كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (7 – الجزء الأَخير)

القصر الذي فيه ترجيحًا أَجهضت كميليا جنينَها

هنري زغيب*

موجزةً مرَّت الأَجزاء الستة من هذا المقال المتسلسل، راسمةً ذاك القدر العجيب الذي جمع رودان وكميليا كلوديل في قصة حب تماوجت بين عُنف الحب ومرارة الجفاء، حتى الانفصال فبُلوغ مصحّ الأَمراض النفسية.

كان يمكن أَن أَستمر أَكثرَ بعدُ في حلقات هذا المسلسل، لكنني آثرتُ أَن أَختصرها بسبْعٍ كي لا أُطيل على القرَّاء الذي تابعوا هذا المسلسل وكان عددٌ منهم، مع كل حلقة، يكتبون إِليّ أَنهم ينتظرون الحلقة التالية.

لذا أَختم المسلسل بهذا الجزء السابع الذي نهايتُه هي النهايةُ الحزينةُ التي آلَت إِليها كميليا في آخر حياتها.

“متحف شيكاغو للفنون” يعرض حاليًّا أَعمال كميليا

انكشاف العلاقة السرية

في أَيلول/سبتمبر 1887، بعدما عادت كميليا من صيف هادئٍ هانئٍ مع أَهلها، ذهبَت في رحلة أُولى مع رودان إِلى وادي اللوار، وكان انطفأَ نهائيًّا مشروع رحلة إِيطاليا وانتهى كل بحث في الزواج. ربما لهذا بدأَت كميليا تمر في أُويقات كئيبة ومتوترة، ولو انها كانت تخفيها بمظاهر الأُنثى اللعوب. وربما لذلك – إِذ تَنَبَّه إِليها رودان – اصطحبها معه أَيامًا إِلى  قصر “إِيليت” (Islette).  وكان ذاك مطلع رحلات معه تتالت في ما بعد. وهكذا، رحلة بعد رحلة، لم يعُد ممكنًا إِخفاءُ علاقتهما وإِبقاؤُها سرية. كان شقيقها بول أَول مَن انصدم بتلك العلاقة، فاضطُرَّت كميليا إِلى تَرك بيت ذويها واستئْجار شقة صغيرة دفع رودان إِيجار شهرها الأَول في كانون الثاني/يناير 1888، وبعد أَسابيع قليلة أَسس محترفًا قريبًا جدًّا من شقة كميليا كي يختلي بها بعيدًا عن الرقباء، وخصوصًا عن عشيقته روز.

معرض حول برج إِيفل

صيفَئذٍ انسحب رودان بكميليا إِلى جنوب فرنسا ثم إِلى إِسبانيا، ولم يدْرِ أَحد بمكانه، فلم يعودا إِلَّا في آخر أَيلول/سبتمبر. وفي 1889 – احتفاءً بمئوية الثورة الفرنسية – أُقيم المعرض الكبير في باريس (أَيار/مايو – تشرين الأَول/أُكتوبر)، وكان نجمه الساطع برج إِيفل المبنيّ خصيصًا لهذا المعرض الذي استقطب آلاف الزوَّار من كل العالم. وشارك فيه رودان وكميليا ببعض أَعمالهما.

بين 1889 و1892 خفَّ إِنتاج كميليا وازداد وضْعها النفسي اضطرابًا. سنة 1891 تلقى رودان عرضًا بصنع تمثال رأْس بلزاك فانتقل إِلى حيث كان بلزاك يعيش، ومعه طبعًا كميليا. وسنة 1892 أَنجزت كميليا تمثال “رأْس رودان” وعرضتْه في معرض تلك السنة ولاقى نجاحًا وترحيبًا.  وفي تلك السنة كانت أَنجزت تمثال “الفالس” وعرضته توازيًا مع مقطوعات موسيقية من المؤَلف الموسيقي دوبوسي الذي ارتبطت معه بعلاقة صداقة قوية، هو الذي لم يكن يحب رودان ولا يقدِّر أَعماله إذ يظهر  تأْثيرها على أَعمال كميليا. ولعلَّ هذا الموقف أَثَّر على رودان وكميليا فبدأَت علاقتهما تَشهد توترًا متزايدًا، خصوصًا أَن روز عشيقة رودان اكتشفَت علاقته الحميمة بكميليا. وكان هو يريد الاحتفاظ بالاثنتين: إِحداهما كي تعتني بحاجاته اليومية والأُخرى كي تلْهِمَه بحبها.

“الفالس” من أَنجح أَعمال كميليا

بدايات الانفصال

مع مطلع 1892 أَخذت كميليا تبتعد عن رودان. غادرت شقَّتها الصغيرة إِلى أُخرى قرب برج إِيفل، وأَخذت تزور وحدها قصر إيليت. ويرجِّح البعض أَن تكون تردَّدت إلى القصر لإِجهاضها الجنين من رودان. وبالفعل، لاحقًا سنة 1939 ورد في رسالة بول كلوديل إِلى صديقةٍ له أجهضت، عن إِحدى النساء في أُسرته عمدت إِلى الإجهاض ما أدى بها إلى مأْوى المجانين.

بين 1892 و1903 عملَت كميليا وحدها، وازدادت بُعدًا عن رودان إِنما لا عن مساعداته المادية، مضافةً إِلى دعم شقيقها بول. وبقيَت عين رودان عليها: يطلب سرًّا من النقاد أَن يُثنوا على أَعمالها، ويؤَمِّن لها طلباتٍ لصنع تماثيل جديدة. لكنها منذ 1905 بدأَت حالتها النفسية والذهنية والعصبية تتدهور، وباتت تَلزم محترفها فلا تقابل إِلَّا قلَّة من الأَصدقاء.

راح وضعها المادي ينهار حتى البؤس، لا معين لها سوى والدها وشقيقها بول. ازدادت ديونها وقلَّت طلبات التماثيل، فيما شهرة رودان تتوسَّع ما يُشعرها بالغيرة والحسد والشعور بأَنه يعمل على سحقها وتدميرها. قطعت كلَّ علاقة به وكلَّ اتصال، وهو كذلك سئِم تلك التصرفات المزاجية وقطَع كل اتصال بها.

في هذا المصح انتهت حياة كميليا

العزلة البعيدة

انتقلت فترتئذٍ إِلى محترف آخر، ومن 1905 راحت تحطِّم أَو تشوِّه كلَّ تمثال لها بعد إِنجازه. وآخر اشتراك لها في معرضٍ كان سنة 1908، انعزَلت بعدها في غرفتها النائية لا تقابل أَحدًا، إِلَّا والدها وشقيقها بول، وهي تغرق أَكثر فأَكثر في العزلة والبؤْس.

سنة 1913 توفي والدُها فوَجد شقيقها بول أَنْ لم يعُد من سبيل إِلَّا إِرسالها إلى مصحّ المرضى النفسانيين قرب باريس. وسنة 1914 نُقلَت إِلى مصحٍّ آخر (موندوفيرغ) في جنوب فرنسا، بقيَت فيه ثلاثين سنةً محجورةً في غرفتها وفي صمتها حتى نهاية حياتها، لا يزورها سوى شقيقها بول وصديقتها القديمة جيسي من أَيام عملهما معًا في محترف رودان.

النهاية الحزينة

كانت والدتُها ترسل إِلى مسؤُولي المصحّ رسائل مؤَثِّرة تسأَلهم فيها الاعتناء بابنتها، لكنَّ كل ذلك لم يساعد كميليا على الخروج من عزلتها الداخلية، إِلى أَن انطفأَت وحيدةً داخل تلك الغرفة الوحيدة في 19 تشرين الأول/أُكتوبر 1943.

وما إِلَّا بعد 8 سنوات على وفاتها الحزينة حتى نظَّم لها شقيقها بول معرضًا استعاديًا لعدد كبير من أَعمالها في متحف رودان (باريس)، حقَّق نجاحًا لامعًا، ومن يومها لا تتوقَّف الكتابات عن أَعمالها وخصائص إِزميلها المرهَف. وانتقلَت سيرتُها مع رودان إِلى السينما، ولا تزال متاحف كبرى تعرض أَعمالها وتستقطب زوَّارًا ومعجَبين، أَحدثُها معرض استعادي كبير في “متحف شيكاغو للفنون” تم افتتاحه قبل أَسابيع (في 7 تشرين الأول/أُكتوبر الماضي 2023)  ويستمرُّ حتى 19 شباط/فبراير 2024، جامعًا 60 منحوتة يراها الجمهور الأَميركي للمرة الأُولى، وفيها أَعمالٌ هي الأُخرى تُعرَض للمرة الأُولى بعد ركنها في باريس طيلة 20 سنة في متحف رودان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى