أشفِق على هذه الأُمّة المُدَمّرة: تَقييمُ نصف قرنٍ من الحُكم الأسَدي

قبل أكثر من خمسين عاماً، في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، استولى حافظ الأسد على السلطة من الفصائل المنافسة لحزب البعث الحاكم. اليوم، في عهد نجله بشار، تُعاني سوريا من انهيارٍ إقتصادي، ومجتمع مُمزّق، وتنشئة إجتماعية جماعية قائمة على قواعد العنف، والتعصب الطائفي، والتطرف.

لولا فلاديمير بوتين لسقط النظام الأسدي

بقلم ستيفن هايدمان*

قبل خمسين عاماً، في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، إستولى حافظ الأسد على السلطة من الفصائل المنافسة له في حزب البعث الحاكم. مثّل انقلاب الأسد، الذي أطلق عليه نظامه الجديد “الثورة التصحيحية”، هزيمةَ فصيل يساري وصعود مُعتدِلي الحزب. ومع ذلك، فإن قلّة تخيّلت في ذلك الوقت أن الاستيلاء على السلطة من قبل ضابط ساخط – إنقلابٌ من سلسلة طويلة من الانقلابات المُماثلة في بلد سيّئ السمعة لعدم استقراره – سيكون بمثابة بداية لأطول فترة حُكمٍ عائلي مُستمر في تاريخ سوريا الحديث.

عندما خَلَفَ بشار الأسد والده بعد وفاته في حزيران (يونيو) 2000، دخلت سوريا إلى نادٍ خاص. هناك أقل من ست جمهوريات إنتقلت فيها رئاسة البلاد مباشرة من الأب إلى الإبن. من بين هذه، لا يوجد سوى ثلاث دول في العالم يتولّى فيها الأب والإبن الرئاسة من دون انقطاع على مدى نصف قرن أو أكثر: توغو، والغابون، وسوريا. في جميع الحالات الثلاث، ساد الأبناء الذين ورثوا رئاساتهم وفازوا في انتخابات مُتعَدِّدة كانت مُزَوَّرة ومشبوهة للغاية، وحتى كتابة هذه السطور، ظلّوا في السلطة.

إن الاستمرارية الإستثنائية لنظام آل الأسد جديرة بالملاحظة. كما أنها تُثير سؤالاً أصبح أكثر أهمية بسبب اضطرابات العقد الفائت: ما الذي حقّقته سوريا خلال خمسين عاماً من الحكم الأسدي بالتحديد؟ عندما وصل بشار الأسد إلى السلطة في سن الرابعة والثلاثين – مهّد طريقه برلمانٌ مُطيع قام بتعديل الدستور على عجل لخفض الحد الأدنى لسن الرئاسة – ورث بلداً راكداً. على الرغم من أن والده كان كثيراً ما يُثنى عليه لحنكته الاستراتيجية والديبلوماسية، بحلول الوقت الذي توفي فيه حافظ الأسد في حزيران (يونيو) 2000، لم يكن حقق أكثر من مجرد الإشراف على انجراف بلاده إلى مكان غير ذي صلة.

فشل في تحقيق طموحه الدائم لتأكيد مركزية سوريا في الشؤون الإقليمية. لقد ثبت خطأ القول المأثور لهنري كيسنجر المعروف، “لا يمكنك شنّ حرب في الشرق الأوسط بدون مصر ولا يمكنك صنع السلام بدون سوريا”، مع التوقيع على اتفاقات كامب ديفيد في العام 1979. في السنة عينها، أُضيفَت سوريا إلى القائمة الأميركية التي تم إنشاؤها حديثاً للدول الراعية للإرهاب (إنها الدولة الوحيدة من بين المُضافين الأصليين التي ظلّت على القائمة حتى يومنا هذا). بعدما شعر أنه لم يعد قادراً على لعب دورٍ حاسمٍ كمُفسد، ومع ضعف ​​القضية الفلسطينية، لم تُحرز غزوات حافظ الأسد الدورية الديبلوماسية العربية -الإسرائيلية أي تقدّم ملحوظ.

بعد عقد من الضياع، إنهار الإتحاد السوفياتي وبدأ مركز الثقل الديبلوماسي في المنطقة بالتحوّل شرقاً إلى الخليج العربي، ما أدّى إلى وضع سوريا بشكل متزايد على الهوامش السياسية الإقليمية. في نهاية ولايته الثانية وقبل أشهر فقط من وفاة حافظ، كان بيل كلينتون آخر رئيس أميركي يستثمر رأسَ مال ديبلوماسياً في محاولةٍ للتوسّط في سلام سوري-إسرائيلي. وهو أيضاً فشل. لقد استنفدَ “الصبر الاستراتيجي” الذي يتبجح به حافظ الأسد خصومه، لكنه لم يفعل شيئاً لتعزيز مصالح سوريا أو تأمين عودة مرتفعات الجولان. ومنذ ذلك الحين، صار هذا الطموح الوطني بعيد المنال.

كان إرث بشار المحلي على أرضية أكثر هشاشة. بينما نجت البلاد من أزمة اقتصادية خانقة في منتصف الثمانينات الفائتة، دخلت القرن الحادي والعشرين باقتصاد مُحتَضِر، وبيروقراطية غير فعّالة، وقطاعٍ عامٍ ضعيف ومُكتَظٍّ بالموظفين بشكل كبير، وقطاعات تعليمية ورعاية صحية متدهورة، ومعدلات بطالة من بين الأعلى في العالم. ومع ذلك، فقد ازدهر قطاع الأمن في ظل حكم حافظ، وازدهر مع الإحتلال السوري للبنان، فيما ضمن بقاء النظام من خلال قمعه الوحشي لتمرّد جماعة ا”لإخوان المسلمين” 1979-1982، وبلغ ذروته في مذبحة حماه الشائنة في شباط (فبراير) 1982.

بكل المقاييس، كان حافظ الأسد غير مُكترث إلى حدٍّ كبير بالمسائل الإقتصادية، وزُعِمَ أنه وصف الإقتصاد ذات مرة بأنه موضوعٌ للحمير. لم يكن بشار قادراً على محاكاة عدم اهتمام والده. مثل العديد من الديكتاتوريين، إعتبر حافظ الموازنة العامة السورية أداةً لبقاء النظام. لقد خصّص الموارد والفرص – بما فيها فرصة الإستفادة من الفساد المستشري – لتنميةِ شبكاتٍ مُوالية تُفضّل المقرّبين من النظام ومؤيديه، لكنها امتدت أيضاً إلى ما هو أبعد من هؤلاء لتشمل قطاعات مُهمّة من النخبة التجارية السنّية الدمشقية.

كانت “الثورة التصحيحية” التي أطلقها حافظ قائمة على التفكيك الجزئي للسياسات الإقتصادية الراديكالية التي فضّلها سلفه صلاح جديد. ومع ذلك، حافظ الأسد الأب إلى حد كبير على “الصفقة الإستبدادية” في سوريا، حيث قدّم للسوريين أمناً اقتصادياً ضعيفاً مُقابل هدوء سياسي – وهو شكلٌ من أشكال التبعية القسرية التي حافظت على سلام اجتماعي هشّ. أثبتت الإصلاحات الإقتصادية المتواضعة التي بدأت خلال العقد الأخير من حكمه أنها غير كافية لإخراج سوريا من سباتها الإقتصادي. وبدلاً من ذلك، فتحت الإصلاحات آفاقاً جديدة للإثراء الفاسد وغير المشروع لأهل النظام ورجال الأعمال المُرتبطين به.

عندما تولى بشار الرئاسة في تموز (يوليو) 2000، تعافى الناتج المحلي الإجمالي السوري أخيراً وبلغ المستويات التي حققها في أوائل الثمانينات الفائتة. في العقد التالي، بدا أن الاقتصاد يزدهر. تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بين العامين 2000 و2010، حيث انتقلت البلاد إلى ما وصفه المسؤولون ب”اقتصاد السوق الإجتماعي”. لكن تحت السطح، كان النظام يقود سوريا نحو نقطة الإنهيار. بينما ركّز العالم على الساحة السياسية – “ربيع دمشق” قصير الأجل لبشار (الإنفتاح السياسي القصير 2000-2001)، القضاء على خصومه الداخليين، سياسة الباب المفتوح للجهاديين الذين ينتقلون إلى العراق، دوره في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، تلاه انسحاب سوريا المُهين من لبنان – كانت التكاليف الإجتماعية والإقتصادية للخلل الوظيفي العميق والمنهجي تتزايد.

على الرغم من جهود بشار لترقية وتحديث وتطوير السلطوية في سوريا، إلّا أن النمو اإاقتصادي رفيع المستوى ترك الغالبية العظمى من السوريين وراءه. خلال العقد الأول من حكمه، تعمّق الفقر وزادت البطالة، خصوصاً بين الشباب. في العام 2006، إجتاح الجفاف الشديد المناطق الزراعية في سوريا، وتضخّمت آثاره بسبب سوء الإدارة والفساد. على مدى السنوات القليلة التالية، أُجبِرَ مئات الآلاف من صغار المزارعين على ترك أراضيهم وأصبحوا لاجئين بيئيين استقروا في ضواحي دمشق وعواصم المحافظات، مثل درعا في جنوب سوريا. أصبح المُقرّبون من النظام، بقيادة أفرادٍ من عائلة الأسد، مثل رامي مخلوف، أكثر جشعاً، فاستغلّوا الوضع ونفّروا مجتمع الأعمال الذي كان يدعم النظام في السابق. وبحسب ما ورد في تقارير عدة، إنتهى الأمر بمخلوف إلى السيطرة على حوالي 65 في المئة من الإقتصاد السوري.

من جانبه، إعتقد بشار بأن ولاءه العلني لمؤيدي العروبة و”المقاومة”، على الرغم من كونه خطابياً أكثر منه حقيقياً، كان كافياً لعزل نظامه عن موجة الإحتجاجات التي اجتاحت المنطقة في أواخر العام 2010. لكنه كان على خطأ. بحلول آذار (مارس) 2011، مع تأجيج شعلة تطلعات مصر وتونس وليبيا، تغلّب السوريون أيضاً على “جدار الخوف”، ووجدوا صوتهم الجماعي، وانضموا إلى الإحتجاجات الجماهيرية المُطالبة بالعدالة الإقتصادية والإجتماعية وإنهاء نظام الأسد. في مواجهة تحدٍّ غير مسبوق – حيث سُحِبَت الموافقة والشرعية من قبل ملايين السوريين العاديين – ردّ النظام بالقوة والقمع، ووضع البلاد على طريق الحرب الأهلية.

اليوم، بعد عقدٍ من الصراع، يجلس بشار على حطامِ بلدٍ، حيث تم إنقاذ نظامه، ولكن لم يتم تأمينه بالكامل بعد، من خلال تدخل روسيا وإيران. لقد تركت مقتضيات البقاء تأثيرها الكئيب في البلد: إقتصادٌ مُنهار، ومجتمعٌ مُمزَّق، وتنشئة اجتماعية جماعية قائمة على قواعد العنف، والتعصب الطائفي، والتطرّف. أطلقت الحرب العنان لأكثر شهوات النظام شراسة، ما زاد من ترسيخِ وحشيته وفساده. المُستفيدون من زمن الحرب وأمرائه يؤكدون الآن بجرأة امتيازاتهم كنخبة سياسية جديدة في سوريا، ويحصدون ثمار دعمهم لآل الأسد على مدى العقد الفائت.

بينما يفكر السوريون في انتقال محفوف بالمخاطر إلى مرحلة ما بعد الصراع والفرض المُحتَمَل لسلامٍ استبدادي، فإن أفضل تعبيرٍ عن الإرث الدائم للحكم الأسدي هو ما أصبح واقعاً مُزدوجاً ومُنفصلاً تماماً. إن صُوَرَ بشار المُنتصر، وأبناء مخلوف بسياراتهم الفاخرة وطائرتهم الخاصة، وأسماء الأسد وهي تُريح الأرامل في بنطالها الجينز المُصَمَّم من أرقى دور الأزياء، تظهر إلى جانب صورٍ مُختلفة تماماً لصفوفٍ طويلة ومتوازية من الأكفان البيضاء، وأخرى للحصول على الخبز، وأطفال ينقبون في مقالب القمامة، والقوارب المكتظة التي تنقل السوريين إلى مستقبل غامض كلاجئين.

إن الإنتفاضة السورية هي استفتاءٌ أكثر إدانة لإرث عائلة الأسد من أي حُكمٍ قد يصدر عن غرباء. لقد أتت هزيمتها بثمنٍ رهيب. تنتظر البلاد مشاريع أجيال لإعادة الإعمار والإصلاح الاجتماعي، والتحديات التي يواجهها النظام ليس مُهيأً لمواجهتها منفرداً، وقد تهزّ قبضته على السلطة. ومع ذلك، فإن أفراد عائلة الأسد وأنصارهم المُخلصين لا يعترفون بمثل هذه الإحتمالات. في العام 2028، سيصطدم بشار، إذا كان لا يزال في السلطة، بحدود فترة الرئاسة التي تم تحديدها في العام 2012. وربما، تحسّباً لتلك اللحظة، تقوم الأسرة بتهيئة ابنه الأكبر، حافظ بشار الأسد، للصعود إلى عرش الرئاسة. لم ينتهِ الأسد من سوريا بعد. أشفق على هذه الأمة المُدَمَّرة.

  • ستيفن هايدمان هو زميل كبير غير مقيم في مركز سياسات الشرق الأوسط في معهد بروكينز، ورئيس كرسي “جانيت رايت كيتشام 53” لدراسات الشرق الأوسط في كلية سميث. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @SHeydemann
  • كُتِبَ هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى