نظام السيسي يشتري الإستقرار بتدمير “الإخوان المسلمين”

على الرغم من الأزمات المتلاحقة التي تهب على مصر، الأمنية منها والإقتصادية والإجتماعية، فإن سياسة الرئيس عبد الفتاح السيسي المركّزة على مكافحة جماعة “الإخوان المسلمين” قد إشترت له بعض الوقت والإستقرار لكي يبحث عن حلول لمشاكل البلاد. ولكن هل ستنفع هذه الإستراتيجية في المدى الطويل وبالتالي ما هي تداعياتها؟

الرئيس عبد الفتاح السيسي: نظامه مستمر
الرئيس عبد الفتاح السيسي: نظامه مستمر

القاهرة – هدى أحمد

يُجمع أهل الخبرة والمتابعون بأن العامين الفائتين كانا من الأعوام الأكثر عنفاً وقمعاً في تاريخ مصر المعاصر. منذ أن إستجاب الجيش المصري للإحتجاجات الحاشدة قبل الإطاحة بالرئيس المنتخب لأول مرة في البلاد، محمد مرسي، في تموز (يوليو) 2013، قُتل على الأقل 1800 مدني و700 من رجال الأمن، وسُجن عشرات الآلاف من الناس، وتم التشديد ووضع القيود على وسائل الإعلام، والمجتمع المدني، والنشاط الإحتجاجي. ويبدو أن هذه القصة المؤسفة قد تدهورت أكثر. بعد إغتيال النائب العام المصري هشام بركات في 29 حزيران (يونيو) الذي أُغتيل في حي مصر الجديدة (شمال شرق القاهرة) بتفجير عبوة ناسفة عن بُعد، حمّل الرئيس عبد الفتاح السيسي مسؤولية الحادث لجماعة “لإخوان المسلمين” وتعهّد بشن حملة عليها أقسى من أي وقت مضى، بما في ذلك سن قوانين أكثر صرامة لضمان أن أفراد “الإخوان المسلمين” الذين ينتظرون تنفيذ حكم الإعدام يتم تنفيذه عاجلاً. رداً على ذلك، أيّد الإخوان من جهتهم التصاعد المفاجئ في الهجمات على البنية التحتية، بما في ذلك أبراج الكهرباء. كما أن الجهاديين الذين بايعوا تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضا ب”داعش”) بدأوا جولة جديدة من الهجمات، بما في ذلك تفجيرات الأول من تموز (يوليو) في شمال سيناء التي قتل من جرائها العشرات من الجنود، والهجوم الأخير على القنصلية الإيطالية في القاهرة.
لكن على الرغم من هذه النظرة الأمنية القاتمة، فإن مصر حالياً هي أكثر إستقراراً من الناحية السياسية مما كانت عليه في السنوات الماضية. على عكس الأنظمة المُنقسمة التي إنهارت في مواجهة الإحتجاجات الواسعة في كانون الثاني (يناير) 2011 وحزيران (يونيو) 2013، فإن نظام السيسي موحّد داخلياً. ومن المتوقع والمرجح بأن تبقى مؤسسات الدولة والجماعات المدنية المختلفة التي تشكّل النظام متراصّة بإحكام لسبب أساسي واحد: إنها تعتبر بأن جماعة “الإخوان المسلمين” تشكّل تهديداً كبيراً على مصالحها، وبالتالي ترى أن حملة النظام على التنظيم الإسلامي أمر ضروري لبقائها. وعلاوة على ذلك، وكما يرى العديد، وربما الغالبية، من المصريين أن الوحدة الداخلية لنظام السيسي هي الشيء الوحيد الذي منع البلاد من الإنزلاق إلى حالة إنعدام النظام والفوضى التي إجتاحت بلدان “الربيع العربي” الأخرى، وإنهم بالتالي يفضّلون بشدة ما يعتبرونه نظاماً قمعياً وغير كفؤ إلى حد ما على البديل الأسوأ بكثير. لذا حتى لو أصبح الأمن الداخلي في مصر أكثر توتراً فإن الوضع الراهن سوف يستمر ويبقى كما هو، لأن تغيير النظام من المستبعد جداً أن يحدث في المدى القريب.
للتأكيد، إن دوام نظام السيسي بالكاد يعني أن الرئيس السيسي نفسه هو دائم وسيستمر. إذا كان أي شيء، فهو يواجه خطراً كبيراً من عمليات إغتيال. يتحدث المصريون عن ذلك علناً وبصراحة ويفيدون بأن السيسي تطرق إلى هذه المسألة خلال مقابلة أجريت معه قبل إنتخابه في العام الماضي، حيث إعترف بمحاولتين لإغتياله في الأشهر التي تلت الإطاحة بمرسي. هذا التهديد لم يتبدّد: إن “الإخوان المسلمين” يدعون علناً إلى قتل السيسي، والمجموعة الجهادية “أجناد مصر” زرعت قنابل خارج قصر الرئاسة في حزيران (يونيو) الماضي، بعد أسابيع فقط على تسلم السيسي سدة الرئاسة. وبالتالي فإن الرئيس المصري ينام في مكان سري لا يُكشف عنه – وهذا نقض حاد للبروتوكول الذي إتبعه الرؤساء الذين سبقوه حيث كانت أماكن إقامتهم محمية بشكل جيد ولم تكن من أسرار الدولة.
مع ذلك، فإن بقاء النظام لا يعتمد على طول عمر السيسي. فعلى الرغم من أن النظام غالباً ما يقدّمه رئيساً “قوياً” كعبد الناصر، فإن الأمر يكون أكثر دقة إذا فكّرنا به بأنه الرئيس التنفيذي لإئتلاف فضفاض من المؤسسات وجماعات المصالح التي دعمت إطاحة مرسي في العام 2013، ودعمت ترشيح السيسي للإنتخابات الرئاسية في العام 2014، وبالتالي فهي تشكّل الآن نظامه. ويشمل هذا التحالف هيئات الدولة مثل الجيش والمخابرات والشرطة والقضاء، وكذلك الكيانات غير الحكومية التي تشكل زوائد الدولة في الريف، مثل العشائر القوية في دلتا النيل والقبائل في صعيد مصر. كما تلقى النظام دعماً حاسماً من مجتمع الأعمال، ووسائل الإعلام الخاصة التي كانت مؤثرة بشكل خاص في حشد الجماهير ضد مرسي قبل عامين. وعلى الرغم من حالة عدم اليقين السياسي والعنف الشديد اللذين أعقبا الإطاحة بمرسي، فقد بقيت مراكز السلطة هذه موحَّدة معاً لأكثر من عامين حتى الآن لسبب رئيسي واحد: إنهم يشتركون في مصلحة تكمن في تدمير جماعة “الإخوان المسلمين”، التي هددت بشكل كبير مصالحهم في أثناء حكم مرسي الذي دام 369 يوماً.

كيف تربح الأعداء وتنفّر الناس

الواقع أن المدافعين عن ا”لإخوان المسلمين” غالباً ما يصوّرون الجماعة بأنها “تدريجية”، بمعنى أنها تسعى إلى تطبيق وتنفيذ “أجندة” إسلامية من خلال السياسة الرسمية، على عكس الجماعات الإرهابية مثل “داعش” وتنظيم “القاعدة”. ولكن لم يكن هناك شيء تدريجي حول محاولة الإخوان إتباع أسلوب المواجهة بدلاً من المشاركة أو التعاون مع مراكز السلطة التي فازت بعد مرسي في الإنتخابات الرئاسية في العام 2012. لقد سعى مرسي إلى تقويض السلطة القضائية من خلال مرسوم أصدره في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012 والذي جعل ووضَع مراسيمه الخاصة فوق التدقيق القضائي، وحاول مجلس الشورى الذي يهيمن عليه الإخوان تحويل أكثر من 3،000 قاض إلى التقاعد من خلال تشريع جديد. بالإضافة إلى ذلك، إستخدم التنظيم الإسلامي تأثيره في عملية صياغة الدستور في أواخر العام 2012 لحظر جميع البرلمانيين الذين ينتمون الى حزب الرئيس السابق حسني مبارك من المشاركة في الانتخابات لمدة عشر سنين، والذي يستبعد فعلياً العشائر والقبائل الريفية التي تشكّل مراكز قوة كبرى في الريف، والتي غالباً ما خدم قادتها في البرلمان في عهد مبارك. كما حاول الإخوان بالمثل تهميش مجتمع الأعمال من خلال إنشاء منظمة أعمال خاصة بهم، التي رافق قادتها مرسي في رحلاته الرئاسية الخارجية.
في الوقت عينه، فيما تزايدت إنتقادات وسائل الاعلام من الحكم الإستبدادي وغير الكفؤ الذي يمارسه مرسي في أوائل العام 2013، قام مؤيدو جماعة “الإخوان المسلمين” بحمل ملصقات لبعض مذيعي ومقدمي البرامج التلفزيونية مع مشانق حول أعناقهم خلال تجمعاتهم، متعهدين ب”تطهير” وسائل الإعلام. وعلى المنوال عينه، أدت دعوة قادة الإخوان إلى “إعادة هيكلة وإصلاح “وزارة الداخلية إلى إستياء داخل أجهزة الشرطة المصرية، ومشاركة ضباط كثيرين من القيادة بزيهم الرسمي في الإنتفاضة ضد مرسي. وعلى الرغم من أن هذا الأخير حاول أن يرضي الجيش من خلال إحترام إستقلاليته بالنسبة إلى الأمور الأمنية الوطنية وشؤونه الداخلية، فقد قوّض هذا الترتيب من خلال تصريحاته العدوانية بالنسبة إلى السياسة الخارجية خلال الشهر الأخير في منصبه. في الواقع، من وجهة نظر الجنرالات، لقد إغتصب مرسي المسؤوليات الأمنية الوطنية الخاصة بالجيش عندما أعلن أن “كل الخيارات مفتوحة” ضد بناء أثيوبيا لسدّ على نهر النيل ثم أيّد الجهاد السوري في إجتماع حاشد في ملعب القاهرة جنباً إلى جنب مع مجموعة من رجال الدين السلفيين الراديكاليين في منتصف حزيران (يونيو) 2013.
بطبيعة الحال، فإن المواءمة بين هذه المؤسسات والمصالح ليست جديدة: إنها تعود إلى أيام الرئيس مبارك. ولكنها لم تكن أبداً قريبة إلى هذا الحد كما الآن. في عهد مبارك، على سبيل المثال، كان الجيش يعتبر وزارة الداخلية منافساً، ولهذا السبب وقف كبار الضباط قي قيادته بشكل فعّال على الحياد فيما إنهارت الشرطة خلال الأيام الأولى لإنتفاضة 2011. وبالمثل، فإن بعض وسائل الإعلام الخاص الأكثر شعبية نشر إنتهاكات الشرطة في عهد مبارك وكان من أشد منتقدي المجلس العسكري الذي حكم مصر لمدة 16 شهراً بعد الإطاحة بمبارك. وكانت هناك أيضاً إنقسامات داخل مراكز السلطة هذه، مثل الخلاف بين الضباط المتقدّمين في السن في القيادة العسكرية والضباط الأصغر سناً الذي عالجه مرسي في آب (أغسطس) 2012، عندما أقال كبار الجنرالات وعيَّن السيسي وزيراً للدفاع.
بطبيعة الحال لم تتبدّد التوترات داخل النظام تماماً. وكما أشار مايكل حنا من “سانتشوري فاوندايشن” في تقرير حديث، إن الأحاديث الهاتفية المُسرَّبة لكبار المسؤولين العسكريين، وإنتقادات وسائل الاعلام المتصاعدة لوزارة الداخلية، والكراهية المفتوحة في المؤسسة الأمنية تجاه جنرال سلاح الجو السابق والمرشح الرئاسي أحمد شفيق كلها كانت علامات على إنقسام النخبة. ولكن في كل حالة من الحالات حتى الآن، فإن التوتر قد تبدد بسرعة، لأن المكوّنات المختلفة للنظام هي أكثر توحّداً في نهاية المطاف بالنسبة إلى رغبتها في تدمير جماعة “الإخوان المسلمين” التي هي أهم من أي تقسيم في أي شيء آخر.
ويقول بعض المتابعين بأنه إذا لم يقوموا بتدميرها، فإنهم يخشون أن تعود جماعة الإخوان إلى الظهور مجدداً حيث ستسعى بالتالي الى الثأر لمئات عدة من “الإخوان المسلمين” الذين قتلوا خلال العامين الماضيين، والذي هو على وجه التحديد ما تعهدت به الجماعة القيام به. في الواقع، كما أعلن العديد من قادة الإخوان منذ الإنقلاب، تسعى الجماعة إلى عملية تحقيق، ومحاولة، وربما قتل أولئك الذين شاركوا في حملة مكافحة الإخوان من النظام الحالي. لذا بالنسبة إلى مراكز القوى المكوِّنة للنظام، فإن نجاح حملة مكافحة ومواجهة الإخوان هو مسألة حياة أو موت.

يوحّدهم الخوف والبغض

ونتيجة لتركيز تفكير النظام الأحادي على “الإخوان المسلمين”، فإن لدى السيسي الكثير من المرونة لإصدار المراسيم وتعزيز صلاحياته القانونية أكثر من التي كان يتمتع بها مرسي. إن إصدار السيسي الأخير لقانون يخوّله إقالة وعزل رؤساء أربع وكالات تنظيمية مستقلة في مصر هو نقطة في هذا المجال. ومع أن محاولات مرسي توسيع سلطته والحصول على سلطات إضافية قد أشعلت إحتجاجات أدت إلى إنهاء نظامه، فإن مناورة السيسي قد مرت بسلام من دون حتى زقزقة عصفور.
الواقع أن هناك سبباً كافياً للشك في أن نظاماً هدفه الأساسي هو تدمير الإخوان يمكنه النجاح في الحكم. بعد كل شيء، إن نظاماً أنفق الكثير من رأسماله السياسي للقضاء على منظمة واحدة لا يمكنه أبداً أن يكون شاملاً سياسياً. علاوة على ذلك، إن إصرار النظام على أن “الإخوان المسلمين” هم وراء كل حادث إرهابي، بما في ذلك الهجمات الشديدة التي أعلنت مجموعة تابعة ل”داعش” مسؤوليتها عنها، يعني أنه لا يرى بعد التهديدات الحقيقية التي تواجهه في الواقع. إن قمع النظام الواسع تحت عنوان مكافحة الإرهاب، الذي وصل إلى النشطاء والصحافيين الذين دعموا بقوة الإطاحة بمرسي، يخلق أعداء جدداً، وربما يزرع بذوراً أكثر لإضطرابات ثورية عنيفة على الطريق.
مع ذلك، بالنسبة إلى الجزء الأكبر، فإن عزم النظام على مواجهة ومكافحة الإخوان لا يزال يؤتي ثماره سياسياً، ومن المرجح أن يظل كذلك لبعض الوقت. محلياً، كثير من المصريين (وربما أكثرهم) يستمرون في إعتبار الإخوان قوة مزعزعة للإستقرار، نظراً إلى حالة عدم اليقين السياسي الكبيرة التي عرفتها البلاد في السنة الصاخبة من حكم مرسي وتأييد “الإخوان المسلمين” للهجمات على البنية التحتية. هؤلاء المصريون ليسوا بالضرورة متحمّسين للسيسي أو من أنصاره، لكنهم يعتبرون أن وحدة نظامه الداخلية هي الشيء الوحيد الذي منع البلاد من الانزلاق الى إنهيار الدولة وإنتشار الفوضى كما حدث في العراق وليبيا وسوريا. يشعر المناضلون الثوريون بأن هذا الجو من الإستقرار الأولي مطلوب ومفهوم جداً ويقولون بأنهم توقّفوا عن الإحتجاج لأنهم يخشون من ردة فعل شعبية تقريباً بقدر ما يخشون من إعتقالهم. “إذا سار خمسة أشخاص وهتفوا حول قضية سياسية، فإن الناس سوف يطلقون النار عليهم”، قال ناشط في بورسعيد لأحد الصحافيين الأجانب. لذلك إن موقف نظام السيسي بالنسبة إلى مكافحة وتدمير الإخوان قد قرّب مصر أكثر إلى دول الخليج الغنية، التي ساعدت البلاد على الصمود والوقوف على قدميها من طريق تبرعها بأكثر من 20 مليار دولار منذ إطاحة مرسي.
ولكن، من الجدير ذكره أن سياسة النخبة التي يعتمد إستقرار النظام ويتعلق مصيره عليها غالباً ما تكون مُبهَمة. قلّة، إن وجدت، من المراقبين الخارجيين قد عرفت بالإنقسامات داخل الجيش المصري التي بلغت ذروتها في تعيين السيسي وزيراً للدفاع في آب (أغسطس) 2012، ولا أحد يستطيع أن يعرف ويكون أكيداً ما إذا كان هناك تغيير في قواعد اللعبة من إنقسامات مشابهة تحت السطح الآن. مع ذلك، لا أحد يفهم هذه المخاطر أفضل من المؤسسات والمصالح المكوِّنة للنظام. ولما كانوا جميعاً يعلمون ويخشون من جولة أخرى من تغيير النظام الذي قد يعني موتهم، فإنه من المرجح أن يستمر التركيز على حملة مواجهة ومكافحة الإخوان عاملاً مهماً في توحيدهم، بدلاً من السماح بتصاعد الخلافات الداخلية بعيداً جداً. إن الوضع الراهن في مصر، بعبارة أخرى، هو دائم ومستمر. ولكن إذا إنهار الوضع فجأة، هنا ينبغي الإنتباه: ستتحول بلاد الفراعنة إلى حمام من الدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى