الجمهورُ الغربي يرى إسرائيل من خلالِ عَدَسَةٍ مُشَوَّهة

في الوقت الذي تسعى إسرائيل إلى طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، تسوِّق السينما مع التلفزيون الإسرائيليين من خلال المسلسلات والأفلام التي تُصدّرها إلى الخارج صورةً زاهية عن العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية الجيدة.

“رقصة فالس مع بشير”: فيلمٌ رُشِّح لإحدى جوائز الأوسكار.

سمير حنضل*

حَظِيَ المسلسل التلفزيوني الإسرائيلي “فوضى” بتغطيةٍ إعلامية محلّية وأجنبية كبيرة قلّما عرفها عملٌ تلفزيوني إسرائيلي من قبل. عندما تم عرضه لأول مرة في العام 2015، لم يكن بإمكان أحد أن يتنبّأ بمدى انتشار المسلسل، الذي يُرَكّز على وحدة مكافحة الإرهاب في الجيش الإسرائيلي. لكن “فوضى” حقق نجاحًا شعبيًا كبيرًا ليس فقط في إسرائيل والبلدان الغربية، ولكن عالميًا – بما في ذلك في عدد من الدول العربية.

يُصوّرُ المسلسل أيضًا وجهاتَ نظرٍ فلسطينية أكثر مما قد يتوقّعه الكثيرون من برنامَجِ تلفزيوني إسرائيلي. من المؤكّد أنَّ المُسلسلَ وَلّدَ أيضًا الكثير من الانتقادات لتفضيله المنظور الإسرائيلي، إلى حدٍّ كبير حيث جعل الإسرائيليين هم الأبطال الواضحين. لكن غالبية النقاد أقرّت أيضًا بأنَّ التعاملَ مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني الذي ضمَّ بعض التعاطف مع الجانب الفلسطيني كان بمثابةِ حجر الأساس للعرض الإسرائيلي السائد. ولهذا السبب أيضًا، حظي “فوضى” بتغطيةٍ كبيرة في وسائل الإعلام الغربية، بما في ذلك مقالات في مجلة “نيويوركر” وصحيفة “نيويورك تايمز”.

لكن ما جعل نجاح “فوضى” غير مُتَوَقَّعٍ حقًا، لم يكن كبفَ يُصَوِّرُ المسلسلُ الصراعَ بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بل لأنه يفعل ذلك. في العَقدِ الذي سبق الموسم الأول من المسلسل، نادرًا ما تعاملت الثقافة الشعبية الإسرائيلية السائدة مع القضايا أو المواضيع المُتعلّقة بفلسطين والفلسطينيين. وعلى الرُغمِ مما كان يأمله بعض المراقبين بعد أن حقق نجاحًا كبيرًا، فقد ظلَّ “فوضى” الاستثناء من تلك القاعدة، وليس رائدًا لاتجاهٍ جديد.

إنَّ افتقارَ الثقافة الشعبية الإسرائيلية إلى الانخراط مع فلسطين والفلسطينيين هو في كثيرٍ من النواحي انعكاسٌ لكيفيّةِ تغيّر المجتمع الإسرائيلي في العقدَين تقريبًا بين نهاية الانتفاضة الثانية في العام 2005 وهجوم حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر). في ذلك الوقت، خَلَقَ وَهمُ الاستقرار في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وضعًا راهنًا جديدًا يتّسِمُ بإنكارِ اللاوعي المُجتمعي لوجودِ قضيةٍ لا تزالُ في حاجةٍ إلى حَلّ.

في الواقع، بناءً على الأعمال الإسرائيلية الأكثر نجاحًا خلال تلك الفترة، فإنَّ أيَّ مُراقِبٍ خارجي لن يَعرِفَ حتى أنَّ إسرائيل لا تزال تحتل قطاع غزة والضفة الغربية. على شاشة التلفزيون، على سبيل المثال، تُهَيمِنُ برامج تلفزيون الواقع والمسلسلات الدرامية عن الحياة المنزلية. وفي السينما، اجتذبت الأفلام الكوميدية وأفلام الأطفال أكبر عدد من الجماهير. حتى أفلام الرعب، وهي نوعٌ جديد نسبيًا بالنسبة إلى صانعي الأفلام الإسرائيليين، لا تستمد الإلهام من الصراع مع الفلسطينيين كأداةِ مؤامرةٍ مُحتَمَلة.

الاستثناءُ الوحيد لهذه القاعدة هي أفلام الحرب، والتي على الرُغمِ من أنها لم تُحقّق نجاحًا تجاريًا كبيرًا، إلّا أنها لا تزال سائدة نسبيًا وتتعاملُ بشكلٍ مباشر مع إسرائيل وسلوك الجيش الإسرائيلي في الصراع، ليس فقط في الضفة الغربية وغزة ولكن أيضًا في الحروب الماضية الأخرى. على سبيل المثال، شهدت أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ثلاثة أفلام: “بوفورت” (Beaufort) في العام 2007، و”فالس مع بشير” (Waltz with Bashir) في العام 2008، و”لبنان” في العام 2009، تصارعت جميعها مع أخلاقيات ارتكاب العنف، بما في ذلك قتل المدنيين، في سياق الحرب.

للوهلة الأولى، تبدو هذه الأفلام في كثيرٍ من الأحيان وكأنها محاولة للمصالحة، خصوصًا لأنها تُضفي طابعًا إنسانيًا على الفلسطينيين وخصوم إسرائيل العسكريين الآخرين بطريقةٍ نادرًا ما نراها في أيِّ مكان آخر في المجتمع الإسرائيلي، مثل السياسة أو التغطية الإخبارية. ولكن عند الفحص الدقيق، فإنَّ أفلامَ الحربِ الإسرائيلية غالبًا ما تتناسب مع القول “أطلق النار وابكِ” (أو اقتلهُ وامشِ في جنازته) الشائع في أفلام الحرب من جميع الجنسيات- في هذه الحالة، تصوير الجنود الإسرائيليين وهم يقومون بما يشعرون أنه التزامهم وواجبهم ولكنهم يشعرون بالذنب بسبب القيام بذلك. في الأساس، تُصَوِّرُ هذه الأفلام تكلفة الأعمال العسكرية الإسرائيلية، لكنها لا تتحدّى الافتراضات الأساسية التي أدّت إلى تلك الأعمال.

مع ذلك، تظل أفلام الحرب الإسرائيلية جديرة بالملاحظة لأنها، مثل مسلسل “فوضى”، غالبًا ما يتمُّ تصديرها إلى الغرب، حيث يحظى هذا التعقيد الأخلاقي السطحي باستقبالٍ جيد في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، تم ترشيح فيلمي “بوفورت” و”فالس مع بشير” لجائزة أفضل فيلم بلغةٍ أجنبية في حفل توزيع جوائز الأوسكار. غالبًا ما يرى المراقبون الغربيون أنَّ مثلَ هذه الأعمال هي علامة تبعث على الأمل بأنَّ الفَنَّ يمكن أن يدفعَ المجتمع الإسرائيلي نحو المصالحة ويُزيلَ العوائق النفسية التي تَحولُ دون تحقيق سلامٍ طويل الأمد ودائم مع الفلسطينيين.

لكنَّ أفلامَ الحرب الإسرائيلية ومسلسل “فوضى” هما جُزءٌ من اتجاهٍ أكبر بكثير اكتسبَ زخمًا في السنوات العشرين الماضية: تدويل السينما والتلفزيون الإسرائيليين.

أصبحت السينما الإسرائيلية، بما فيها إنتاجات صانعي الأفلام الفلسطينيين الإسرائيليين، محبوبة في دائرة المهرجانات السينمائية الدولية في العقدين الأخيرين، حيث نالت أفلامٌ مثل “زيارة الفرقة” (The Band’s Visit) و”شجرة الليمون” (The Lemon Tree) و”عجمي” (Ajami) الاستحسان لتصويرها العلاقات الإسرائيلية-العربية – حتى أن الأخير أصبح أول مشاركة إسرائيلية في حفل توزيع جوائز الأوسكار بحوارٍ باللغة العربية في الغالب. في الوقت نفسه، بدأت صناعة التلفزيون الإسرائيلية في تحويل نموذج أعمالها في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين نحو المسلسلات التي يمكن تصديرها.

منذ ذلك الحين، أصبحت أعمال الثقافة الشعبية الإسرائيلية التي نالت استحسانًا كبيرًا في الخارج، وخصوصًا في الغرب، هي أيضًا في كثير من الأحيان تلك التي تتعامل بشكلٍ مباشر مع القضايا الاجتماعية والسياسية المحيطة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فضلًا عن علاقات إسرائيل مع الشرق الأوسط الأوسع. ونتيجةً لهذا، فإن الأفلام والبرامج التلفزيونية وحتى الكتب الإسرائيلية التي يُغطّيها المراقبون والنقاد في الغرب عملت في الأساس على تضخيم صوت ما يمثل في الواقع أقلّية مُتَقَلّصة: اليسار الإسرائيلي. بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين، لقد جعل ذلك الأمر يبدو كما لو إنَّ المجتمع الإسرائيلي يتحرّك في اتجاهٍ أكثر تصالحية مع الفلسطينيين مما كان عليه بالفعل في ذلك الوقت. باختصار، ما اعتبره الغربيون ثقافةً شعبية إسرائيلية لم يكن يحظى بشعبيةٍ واسعة داخل إسرائيل كما بدا من الخارج.

وهذا بدوره أدّى إلى حَجبِ التحوّل نحو اليمين المتشدّد في البلاد على مدى العقدين الماضيين. بطبيعة الحال، يُدرِكُ المراقبون الذين يتابعون الأخبار المُتعَلّقة بإسرائيل هذا الأمر، ويمكنهم رؤيته في تحركِ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي تعتمد حكومته الائتلافية منذ انتخابات العام الماضي على مشاركة الأحزاب اليمينية المتطرفة المؤيّدة للمستوطنين.

لكن ما كان مفقودًا من هاتين العَدَستين للثقافة المُصَدَّرة – إحداهما تُصوِّرُ احتضانَ عملية السلام، والأُخرى تُصَوِّرُ الميول المُتنامية المؤيدة للمستوطنين في البلاد– هو الشعور السائد باللامبالاة والإنكار داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين بشكلٍ عام واحتلال الضفة الغربية وغزة على وجه الخصوص. قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، كان هناك اعتقادٌ ضمني في المجتمع الإسرائيلي بأنَّ الوَضعَ الراهن – وَهمُ الاستقرار الذي تتخلّله صراعاتٌ مُتَفَرِّقة مُنخَفضة المستوى، مع بقاء عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين في الغالب بعيدًا من الأنظار وبعيدًا من الإعلام– يجعل إسرائيل وفلسطين أقرب إلى السلام والأمن.

إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تُعاني من انفصالٍ بين مجتمعها المحلي وفَهمِ المراقبين الخارجيين لذلك المجتمع. غالبًا ما تُفقَدُ الثقافة في الترجمة. ولعلَّ الأمرَ الفريد، أو اللافت على الأقل، هو الانفصال بين فَهمِ إسرائيل لمجتمعها وواقع ذلك المجتمع، الذي كان ولا يزال مُرتبطًا بشكلٍ لا ينفصم بالفلسطينيين من خلال حقيقةِ الاحتلال البسيطة.

نحن الآن نرى تكلفة هذَين الإنفصالَين بين التصوّرِ والواقع تتجلّى في الحرب بين إسرائيل و”حماس”. لكنَّ إسرائيل وشركاءها في الغرب، وتحديدًا الولايات المتحدة، ما زالوا يجرون بشكلٍ أساسي مُحادثتَين مُختلفتين حول الحرب في غزة وما يجب أن يحدث في اليوم التالي عندما تنتهي.

ربما كان هجوم “حماس” قد أجبر الإسرائيليين على الخروج من راحة الإنكار، ولكنه لم يؤدِّ إلّا إلى تعزيز الفكرة الكامنة وراء هذا الإنكار: إنَّ الوضع الراهن قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كان أقرب ما يمكن أن تصل إليه إسرائيل وفلسطين من السلام. وفي المقابل، أدرك الغرب ـوالعالم بصراحةـ الحاجة الملحة إلى الدفع مرة أخرى نحو عملية سلام حقيقية.

وتتطلّبُ هذه العملية ذلك النوع من المصالحة الذي يعتقد البعض في الغرب أنه كان يحدث بالفعل في إسرائيل على مدى العقدين الماضيين، استنادًا إلى عَيِّنة محدودة من الثقافة الشعبية الإسرائيلية. ومن جانب الغرب فإنَّ الدفع نحو هذه العملية سوف يتطلّب فهمًا أفضل لمواقف الثقافة الإسرائيلية من قضية السلام. وهذا بدوره يتطلب من المراقبين الغربيين أن يفهموا الثقافة الشعبية الإسرائيلية استناداً إلى حقيقتها، وليس إلى ما ترسله إلى مهرجانات “كان” والأوسكار.

  • سمير حنضل هو مراسل “أسواق العرب” في رام الله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى