ماريَّا ميريان: امرأَة غيَّرَت في تاريخ العلْم (2 من 2)

رسوم بريشة دوروثيا ابنة ماريَّا نقلًا عن والدتها

هنري زغيب*

في الجُزءِ الأَول من هذا المقال، ذكرْتُ كيف أَنَّ تاريخ العلُوم أَعلامًا أَوجدَت اكتشافاتُهم العلمية جديدًا طوَّر العلْم نحو هناءَة أَكثر للإِنسان وطريقة تعاطيه مع سائر الكائنات حوله في الحياة المدينية أَو الريفية أَو البرية.

بين أَعلام العُلُوم سيِّدة من القرن السابع عشر، كان لها الفضل في تطوير علْم الحشرات الأَليفة والنباتات.

إِنها ماريَّا  ميريان (Merian)، أُفَصِّل عن حياتها الشخصية والمهنية في هذا الجزء الثاني الأَخير.

ماريَّا محاطة بكتُبِ ورسوم من اختصاصها

انكسار الزواج

… زَوَاجُها من غْرَافّ لم يكن هانئًا. لذا، حين تأَزَّم الوضْع معه إِلى نقطة اللارجوع، أَخذَت ابنتَيْها وغادرت إِلى أَمستردام سنة 1691. وبعد سنةٍ أَنجَزَتْ طلاقها من غْرَافّ، ففتح لها ذاك الطلاق متَّسعًا أَرحبَ في حياتها الشخصية وحياتها المهنية معًا.

لِماذا أَمستردام؟ لأَنها في ذاك القرن السابع عشر كانت عاصمةَ الثقافة والعلوم والتجارة في أُوروبا. لذا كان سهلًا لِماريا أَن تَعقد علاقاتٍ مهنيةً مع رجال العلْم هناك وجامعي الحشرات الأَليفة والفراشات والنباتات. وتوسَّعَت أَكثر، فأَخذَت تعطي دروسًا خاصة لصبايا كانت بينهم راشيل رُوِيْش، إِحدى أَبرز الرسامات الهولنديات عصرئذٍ في رسْم مناظر الطبيعة.

وكانت أَمستردام إِحدى أَهمّ المدُن الأُوروبية في التجارة، لذا شهدَت فترتئذٍ إِقبالًا كثيفًا عليها من مختلف أَنحاء العالم، فكانت تعجُّ بأَغنياء التجار جامعي التُحف والأَزهار. وأَكثر: كانت السُفُن التجارية تحمل إِلى أَمستردام الأَصداف والأُحفوريات والريش والحيوانات المحنَّطة والنباتات الاستوائية التي يجمعها خبراء بها ويصدِّرونها للتجارة. وحين كانت ماريا تلتقيهم لم يكن همُّها أَن تقتنيها في صيغتها المحنَّطة بل أن تدرسها في حياتها الطبيعية الأُولى قبل تحنيطها. من هنا ذِكْرها في مقدمة كتابها “تحوُّل الحشرات في السورينام”: “في تلك المجموعات المحنَّطة اكتشفتُ عددًا كبيرًا من الحشرات التي لم يكن معروفًا مصدرُها، فرُحت أَستقصيه في أَبحاثي، كي أَكتشف كيف يتمُّ التَحوُّل لدى اليَرَقات والشرانق… وقادتْني أَبحاثي إِلى أَن أَقصدَ منطقةً تكثُر فيها تلك الكائنات، فإذا وُجهتي: السورينام”.

طابعٌ تذكاريٌّ باسمِها

إِلى السورينام

لم يكن سهلًا، في القرن السابع عشر، التخطيط لرحلة تعبر المحيط الأَطلسي الهائل، وخصوصًا لامرأَة تسافر وحدها. لكنَّ ماريَّا حصَّنَت الموضوع مسْبَقًا قبل إِبحارها، فأَمَّنَت اتصالات مع شركات تجارية هولندية، وأَصحابها أَو مديريها، بينهم نيكولاس ويتْسِن رئيس شركة “هولندا-شرقيّ الهند”، ومع صهْرها جاكوب هندريك هيرُوْلْتْ (زوج ابنتها البكر جوهانَّا) وهو تاجر غنيٌّ معروفٌ بنجاحه في السورينام. ولتأْمين التمويل الكافي قبل القيام برحلتها، قررت ماريَّا بيع جميع رسومها عن الأَزهار، فاشتراها بعض تجار المجموعات، وفي طليعتهم أَغنِس بْلُوكْ. وسنة 1699 نالت من السلطة المحلية في أَمستردام إِذْن السفر إِلى السورينام لها ولابنتها الصغرى دوروثي ماريَّا، فأَبحرت في العاشر من تموز/يوليو 1699 مدركةً تمامًا طول الرحلة وما قد تواجهه خلالها من مخاطر. سوى أَنها وصلت سالمةً في الثامن عشر من أَيلول/سبتمبر. وبذلك كانت أَول امرأة تسافر لهدف علْميّ. ومن المصادفات أَيضًا أَن يكون هولنديًّا أَيضًا أَولُ رسام مناظر طبيعية أَميركية أُوروبيٌّ سافر إِلى إِحدى الأَميركتين.

في السورينام

حين سافرَت ماريا وابنتُها، كانت هي في الثانية والخمسين وابنتُها في الحادية والعشرين. وكان الهدف الرئيس من رحلتهما تمضيةَ خمس سنوات في السورينام لاكتشاف النباتات فيها والحشرات اللطيفة وتوثيقها. وكما جميع الأُوروبيين الواصلين إِلى هناك، لم تكُن ماريَّا وابنتُها معتادَتَين على ذاك المناخ الاستوائي فعانتَا منه كثيرًا منذ بدأَتا البحث في تلك الغابات الاستوائية. لكنَّ معاناتهما لم تكن مجَّانية، بل نتج عن تلك الأَبحاث كتابُ ماريَّا “تحوُّل الحشرات في السورينام” سنة 1705 موثِّقَةً فيه مراحل التطور والتحوُّل لدى تلك الحشرات اللطيفة واليَرَقات والفراشات. َوَوَرَدَت في الكتاب كذلك أَوصاف وشروح وتحليلات وتفاصيل في رسومٍ عن كل ما صادفتْه غير ذلك في السورينام. ولاحقًا ساهمَت ابنتاها جوهانا ودوروثيا في الحفاظ على تلك الرسوم لأَنهما تدرَّبتا معها عليها، فكان لهما أَن تنسخا تلك الرسوم.

غلاف كتابها عن اكتشافاتها في السورينام

جديدُ أَبحاثها

الجديد في نصوص ماريا ورسومها هو الدليل على العلاقة المباشرة بين تلك الأَنواع في ما بينها، وتطوُّرها والتحوُّلات التي تصير إِليها في نظامها البيئي. فهي لاحظَت أَن التحوُّل من يرَقة إِلى فراشة يتوقف على بعض النباتات في محيطها. وعدا موقع الحشرات الأَليفة في محيطه، تنبَّهت إِلى “تصرُّف” تلك الحشرات وكيف يستعملُها السكان المحليون. ولم يكن جديدها فقط في ذلك المضمون وحده، بل في الإِشارة إِلى سوء تعاطي الأَهالي المحليين والأَفارقة مع تلك الحشرات اللطيفة. انتقَدَتْه بعُنف، كما انتقَدَت نظامَ المستعمرات. وهي استعانت بأُولئك المستعمَرين لالتقاط تلك الحشرات وتجميعها، وتدريبهم في الحفاظ عليها، وتوعيتهم على أَهميتها، وبلغَت من اهتمامها أَنها، حين عادت إِلى أَمستردام، اصطحبَت معها امرأَةً منهم لمساعدتها في تجميع مواضيع كتابها ورسومه. سوى أَنها لم تذكُر في كتابها اسم تلك المرأَة. وكانت ماريا مقرّرة أَن تبقى مدة أَطول في السورينام، لكن إِصابتها القوية بالملاريا أَرغمَتْها على العودة سنة 1701 إِلى أَمستردام، فعادت من هناك محمَّلة بأَكداس من الكتب والرسوم.

الرائدة ماريَّا

هكذا قادت ماريا حياة مستقلة حرة كامرأَة وفنانة وباحثة علْمية طبعَت عصرها في القرن السابع عشر. فهي بعد سنواتها في المناطق الاستوائية عادت إِلى أَمستردام وأَسست مع ابنتَيها محترَفًا قادت فيه ورشة عمل في موضوع اختصاصها، فكان ذلك مورد رزق مهمًّا للثلاث معًا. وسنة 1715 عانت ماريَّا من أَزمة قلبية، وتوفِّيَت بعد سنتين وهي في التاسعة والستين. وكانت في آخر سنتين من حياتها شبه مشلولة ومع ذلك لم تتوقف عن العمل اليومي الدؤُوب. وبعد وفاتها جمعَت ابنتاها نصوصها ورسومها وأَصدرتاها في كتابٍ كان، مع ما سبقه من كتابات مطبوعة ورسوم، مرجعًا لِمن جاء بعدها، فكانت أَبحاثها واكتشافاتها سابقةً بل ممهدةً لِما وضعَه داروين في ما بعد.

هكذا تكون ماريَّا ميريان رائدةً في هذا الحقل العلمي المحدَّد، كشَفَت ما كان قبلها سائدًا مغلوطًا (بأَنَّ الحشرات تولد من الوحل أَو الغبار أَو من اللحم المتعفِّن)، فغيَّرت عمقيًّا تاريخ هذا العلْم. ولا عجَب أَن تحمل اسمَها اليوم نباتاتٌ وحشراتٌ لطيفة، هي التي تركت إِرثًا بيئيًّا فريدًا، خُصُوصًا ما اكتشفَتْهُ – ونشَرَتْهُ – من معاينات في السورينام، حول ما يعتري بعض الأَنواع النباتية والحيوانية من تَحَوُّلات وتقلُّبات وتأَقْلُمات مناخية في مراحل حياتها القصيرة.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى