وراء أكمة النفايات في لبنان أفواهٌ لا تشبع
بقلم إيلي صليبي*
أكاد، لوهلة، أومن بنظريَّة المؤامرة.
وأكاد، لتراكم الفراغ والنُفايات، أصدِّق أنَّ ملء الفراغ بالنفايات من شغل عقول “جهنميَّة”.
وأكاد، لتزاحم الألغاز، أسلِّم بإستحالة ترميم الجمهورية المتهاوية، المتداعية، الساقطة حكماً.
وأكاد، اتّهم، بعشوائيَّة مضطربة، أهل الحكم بتركيب خديعة الروائح الكريهة، والأمراض المتنقلة، للتغطية على روائح تعفُّن جثثهم الهائمة بحبِّ المال، وجراثيم تدوُّد نفوسهم العاشقة الفساد.
وأكاد، أتقيَّأ الوطن، بعفويَّة الكاره العيشَ غير الكريم، وقد أُبليت بإنتمائي إلى أرض تدفن موتاها فوق ترابها، وشعب يشتم الزعماء ويستشهد عند أبوابهم.
وأكاد، لفرط إدماني على الكتابة، أغرس رأس قلمي في قمامة محبرتي، وأدلق “نورها الأسود” على النشيد الوطني، وأستقيل من وظيفة الفكر، وأعتزل ثقافة الحياة، وأتسلَّق جبال الزِّبالة لأصيح كمثل ديكة الخطاب السياسي الملوَّث بسباب مكتوم، وبدبدبة مشبوهة نحو إعلان الإستقلال عن الدولة، والتفلُّت من شرائع الآخرة بالإنغماس في محاكمة الدنيا، وكأنِّي بهم يلقون اللَّوم، بعضهم على بعض، لأسباب تختصُّ بفوارق العبادات، وهم لا يعبدون إلَّا صنميَّة واحدة وهي الذَّات.
هم يكدّسون الأوراق النقديَّة، ونحن نكدِّس النفايات، لا لشيء إلَّا لأنَّنا لا نستطيع أن نأكلها.
هم يهرِّبون الحلول الجاهزة وراء أكمات الزِّبالة، ونحن نهرب من الثورة التي تبدأ بالنقمة وتنتهي بحرب الأنبياء.
هم الغالبون الوهميُّون في معاركهم الخاسرة، ونحن المغلوبون على أمرهم في معاركنا المؤجَّلة جيلًا بعد جيل.
سامحوني يا أولادي… لأنَّني صدَّقت الوطن ــــ الكذبة.
لأنَّني صدَّقت الشعارات الوطنيَّة، والقوميَّة، وأدَّيت التحيَّة للعلم.
لأنَّني توهَّمت الوطن أغنية.
لأنَّني حسبت الوطن خيمة.
لأنَّني تخيَّلت الوطن صوت “فيروز”.
لأنني لم أعِ أنَّ الوطن حيث يكون المواطن.
وحيث يكون للمواطن صوت، وكرامة.
وحيث لا تنبح القافلة والكلاب تمشي.
سامحوني يا أولادي… لأنَّني لم أنضمَّ بكم إلى “الجامعة اللبنانيَّة الثقافيَّة في العالم”، وبقيت متشبِّثًا بعناد بمسقط رأسي حتى جاء اليوم الذي طمرت فيه رأسي نفايات “سوكلين” ومطامر آل العوائل التي تعيش وتقتات من زبالة الشعب، وتجمع أهراءات الثروة والنفوذ من بقايانا، وفضلات أسيادها في الخارج منذ الإستقلال إلى الإستقلال بالدولة عنَّا وعن الدولة.
وآخجلتي منكم يا أولادي… لأنَّكم ولدتم في أرض مقدَّسة تدوسها نعال شياطين السياسة، وإستبقيتكم في بلد ينحر فيه الأخ عنق أخيه لينصر الغريب، ويستباح في جروده الدَّم باسم الله الرحمن الرحيم، وتحاصر فيه النفايات المدن والدساكر، في إنتظار “الصفقة”، وتعلو فيه الأصوات تطالب بحصص من قالب جُبن قرضته الفئران، وبحقوق الطوائف التي إنقرضت “من زمان”.
أمامكم يا أولادي، بعد، فرصة.
فرصة للمَّ النفايات من الشوارع، ووضعها أمام عتبات الزعماء، وإن أطلَّوا لجبهكم سدُّوا بها أفواههم التي لا يسكتها إلَّا أكل أرغفة الفقراء.
• إيلي صليبي أديب، وكاتب، وإعلامي لبناني، والمدير العام السابق للأخبار في المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)
• كُتِب هذا المقال في 31 تموز (يوليو) في عز أزمة النفايات في لبنان