناف العلاقات الديبلوماسية مع إيران هذا العام. وقد تم كل هذا باسم برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي أطلقه بن سلمان، رؤية 2030، والذي يهدف إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتقليل اعتماده على صادرات النفط. وشددت الرياض على ضرورة الاستقرار الإقليمي لتعزيز الاستثمار الأجنبي والتكامل الإقليمي والتنمية الاقتصادية التي تطمح إليها. وفي هذا السياق، بدأت الوساطة الأميركية بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.

حرب غزة وتداعياتها

تبددت آمال السعودية في تحقيق الاستقرار الإقليمي في سعيها إلى تحقيق التنمية الاقتصادية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). ومن المعروف أن الرياض لا تكنُّ الكثير من الحب ل”حماس”، التي خلقت الأزمة. كان السعوديون يخشون ويعارضون المكاسب السياسية التي حققتها الجماعات التابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” في مصر وتونس وأماكن أخرى خلال “الربيع العربي”؛ وحماس هي الفرع الفلسطيني لجماعة “الإخوان المسلمين”. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن يقبل السعوديون أن يُنظَرَ إليهم وكأنهم يقفون جانبًا أو على الحياد (أو الأسوأ من ذلك أنهم يواصلون التفاوض مع إسرائيل) بينما يهاجم الإسرائيليون الفلسطينيين في غزة. لدى الرياض مصلحة في إنهاء القتال وإحراز تقدم نحو تسوية سلمية للقضية الإسرائيلية-الفلسطينية، لكن ليس لديها سوى القليل من الأدوات التي يمكنها أو ستستخدمها لتحقيق هذا الهدف في الوقت الحالي.

اقترح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وعدد من المعلقين الأميركيين أن الدول العربية يمكن أن تلعب دورًا في إدارة غزة ما بعد الحرب. وقد بدأت بالفعل المناقشات الديبلوماسية على هذا المنوال. وتدعو المقترحات الأكثر طموحاً المملكة العربية السعودية إلى المساهمة بأفرادٍ عسكريين وإداريين لحُكم غزة بعد الحرب. ولا تزال المقترحات الأكثر تواضعًا تسند للسعوديين دور تمويل إعادة إعمار غزة. لكن الرياض لن تسمح بأن يُنظَرَ إليها على أنها تعمل على تنظيف الفوضى الإسرائيلية في غزة. ولا تتمتّع القوات االمسلحة السعودية بأيِّ خبرة في العمل خارج حدودها. إن الأداء الضعيف للجيش السعودي في اليمن ليس توصية بنشره في أماكن أخرى. ولم تعمل القوات السعودية قط كقوات حفظ سلام تحت علم الأمم المتحدة.

من الممكن أن تكون المملكة العربية السعودية على استعدادٍ للعب دورٍ مالي في الإدارة الانتقالية التي توافق عليها الأمم المتحدة والتي تؤدي إلى عودة سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة. ومع ذلك، فإنَّ هذا الدور لن يشبه صفقات المساعدات السعودية السابقة، والتي كانت بمثابة إغراقٍ نقدي على العملاء المُفضَّلين. وقد أوضحت الرياض في المفاوضات الأخيرة مع مصر التي تُعاني من ضائقة مالية أنها تفضّل فُرَصَ الاستثمار، وليس التحويلات النقدية. وسيكون نهجها تجاه غزة مُشابهًا، ما لم تكن الولايات المتحدة مستعدة لتلطيف الصفقة بنوع المكاسب الديبلوماسية غير المُتَوَقَّعة التي كانت الرياض تسعى إلى الحصول عليها من واشنطن مقابل التقارب مع إسرائيل.

الأرباح أهم من السياسة

بعد الحرب العربية-الإسرائيلية في العام 1973، المعروفة أيضًا باسم حرب “يوم الغفران” أو “حرب أكتوبر”، فرضت المملكة العربية السعودية وغيرها من منتجي النفط العرب حظرًا نفطيًا على الولايات المتحدة لمعاقبة واشنطن على دعمها لإسرائيل. أدى الحصار والتخفيضات المصاحبة له في إنتاج النفط من قبل السعوديين وغيرهم إلى ارتفاع أسعار النفط أربع مرات، وهي الفترة التي أثارتها صورة الطوابير الطويلة في محطات الوقود في الولايات المتحدة. وكان البنك الدولي، ووكالة الطاقة الدولية، والقادة الماليون، بما في ذلك الرئيس التنفيذي لبنك “جي بي مورغان تشايس”، جيمي ديمون، من بين أولئك الذين حذروا من أن أزمة نفط جديدة تحاكي صدمة 1973-1974 قد تلوح في الأفق.

إن هذه المخاوف مُبالَغٌ فيها، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى أنها تعتمد على سوء فهم لما حدث في العام 1973. وعلى النقيض من الأسطورة المُحيطة به، لم يكن للحصار الذي تم التبجّح به تأثيرٌ يُذكَر. فقد قامت شركات النفط الكبرى ببساطة بإعادة توجيه الإمدادات من مصادر أخرى، مثل أميركا الجنوبية، وغرب أفريقيا، وإيران. كانت للطوابير سيئة السمعة في محطات الوقود الأميركية علاقة أكبر بالتحكّم في الأسعار، وأنظمة التخصيص، وهلع المستهلك أكثر من ارتباطها بالنقص الكبير على المستوى الوطني. إرتفعت أسعار النفط لأنَّ تخفيضات الإنتاج العربي في الأشهر الأخيرة من العام 1973 أثارت قلقَ الأسواق، على الرُغم من أنه أصبح من الواضح في ما بعد أن إجمالي إمدادات النفط العالمية لم تتأثر بشكل كبير. وكان الذعرُ الذي خلقه منتجو النفط العرب الذين أكدوا قوتهم كافيًا لرفع الأسعار. وساعد التوازن المتساوي بين المعروض العالمي من النفط والطلب العالمي على إبقاء الأسعار مرتفعة لبقية العقد، قبل أن تؤدّي الثورة الإيرانية في العام 1979 إلى صدمةِ أسعارٍ ثانية.

حتى لو كان شبح الحصار يُطاردُ صنّاع السياسات وقادة الأعمال، فينبغي لهم أن يشعروا بالارتياح من حقيقة مفادها أنَّ الظروفَ اليوم تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت في العام 1973. ففي ذلك الوقت، كانت المملكة العربية السعودية مُتحالفة بشكلٍ وثيق مع مصر وسوريا، العدوين الرئيسيين لإسرائيل في العام 1973 في حرب “يوم الغفران”، وهي علاقة لا تتمتع بها المملكة مع “حماس”. وفي العام 1973، كان السعوديون على استعداد لخوض مخاطر كبيرة لدعم الرئيس المصري أنور السادات، الذي أنهى عداء بلاده تجاه الرياض. واليوم، لا يشعر السعوديون بأيِّ شعورٍ مماثل بالتضامن مع “حماس”، فرع “الإخوان المسلمين” المتحالف مع إيران.

ويشعرُ بعض المراقبين بالقلق بشأن تخفيضات الإنتاج، لكن السعوديين خفّضوا بالفعل الإنتاج بنحو مليوني برميل يوميًا منذ أواخر العام 2022 في محاولة لدعم الأسعار. (لم يكن لهذه الجهود تأثير يذكر: إذ تتراوح الأسعار حاليًا بين 80 إلى 85 دولارًا للبرميل، وهو أقل بكثير من 100 دولار للبرميل الذي كان متوقَّعًا خلال الصيف). لن تستفيدَ الرياض من المزيد من التخفيضات في الإنتاج، الأمر الذي من غير المرجح أن يمنح السعودية أي نفوذ وسيؤدي إلى تنفير المستهلكين ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن أيضًا في الصين. والأهم من ذلك، أنَّ محمد بن سلمان ليست لديه مصلحة في أن يُنظَرَ إلى المملكة العربية السعودية على أنها مكانٌ تتفوَّق فيه السياسة على الأرباح – خصوصًا وأنَّ هدفه الرئيس هو التحوّل الاقتصادي لبلاده. لقد أظهر بن سلمان التزامه الثابت بالسعي إلى تحقيق هذا الهدف حتى وسط الاضطرابات الحالية: في أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، ومع الأخبار المروّعة الواردة من غزة، شرعت المملكة العربية السعودية في عقد مؤتمرها السنوي لمبادرة مستقبل الاستثمار، والذي حضرته شخصيات مالية بارزة من جميع أنحاء العالم. يريد بن سلمان أن يُنظَرَ إليه على أنه شريكٌ اقتصادي يمكن الاعتماد عليه، وليس مُعطّلًا يُلَوِّحُ بـ“سلاح النفط”.

لُعبُ اللعبة الطويلة

أزمة غزة ستنتهي، كما تنتهي كل الأزمات. ومن المرجح أن يستغرق ذلك أشهرًا وليس أسابيع، ما يؤدي إلى تعليق أي جهود ديبلوماسية أخرى في الشرق الأوسط. وطالما ظلت القوات الإسرائيلية في غزة، فإنَّ فُرَصَ استعادة الزخم في الحوار الإسرائيلي-السعودي غير المباشر الذي تتوسط فيه إدارة بايدن ضئيلة أو معدومة.

لكن العوامل التي دفعت تلك المفاوضات لم تتغير. ترغب إسرائيل بشدة في إقامة علاقة أوثق مع المملكة العربية السعودية. ويرغب السعوديون في أن يكونوا قادرين على الاستفادة من الاقتصاد الديناميكي لإسرائيل، كما فعلت الإمارات العربية المتحدة منذ توقيع اتفاقيات أبراهام. ولا تزال كل من إسرائيل والسعودية تنظر إلى إيران باعتبارها تهديدًا إقليميًا، وتوفّر ثقلًا استراتيجيًا للسعي إلى إقامة علاقات اقتصادية أوثق. إن المطالب السعودية بأن تتخذ إسرائيل بعض الخطوات الملموسة نحو إقامة الدولة الفلسطينية ستظل تشكّل عقبة، ولكن ربما يكون الأمر أسهل إذا أدت الحرب في غزة إلى تشكيل حكومة إسرائيلية جديدة أكثر مرونة، حيث ستكون العودة إلى طاولة المفاوضات هي الأرجح.

في هذا السياق، من المهم أن نتذكر أنَّ كلَّ اتفاقٍ عربي مع إسرائيل كان في جوهره اتفاقًا عربيًا مع الولايات المتحدة. وينطبق هذا على معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية لعام 1979، والتي فتحت الباب أمام المساعدات الخارجية والعسكرية الأميركية لمصر؛ واتفاقية السلام الإسرائيلية-الأردنية لعام 1994، التي أعادت الأردن إلى حظوة واشنطن بعد دعمها لصدام حسين في حرب الخليج 1990-1991؛ واتفاقيات أبراهام للفترة 2020-2021، والتي تضمنت اعتراف الولايات المتحدة بضم المغرب للصحراء الغربية، ورفع تصنيف الولايات المتحدة للسودان كدولة داعمة للإرهاب، ووعد من إدارة ترامب بأن الإمارات العربية المتحدة يمكنها شراء طائرات مقاتلة من طراز “أف-35” (F-35) (وهو التزام تم تعليقه لاحقًا من قبل إدارة بايدن). وسوف يظل احتمال الحصول على هذا النوع من الفوائد جذّابًا بالنسبة إلى السعودية، بغض النظر عمّا يحدث في إسرائيل وغزة.

إنَّ العودة النهائية إلى المناقشات الإسرائيلية-السعودية ستعني أيضًا العودة إلى المفاوضات الأميركية-السعودية بشأن قائمة رغبات الرياض: ضمان أمني ودعم أميركي للتطوير النووي السعودي بدون قيود الضمانات التي فرضتها واشنطن على الآخرين. إذا تمكنت الولايات المتحدة من إعادة التركيز على الديبلوماسية الإسرائيلية-السعودية، ومتى، سيكون من المهم بالنسبة إليها أن تفكر فيما إذا كانت جائزة التطبيع الإسرائيلي-السعودي تستحق تكلفة الالتزامات العسكرية الأميركية الجديدة والمخاطر الأكبر لانتشار الأسلحة النووية في المنطقة. ومع ذلك، في الوقت الحالي، يمكن لواشنطن أن تؤجّلَ مثل هذه المخاوف: فطالما استمر الصراع في غزة، فإنَّ الصفقة الإسرائيلية-السعودية ستظل في الثلّاجة.

  • ف. غريغوري غاوس الثالث هو خبير في شؤون الشرق الأوسط، أستاذ الشؤون الدولية ورئيس كرسي جون إتش. ليندسي 44 في كلية بوش للحُكم والخدمة العامة في جامعة تكساس “إيه آند أم”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى