هَكذا تَقومُ طهران بتَشييعِ سوريا

منذ فترة تعمل إيران على تشييع سوريا بمساعدة نظام الرئيس بشّار الأسد، لذا يبدو أن النازحين السوريين الذين هم من السنّة سيتحوَّلون إلى لاجئين دائمين أينما وجدوا.

الضاحية الجنوبية في بيروت: تسعى إيران إلى إنشاء ضاحية أخرى في دمشق ليخرج منها “حزب الله” السوري.

رؤوف بَكِر*

بعد حربٍ داميةٍ شهدت مقتل مئات الآلاف من الناس وتشريد ملايين الأفراد والعائلات على مدى عقد من الزمان، تم تقسيم سوريا فعليًا إلى مناطق نفوذ ومحميات بحكم الأمر الواقع تُسيطر عليها قوى إقليمية ودولية. من بين هذه القوى كانت إيران، التي أصبحت تتمتّع بنفوذٍ هائلٍ ليس فقط على نظام بشار الأسد ولكن أيضًا داخل المجتمع السوري ككل من خلال استراتيجية تَشييعٍ منهجية غيَّرَت الطابع الاجتماعي والثقافي للبلاد — وهي لعبةٌ محفوفة بالمخاطر في منطقةٍ تُعاني منذ فترة طويلة من الصراعات الطائفية والدينية والعرقية.

إيران ونظام الأسد

هناك سببان رئيسان يكمنان وراء استراتيجية طهران للتَشييعِ. من الناحية الجيوسياسية، تُوفّرُ الحربُ الأهلية السورية فرصة فريدة للجمهورية الإسلامية لتوسيع هيمنتها عبر المنطقة من خلال ترسيخ وجودها في دولة عربية محورية لأنها تعتقد أن لها حقوقًا تاريخية في أجزاءٍ منها (على سبيل المثال، كانت حلب ذات يوم تحكمها سلالة شيعية). من الناحية الإيديولوجية، ينظر آيات الله إلى الحرب الأهلية السورية على أنها استمرارٌ لصراعِ الخلافة، بعد وفاة نبي الإسلام محمد، بين الإمام علي بن أبي طالب -ابن عم النبي محمد وصهره وآخر “الخلفاء الراشدين” الأربعة الذين خلفوا النبي، والذي يعتبره الشيعة إمامهم الأول- ومعاوية بن أبي سفيان، مؤسس الدولة الأموية في دمشق، الذي تحدّى سلطة علي. من وجهة النظر هذه، فإن الصراعَ السوري، الذي يدور بشكلٍ حقيقي في البلد الذي اندلعت فيه المعركة الحاسمة بين علي ومعاوية في العام 657، هو مُقدّمة لوصول المهدي المُنتَظَر، والإمام الثاني عشر للشيعة، الذي سينشر العدالة في جميع أنحاء العالم في نهاية الزمان.

على الرغم من العلمانية الظاهرة لنظام البعث السوري الذي يقوده العلويون، حافظت دمشق وطهران على علاقة وثيقة منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية حيث تزامنت والتقت مصالحهما على مستويات عدة. كانت الخطوة الأولى في أوائل السبعينيات الفائتة عندما أقنع حافظ الأسد، أول رئيس علوي لسوريا، رَجُلَي دين مؤثّرَين الإمام موسى الصدر، رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، وآية الله حسن الشيرازي، الذي فرَّ إلى لبنان في السبعينيات، بالاعتراف بالعلويين كجُزءٍ من الشيعة الإثني عشرية، أكبر فرع في الإسلام الشيعي. وفتح هذا الأمر الباب أمام التعاون بين آيات الله ونظام الأسد، الذي قدم الدعم المالي والعسكري لجهودهم المستمرة لإسقاط النظام الإمبراطوري الإيراني. مع تحقّق هذا الهدف في شباط (فبراير) 1979، أصبحت سوريا أقرب حليفٍ للجمهورية الإسلامية المُعلَنة حديثًا: وكانت أول دولة عربية تعترف بنظام ما بعد الشاه وألقت بثقلها خلف طهران ضد إخوانها البعثيين في بغداد في حرب الجمهورية الإسلامية ضد العراق (1980-1988). في العام 1981، أسس الأخ الأصغر للأسد جميل جمعية المُرتضى في اللاذقية، والتي سعت إلى تحويل العلويين إلى شيعة في معاقلهم الساحلية الغربية وتشييع البدو السنّة في وسط وشمال شرق سوريا. ولكن بعد عامين ألغى الجمعية بعد إنشاء جناح عسكري خاص به والذي تسبّب في استياء العلويين.

من جانبهم، كان آيات الله على استعداد لتقديم وثيقة رسمية تؤكد وضع العلويين كشيعة اثني عشرية. لقد أوضح حجة الإسلام مهدي طيب، المستشار المقرب للمرشد الأعلى علي خامنئي، التصوّر الإيراني لأهمية دمشق الاستراتيجية، ووصف سوريا بأنها المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون والتي تُعتَبر حتى أكثر أهمية من محافظة خوزستان الغنية بالنفط.

على الرُغمِ من أن رجل الدين الإيراني عبد الصاحب الموسوي، أحد سفراء  خامنئي للتَشَيُّع، قد أسس مركزًا ثقافيًا شيعيًا بالقرب من مدينة حلب في أوائل العام 2000، إلّا أن العلاقة الثنائية بدأت تميل بشكل لا رجعة فيه نحو طهران بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة بعد وفاة والده في حزيران (يونيو) 2000. وقد اكتسبت هذه العملية زخمًا كبيرًا مع اندلاع الحرب الأهلية السورية في العام 2011. واستفاد الإيرانيون من مساهمتهم الحيوية في بقاء نظام الأسد المُحاصَر، سواء بشكلٍ مباشر أو من خلال الميليشيات الشيعية بالوكالة، لا سيما “حزب الله”، ولم يسعوا فقط إلى تحويل سوريا إلى معقلٍ عسكريٍّ أمامي ضد إسرائيل ولكن أيضًا إلى تحويلها إلى محميّة فعّالة. ومع إدراك نظام الأسد بشكلٍ مؤلم لمدى استياء أهل السنّة من الهيمنة الطويلة الأمد من قبل المجتمع العلوي الصغير -أقل من خمس حجمهم- قدمت الحرب فرصة ذهبية لكلٍّ من دمشق وطهران لتنفيذ تغيير ديموغرافي عميق تحت ستار محاربة التطرف وحماية وحدة أراضي سوريا.

استراتيجية طهران للتشييع

لتحقيق أهدافهم الطموحة، تبنّى الإيرانيون استراتيجية ذات شقين: تحويل المسلمين السنّة إلى شيعة وتوطين الشيعة من البلدان المجاورة في جميع أنحاء سوريا. ركّزت الحملة على الطبقة الوسطى والفقراء السنّة في مناطق مختلفة في جميع أنحاء البلاد، لا سيما في المناطق التي تُعتَبَرُ ذات أهمية استراتيجية وديموغرافية لطهران. على عكس الاعتقاد السائد، من الأسهل تحويل السنّي إلى الشيعة الإثني عشرية أكثر من تحويل العلوي. السنّة محافظون بطبيعتهم ولكنهم يُبجّلون شيعة علي بن أبي طالب. كما أنهم يعترفون بأحداثٍ شيعية محورية ويتشاركون في العديد من المعتقدات الطائفية رُغمَ اختلافهم عن الشيعة في التفسير والتفاصيل.

من جانبه، دعم بشار الأسد اختراق طهران الديني والثقافي للمجتمع السوري من خلال سلسلة من المراسيم والقوانين. في العام 2011، على سبيل المثال، أصدر مرسومًا يُطالب وزارة التعليم العالي بالاعتراف بمجمع السيدة رقية في دمشق كمؤسسة تُدرِّسُ الشيعة الإثني عشرية تحت اسم معهد الشام العالي (الذي أصبح في ما بعد جامعة بلاد الشام للعلوم الإسلامية). بعد ثلاث سنوات، أصدر الأسد مرسومًا يقضي بتدريس المذهب الإثني عشري في المدارس السورية مع افتتاح أولى المدارس الحكومية الشيعية في العام نفسه في مدن سورية عدة. كما صدر مرسوم رئاسي آخر في 2018 بإنشاء مجلس فقهي مع حصّة فيه للشيعة، ما سمح لرجال الدين الأجانب بشغل مناصب دينية عليا بعد منحهم جنسية “استثنائية”. نتيجةً لذلك، في العام 2021، كانت ست جامعات إيرانية تعمل في سوريا، خمسٌ منها تأسست بعد اندلاع الحرب الأهلية. وتستخدم هذه الجامعات مناهج مُعتَمَدة من وزارة العلوم الإيرانية وتتطلّب إتقان اللغة الفارسية للتسجيل. وبالمثل، تم افتتاح أكثر من خمسة عشر مركزًا ثقافيًا إيرانيًا في جميع أنحاء محافظات دمشق وحلب واللاذقية ودير الزور بينما أطلقت شبكة تلفزيون العالم الإخبارية المملوكة للدولة الإيرانية قناة العالم السورية التلفزيونية في العام 2017.

ولا يقل أهمية عن ذلك أن الأسد وضع الأساس القانوني الذي سهّل التحوّل الديموغرافي المُتَصَوَّر لطهران (ولنفسه). في العام 2012، أصدر مرسومًا يأذن للدولة السورية ويسمح لها بمصادرة ممتلكات الأشخاص المُدانين بمجموعة واسعة من الجرائم، تلاه بعد خمس سنوات مرسومٌ آخر يسمح للمُدَّعين بالمطالبة بملكية أيّ ممتلكات شاغرة. ثم جاء قانون التجديد الحضري لعام 2018 (المعروف باسم المرسوم 10) الذي يُمكّن الدولة من تأميم الممتلكات غير المُطالَب بها إذا فشل الناس في تقديم دليل على الملكية خلال فترة محددة ويُسَهّل على غير السوريين (لا سيما الميليشيات العميلة لطهران) الحصول على عقارات في البلاد. ولأن الملايين من الناس الفارين تركوا ممتلكاتهم في سوريا شاغرة وتم تدمير أطنان من الوثائق خلال الحرب، فقد سمحت المراسيم للنظام بحرمان اللاجئين من ممتلكاتهم مدى الحياة وبالتالي منعهم من العودة المحتملة وتمكين إعادة توزيع ممتلكاتهم. لا عجب في أن تقارير عديدة خلال سنوات الحرب تحدثت عن وصول جحافل من الشيعة إلى المناطق السورية المهجورة واستيطانهم فيها.

إيران تستعيد محافظة حلب

ينبع الاهتمام الإيراني بمحافظة حلب ذات الغالبية السنّية لأسباب عديدة. تاريخيًا، كانت عاصمة السلالة الحمدانية الشيعية في معظم القرن العاشر. جغرافيًا، تُعتَبَرُ نقطة ربط بمدينة اللاذقية. كما تبعد حلب بضع عشرات من الكيلومترات عن الحدود التركية والمناطق التي تسيطر عليها تركيا في ريف المحافظة الشمالي. وهكذا، في العام 2014، شنت الميليشيات الشيعية من العراق وأفغانستان وباكستان، بتوجيه ودعم من الحرس الثوري الإيراني، الذي لعب دورًا رئيسًا في الحرب الأهلية السورية، هجومًا كبيرًا (أطلق عليه اسم “زحف النمل”)  حيث بلغ ذروته بعد عامين في استعادة شرق حلب من قوات المتمردين. وأدى ذلك إلى تهجير مئات الآلاف من السنّة وتحوّل العديد من الذين أرادوا البقاء إلى شيعة، واستقرار العديد من أفراد عائلات المليشيات الشيعية الأفغانية والباكستانية والعراقية في المحافظة.

وسعيًا لتوسيع نفوذهم في المنطقة، فتح الإيرانيون قنصلية في حلب وأنشَؤوا مدرسةً دينية ومركزًا تعليميًّا فارسيًّا في بلدة السفيرة، على بُعدِ حوالي 25 كيلومترًا جنوب شرق مدينة حلب، والتي أقيمت لتكون بوابتهم الرئيسة إلى المحافظة. كما استخدموا “المؤسسات الخيرية” للتسلّل إلى مجتمع المحافظة (لا سيما مؤسسة “جهاد البناء” التي تُركّز في الغالب على ترميم المدارس والمراكز الصحية)، في حين اشترى سماسرة العقارات المقرّبون من المليشيات الشيعية عقارات محلية تخضع لإعادة الإعمار بهدف توطينها بعائلات شيعية هناك. كما سعى الإيرانيون إلى جذب السياح المُتَدَيِّنين إلى مسجد النقطة في الزبدية. وبحسب المعتقد الشيعي، فإن حجرًا في المسجد مُلَطّخٌ بقطرةِ دمٍ من رأس الحسين بن علي حفيد النبي محمد، الذي يرثي الشيعة إستشهاده في معركة كربلاء (680) في اليوم العاشر من شهر محرم (عاشوراء). في كانون الثاني (يناير) 2022، أقام المسؤولون الإيرانيون احتفالًا في المسجد لإحياء الذكرى الثانية لمقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، الذي كان مقرّبًا جدًا من المرشد الأعلى خامنئي.

الكفاحُ لكَسبِ قلوبِ وعقولِ السنّة

كانت محافظات الرقة الشمالية الشرقية ذات الغالبية السنّية (حيث وقعت معركة صفين التاريخية بين علي ومعاوية) ودير الزور، التي كانت بمثابة جسرٍ بين سوريا وإيران عبر العراق، مُنخرطة بعمق في القتال بين نظام الأسد والمتمردين السوريين وتنظيم “داعش” الذي احتل مدينة الرقة ومحيطها لنحو ثلاث سنوات (2014-2017).

في أوائل الثمانينيات الفائتة، استخدمت طهران رجال القبائل المحليين لتحويل سكان قرية دير الزور إلى شيعة من خلال الحوافز المالية وإنشاء قاعات تَجَمُّعٍ للشيعة الإثني عشرية (الحسينيات) في القرى، واكتسبت هذه العملية زخمًا كبيرًا بعد استعادة قوات النظام والميليشيات الوكيلة لإيران في أواخر العام 2017 المحافظة. وتمّت مصادرة آلاف المنازل التي هجرها أصحابها الفارون خلال الحرب، وبذلَت طهران جهودًا محمومة لبناء أضرحة شيعية، لا سيما مرقد عين علي في بلدة الميادين المبني على نبع ماء يُزعم أنه انفجر تحت حوافر حصان علي بن أبي طالب.

خلال سنوات الحرب، تحالف العديد من زعماء القبائل مع الحرس الثوري الإيراني، وتمَّ تأسيس ميليشيا محلية موالية لطهران، أساسُها قبيلة “المشاهدة” التي تعود أصولها إلى مدينة مَشهَد الإيرانية. كما تم دعم إيران في المنطقة من قبل لواء الباقر، الذي سمي على اسم الإمام الخامس في الشيعة الإثني عشرية، ويضم أفرادًا من قبيلة البقارة السنّية ذات النفوذ، والتي شهدت تحوّل الآلاف من أعضائها إلى المذهب الشيعي الإثني عشري.

كما أنشأ فيلق القدس الإيراني مركزًا للتجنيد في الميادين حيث انضم إلى صفوفه مئات الشبان. وقد أقامت كشافة الإمام المهدي التابعة له سلسلة من المخيمات في أنحاء محافظة دير الزور لتدريب الأطفال على استخدام السلاح. ويُظهِرُ مقطع فيديو يعود إلى العام 2017 قاسم سليماني وسط رجال الميليشيات الشيعية في البوكمال، موطن قبيلة المشاهدة، يحتفلون باستعادة المدينة الاستراتيجية حيث تم إطلاق الأذان على النمط الشيعي. كما يُظهر مقطع فيديو لاحق المركز الثقافي الإيراني الذي تم إنشاؤه حديثًا في المدينة، والذي يقدم منحًا دراسية للشباب الراغبين في الدراسة في إيران، ويُنظّم حفلًا في بلدة صبيخان بريف دير الزور الشرقي.

اعتمدت طهران على تنظيمات عدة في تنفيذ سياسة التشييع في دير الزور. ساعدت مؤسسة “جهاد البناء”، على سبيل المثال، على ترميم عشرات المدارس وتوزيع المواد الغذائية والمساعدات المالية والإمدادات الطبية على المدنيين، إلى جانب مؤسسة الإمام كاظم. وقام معهد الضوء الساطع في الميادين، من بين مؤسسات أُخرى، بتنظيم دوراتٍ دينية بشكل دوري وتوزيع كتب شيعية لكسب قلوب وعقول السكان السنّة المحليين. كما أعاد الإيرانيون بناء العديد من المساجد التي دُمِّرت خلال الحرب ورمموا حديقة في البوكمال أطلقوا عليها اسم حديقة الأصدقاء.

ومع ذلك، كان الموقف الإيراني في محافظتي الرقة والحسكة غير آمن كما في المحافظات الأخرى. لا يقتصر الأمر على سيطرة الأكراد، الذين طردوا “داعش” من المنطقة، على معظم هذه الأراضي فحسب، بل إن موقعهما الاستراتيجي على المثلث الحدودي السوري – العراقي – التركي، وخصوصًا في منطقة الحسكة الغنية بالنفط والمياه، جعلهما موطنًا للولايات المتحدة والقوات العسكرية الروسية والتركية. نتيجة لذلك، وجدت طهران صعوبة في نشر رسالتها الشيعية عبر المحافظة على الرغم من تشكيل ميليشيا محلية في الرقة تضم مئات عدة من المقاتلين من قبيلة أبو حمد المحلية التي اعتنقت المذهب الشيعي قبل الحرب. وهكذا، على سبيل المثال، رفض الأكراد الطلب الإيراني بإعادة بناء مسجد شيعي كبير بُني في أواخر الثمانينيات الفائتة على أطراف مدينة الرقة، وكان تنظيم “داعش” هدمه في العام 2014، خوفًا من إثارة فتنة طائفية في المحافظة.

نظرًا إلى موقفها غير المستقر في المحافظتين، لا سيما في الحسكة حيث كان وجودها مُتَقَطِّعًا ومُقتَصِرًا على مواقع قليلة في الجُزء الجنوبي الشرقي من المحافظة، اضطرت طهران إلى الاكتفاء بمحاولات زرع الانقسامات بين العرب والأكراد من طريق فتح مراكز تجنيد ثقافي وعسكري جديدة.

النزوح والتحويل

ويجري التشييع أيضًا في وسط وغرب سوريا، لا سيما ريف حماة وحمص. يُنظَرُ إلى المنطقة على أنها “خطُّ صدعٍ طائفي” بين المناطق السنّية في الوسط والمناطق العلوية في أقصى الغرب، وتُشكّل مُكوِّنًا حيويًا للممر البري الإيراني المزعوم بين دمشق وساحل البحر الأبيض المتوسط (في الطريق إلى الحدود الإيرانية عبر العراق).

وشهدت حمص، أكبر محافظات سوريا، واحدة من أشرس المعارك والحصار الوحشي، وتعرّضت لحملةِ تهجيرٍ واسعة. في أوائل العام 2009، أعلن النظام السوري عن مشروعٍ استثماري ضخم أطلق عليه اسم “حلم حمص” والذي تم تصميمه رسميًا لتحديث المدينة ولكنه في الواقع سعى إلى إفراغ البلدة القديمة من سكانها السنّة. وقد توقف المشروع بعد اندلاع الأعمال الحربية، ليتحقّق بشكل تدريجي خلال سنوات الحرب، وبلغت ذروته في بيان رسمي حول استئنافه وفقًا لقانون التجديد الحضري لعام 2018. ضمن هذا الإطار، تم تحويل العديد من المساجد في المدينة إلى مراكز لنشر المذهب الشيعي، وأصبحت مصادرة الممتلكات مشهدًا مألوفًا في جميع أنحاء المحافظة.

في الأجزاء الشرقية من محافظة حماه، كانت هناك محاولات من قبل طهران لتحويل الإسماعيليين، أعضاء طائفة متفرّعة عن الشيعة، في مدينة السلمية وضواحيها –معقل الإسماعيلية الأول– وكذلك في القرى الفقيرة التي يسكنها أعضاء طائفة المرشدية التي انشقّت عن الطائفة العلوية في أوائل القرن العشرين. مثل العلويين، كان الإسماعيليون غير المُتَدَيِّنين تقليديًا يكرهون هذه الجهود بسبب الاختلافات الثقافية والعداوة العميقة الجذور بين الشيعة الإثني عشرية والإسماعيلية. ومع ذلك، نجحت طهران في تشييع أعضاء من الطائفة الإسماعيلية، وتحديدًا من مدينة مصياف، وتجنيدهم للقتال إلى جانب قوات النظام والمليشيات الشيعية.

كما لم يتوانَ الإيرانيون عن جهودهم في تشييع العلويين. بصرف النظر عن إحكام سيطرتهم على المؤسسات الدينية وإنشاء سلسلة من قاعات التجمعات الشيعية (الحسينيات) الإثني عشرية، قام العشرات من رجال الدين والسياسيين الإيرانيين بجولة في البلدات والقرى العلوية السورية في السنوات الأخيرة، وخصوصًا المناطق التي تستضيف الأضرحة الدينية، وقدموا عروضًا مُغرية لترميم هذه الأضرحة وتوسيع المساعدات المالية والإنسانية للسكان المحليين. لم تكن هذه الجهود أكثر نجاحًا من جهود السنوات السابقة، ومع ذلك، فقد رفع وجهاء ورجال دين علويون مظالمهم ضد إيران إلى ضباط الجيش الروسي المتمركزين في قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية.

المزارات والصَدَقات والميليشيات في الجنوب

لا يختلف الوضع في جنوب سوريا كثيرًا مع مشاهد مواكب عاشوراء الشيعية لإحياء ذكرى مقتل الحسين بن علي، وهي رؤية مشتركة في معاقل سنّية بورجوازية رئيسة مثل سوق الحميدية في دمشق. لكن القصة لا تنتهي هنا. لترسيخ أنفسهم في دمشق ومحيطها، سعى الإيرانيون إلى إنشاء “ضاحية جنوبية” سورية كما في ضاحية بيروت التي يسيطر عليها “حزب الله”، وفي النهاية، لإنشاء نسخة سورية من “حزب الله”.

كانت محافظة ريف دمشق، التي يُنظَرُ إليها على أنها “حزامٌ سنّي” يحيط بالعاصمة السورية، بؤرة قتال مستمر انتهى بهزيمة ساحقة لقوات المتمردين. وقد تم على أثر ذلك تهجير مئات الآلاف من مدنها، وتم الاستيلاء على الممتلكات بالقوة أو بمبالغ مالية كبيرة للسماح للشيعة باستبدال السكان السنّة الأصليين.

كما هو الحال في مناطق أخرى، حصل الإيرانيون على ذهبية “لعبة الأضرحة”. وهناك ثلاثة أضرحة شيعية في دمشق وضواحيها يُزعَمُ أنها تحتوي على قبورٍ لشخصيات مقدّسة: مقام السيدة زينب، المُسَمَّى على اسم إبنة علي بن أبي طالب الكبرى؛ مقام السيدة سكينة نسبة لحفيدته؛ وضريح السيدة رقية، الذي سُمِّيَ على اسم المرأة التي يعتقد الشيعة أنها حفيدة علي ويعتبرها السنّة شخصية وهمية. يقع مقام السيدة زينب في حيٍّ يحمل الاسم نفسه على بُعدِ حوالي 10 كيلومترات من وسط دمشق، ويسكنه بشكل أساسي الشيعة العراقيون الذين فروا من نظام صدام حسين أو غادروا بلادهم بعد غزو العراق في العام 2003 بالإضافة إلى الشيعة اللبنانيين الذين وصلوا بعد حرب “حزب الله” وإسرائيل في العام 2006. في العام 2020، تم تغيير اسم المنطقة إلى “بلدة السيدة زينب” بالتوازي مع مشروع سكني باسم “ضاحية زينب”.

في كانون الثاني (يناير) 2006، قام الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي كان يدّعي أنه على اتصالٍ بالمهدي المُنتَظَر، بزيارة مقام السيدة سكينة، الذي بناه إيرانيون في ضاحية داريا بدمشق في العام 1999، مع الإعلان عن مشاريع بناء مختلفة مرتبطة بالمقام بعد ذلك. وبالمثل، شهد مقام السيدة رقية، في دمشق القديمة بالقرب من الجامع الأموي والأسواق التقليدية، توسّعًا هائلًا حيث صارت مساحته الآن حوالي أربعة آلاف متر مربع.

وفي أقصى الجنوب، سقطت البلدات السنّية: بلودان، ويبرود، مضايا، سرغايا، الكسوة، والزبداني بالقرب من الحدود اللبنانية في أيدي “حزب الله” مع استبدال سكانها السنّة إلى حد كبير بعائلات شيعية سكنت في عقارات تمت مصادرتها أو شراؤها. وتجلّى هذا الاتجاه بوضوح من خلال “اتفاق المدن الأربع” في ربيع العام 2017، والذي شمل مضايا والزبداني من جهة وبلدات الفوعة والكفرية ذات الغالبية الشيعية في محافظة إدلب من جهة أخرى. يُنظر إلى الاتفاقية على نطاق واسع على أنها إعادة التأكيد على التغيير الطائفي الجديد في سوريا من خلال اشتراط إخلاء متزامن للبلدات الأربع، مع نقل السنّة إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار في الشمال، لا سيما حول إدلب، وانتقال الشيعة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام في الجنوب الغربي، لا سيما حول دمشق.

في محافظة درعا، حيث اندلعت الحرب الأهلية، تكثّفت جهود التشييع بعد استعادة النظام لكثيرٍ من الأراضي في صيف العام 2018. وفي مدينة درعا نفسها، تم تنفيذ جهود التشييع إلى حد كبير من قبل شيعةٍ عراقيين من غير المواطنين من حي المطر الذي يضم قاعة تجمّع شيعية (حسينية) اثني عشرية بارزة. وقاتل فصيلٌ مؤلف من شيعةٍ من بصرى الشام في ريف المحافظة إلى جانب “حزب الله”. وشكلت بلدة القرفا مركزًا مركزيًا لمعظم أنشطة “حزب الله” وقلب حملات طهران العسكرية والتشيعية في الجنوب، حيث تقام الشعائر الشيعية بانتظام في مساجدها الثلاثة. القرفا هي أيضًا مسقط رأس رستم غزالة، ضابط مخابرات كبير وقائد سابق للقوات السورية في لبنان. ومن المفارقات أن عائلة غزالة السنّية هي التي لعبت دورًا رئيسًا في تعزيز أجندة التشييع المحلية لطهران من خلال تقديم المساعدة المالية، وشراء قطع كبيرة من الأراضي، وتسهيل توطين الشيعة غير السوريين في المنطقة.

كما أنشأ الحرس الثوري الإيراني ميليشيا محلية في المحافظة أطلق عليها اسم “لواء العرين، اللواء 313″، وهو الاسم الذي يشير إلى “313 من رفقاء” المهدي المنتظر، الذين سيساعدونه بحسب المذهب الشيعي على نشر العدل على الأرض. في أيلول (سبتمبر) 2018، قام أبو الفضل الطبطبائي، الممثل الخاص لخامنئي في سوريا، بزيارة درعا وصرف مبالغ كبيرة للميليشيا المُشَكَّلة حديثًا وكذلك لجمعية الزهراء –وهي “جمعية خيرية” إيرانية تعمل في أجزاء مختلفة من سوريا مع جناحٍ عسكري خاص بها يدعى “جمعية أسود الزهراء”.

باعتبارها المحافظة السورية الوحيدة ذات الغالبية الدرزية، حافظت السويداء الواقعة في أقصى الجنوب على خصوصية طائفية. بينما لم يَنحَز الدروز إلى المتمرّدين المُناهضين للنظام، فإن علاقاتهم مع العلويين والشيعة كانت فاترة تاريخيًا. لجذب السكان المحليين، تمت دعوة رجالِ دين دروز بارزين إلى طهران بينما قام ديبلوماسيون إيرانيون من سفارة دمشق وقادة الميليشيات الشيعية بزيارات متكررة إلى المحافظة. كما أطلقت طهران سلسلة من المشاريع الإنسانية في المحافظة، من بينها مستشفى في مدينة السويداء ومصنع للأدوية في ريف المحافظة.

كانت هذه الجهود غير مجدية إلى حد كبير. مع عدم وجود علاقات بين الديانة الدرزية والإسلام الشيعي ومنع أتباعها من التحوّل، ظلت معدلات التحوّل إلى الشيعة منخفضة للغاية مع سعي الدروز إلى موازنة نفوذ طهران من خلال مطالبة موسكو بدور الحامي لهم (أشار العديد من الدروز بأصابع الاتهام إلى طهران بسبب اغتيال وحيد بلعوس، مؤسس حركة “رجال الكرامة” المناهضة لإيران). ومع ذلك، يبدو أن طهران تنظر إلى انخراط العديد من الدروز في عملياتها المحلية، وخصوصًا شبكات تهريب المخدرات، على أنه يفضي إلى استراتيجيتها الأوسع التي تهدف إلى كبح المشاعر المحلية المُعادية لإيران وكسب الناس في صفوف ميليشياتها كخطوة أولى للتحوّل النهائي.

إستنتاج

كان ترسيخ طهران العسكري في سوريا خلال سنوات الحرب الأهلية مفيدًا للغاية في سعيها الدؤوب إلى الهيمنة والانتقام الذي تسعى إليه ضد أهل السنّة على أسس تاريخية. ومكّن الجمهورية الإسلامية من إحكام قبضتها على العراق، وتحويل “حزب الله” إلى حاكم لبنان الفعلي، وإنشاء ممرّ بري بين الحدود الإيرانية والبحر الأبيض المتوسط، وتكثيف التهديد العسكري لإسرائيل والأردن من خلال نشر قوات الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية المرتبطة به في جنوب سوريا ومن خلال منح “حزب الله” القدرة على إحداث فوضى في المراكز السكانية والبنية التحتية الوطنية في إسرائيل.

ما يجعل هذه الإنجازات أكثر أهمية، وربما أكثر ديمومة بكثير، هو التحوّل المُصاحِب للطابع الاجتماعي والثقافي لسوريا من خلال مزيج من أنشطة التشييع (على سبيل المثال، إنشاء الأضرحة والمؤسسات، وبدء الممارسات الشيعية، والتحوّل إلى المذهب الشيعي)، والمساعدات الإنسانية، وتوطين الشيعة الأجانب في مناطق مهجورة في جميع أنحاء سوريا. وبينما تتزامن هذه الاستراتيجية مع رغبة نظام الأسد في ضمان بقائه (ومن هنا جاءت سلسلة القوانين والمراسيم التي تهدف إلى منع عودة اللاجئين السوريين)، فإنها تمنح طهران دعمًا شعبيًا متزايدًا قد يمكّنها من الحفاظ على النظام خاضعًا لرغباتها. تكهنٌ كئيب حقًا، لأن الفوضى والدمار اللذين سببتهما الحرب قد مكّنا من ترسيخ الخنادق الإيرانية في سوريا، لذلك قد تعتبر طهران بسخرية أن استمرار الصراع هو السيناريو الأكثر استحسانًا في المستقبل المنظور، وربما للعديد من الشيعة، حتى يوم القيامة.

  • رؤوف بَكِر هو صحافي وباحث ذو خبرة طويلة في الشؤون الأوروبية وقضايا الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى